°
, March 29, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

إشكالات ديمقراطية بقلم : . . محمد وقيدي

 

-1-

كانت غايتنا عندما تحدثنا في السابق عن القيم الديمقراطية أن نعمل من خلال ذلك على إبراز القيم الإنسانية التي يسمح بها تأسيس المجتمع على أساس النظام الديمقراطي. وقد كان علينا منهجياً من أجل رصد تلك القيم أن نترك جانباً بعض الجوانب ضمن المجتمع الديمقراطي نفسه، وذلك حتى نتعرف

على القيم التي تبرز الجوانب الإيجابية في النظام الديمقراطي. ولم نكن، ونحن نرصد القيم، غافلين وجود مشكلات تعترض التأسيس الديمقراطي للمجتمع أو تقوم داخل هذا النظام نفسه مرتبطة بطريقة تنفيذ مقتضياته وشروط ذلك التنفيذ. وهذه الإشكالات هي ما نخصص له دراستنا الحالية. وحتى يكون موضوعنا، كما نريد له، متكاملاً مع دراستنا السابقة للقيم، فأن تفكيرنا في الإشكالات الديمقراطية سيكون بصفة أساسية من خلال نفس النموذجين اللذين أبرزنا من خلالهما القيم، أي الديمقراطية الفرنسية والديمقراطية في الولايات المتحدة الأمريكية.وكما أضفينا في نهاية دراستنا السابقة النسبية على النتائج التي توصلنا إليها معتبرين أن تحليل الموضوع من خلال نماذج أخرى من شأنه إبراز قيم أخرى، فإننا نضفي منذ بداية هذه الدراسة النسبية على النتائج التي سنتوصل إليها واعين بأن تحليل نماذج أخرى من شأنه إبراز مشكلات جديدة اعترضت الديمقراطية أو عاقت مسارها الطبيعي في بعض المجتمعات.

-2-

يمكن لملاحظ خارجي، مثلما هو حالنا، أن يضع تساؤلات نقدية على المسار الديمقراطي الفرنسي أو الأمريكي منطلقاً في ذلك من سياسة البلدين الخارجية ومن مساهمتهما في الإخلال بالتوازن العالمي عبر الهيمنة التي مارساها على بلدان أخرى في الفترة الاستعمارية المباشرة أو في أشكال الهيمنة فير المباشرة بعد نهاية الحربين العالمتين. ويستطيع الباحث في هذه الحالة أن يركز على التعارض بين ما يرتكز عليه المجتمع الديمقراطي من قيم وبين التوجهات الهيمنية. لكننا نفضل البداية بالمشكلات التي بدت على المسار الديمقراطي من داخله، لنعود في مرحلة لاحقة إلى ذلك التعارض.

من أهم المشكلات التي تنتقد بها الديمقراطية كنظام سياسي أنها تؤدي، وخاصة في الفترات الانتخابية، إلى انشطار المجتمع إلى اتجاهين متعارضين فيه. نلاحظ الظاهرة في المجتمع الفرنسي الذي الانشطار فيه بعد الثورة الفرنسية مباشرة إلى قوى محافظة( اليمين) وأخرى تنادي بالتقدم (اليسار)، وذلك بكيفية تكاد تكون متعادلة من حيث الكم ومن حيث تأثيرهما على مسار البلاد، بصفة عامة، وعلى تطور الديمقراطية فيها بصفة خاصة. وقد لاحظ عالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت ،Auguste Comteمنذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، وجود أزمة في المجتمع الفرنسي مظهرها الصراع بين فكرتي التقدم والنظام اللتين لم بصل المجتمع في ذلك الوقت إلى الشروط التي تجعله مهيئا للتأليف بينهما. وكان كونت يرى أن التأليف بين فكرتي النظام والتقدم هو المطلب الأساسي للسير بالمجتمع في إطار تطور طبيعي له. فلا يمكن لأي نظام حقيقي أن يقوم، ويضمن لذاته الدوام، إن لم يكن متوافقاً مع التقدم، كما أنه لا يمكن أن يتحقق بالفعل أي تقدم كبير إن لم يكن ينزع إلى تدعيم النظام.(1) ومن هذا المنظور ينتقد كونت الحالة التي كان عليها المجتمع منذ قيام الثورة الفرنسية(1789) إلى حين كتابة دروسه في الفلسفة الوضعية(1830)، إذ رأى أن الثورة لم تستطع حتى ذلك الوقت أن تجد التآلف بين فكرة التقدم التي كانت تحملها وبين فكرة النظام. نقرأ لكونت:‹‹ لازالت الحالة الحاضرة للعالم السياسي بعيدة عن ذلك التأليف النهائي الذي لا غنى عنه. ذلك أن الآفة الأساسية لوضعيتنا المجتمعية تقوم، على العكس من ذلك، في كون أفكار التقدم وأفكار النظام توجد منعزلة عن بعضها وتبدو كما لو كانت متعارضة بالضرورة.››(2) وقد حاول كونت تفسير عدم التآلف بين الفكرتين بالتعارض الموجود في واقع المجتمع بين فئتين تحمل إحداهما، وهي الثورية، فكرة التقدم، بينما تحمل ثانيتهما، وهي المحافظة، فكرة النظام. ومن وجهة نظر كونت، فإن القوى المحافظة كانت رجعية، بينما كانت القوى الثورية فوضوية. كانت القوى المحافظة تمثل استمرارية للعهد الإقطاعي وتريد فرض القوانين القديمة على المجتمع الجديد، فتبنت فكرة النظام ضد فكرة التقدم. أما القوى الثورية في المجتمع، فإنها تبنت فكرة التقدم مع أن هذه الفكرة امتزجت لديها بنوع من رؤية فوضوية عن المجتمع، وهو ماجعلها عاجزة عن تحقيق النظام في المجتمع.

كانت غايتنا من الاستناد إلى وجهة نظر كونت هي إبراز أن مسألة انشطار المجتمع الفرنسي إلى فئتين متعادلتين تقريبا تعود إلى زمن بعيد، وهي مستمرة إلى اليوم. يتميز المجتمع الفرنسي الحالي بانقسام يكاد يكون متعادلاً إلى يمين ويسار. يمثل اليمين القوى المحافظة في المجتمع، علماً بأن هناك اختلافات نسبية بين الأحزاب التي يشملها ذلك اليمين. ويمثل اليسار مجموع القوى التي تطالب بالتغيير الذي يضمن تقدم المجتمع نحو حالة تقسيم عادل للثروة والسلطات وضمان تطبيق لمبادئ الثورة الفرنسية: الحرية والمساواة والإخاء.

مع متابعة المبادئ الديمقراطية في تنظيم المجتمع وفي تحديد من يكون في مواقع المسئولية، فإن انقسام المجتمع إلى طرفين متعادلين من حيث تأثيرهما على مسار الحياة المجتمعية أدى إلى بعض الظواهر التي يمكن النظر إليها من زاويتين مختلفتين. فمن جهة أولى، يتبين أن المجتمع الفرنسي لم يفوض السلطة فيه بصفة مطلقة لأية جهة كانت. لقد أدت الانتخابات في أكثر من حالة إلى تقاسم السلطة في مستوياتها المتعددة بين طرفين مختلفين: اليمين واليسار في نفس الوقت. وهناك حالات برز فيها هذا الأمر بوضوح. فقد أكمل الرئيس الاشتراكي فرانسوا ميتران F. Mitterrandسنوات من حكمه إلى جانب وزير أول من اليمين هو جاك شيراكJ.Chirac، وهو ما يعني حسب الاختصاصات المنسوبة لرئيس الجمهورية وللوزير الأول تقاسم السلطة بين طرفين يمثلان اتجاهين سياسيين مختلفين. إنه نوع من تشارك السلطة وفقاً للنتائج الديمقراطية للانتخابات. وعادت نفس الظاهرة في عهد الرئيس اليميني شيراك، الذي لم يكمل سنوات حكمه إلا في إطار تشارك مع وزير أول اشتراكي هوليونيل جوسبان .L.Jospinويدفع هذا التشارك في السلطة إلى الحذر من كل شطط في استخدامها وأخذ تردد صوت الناخب الفرنسي بعين الاعتبار. لن ندرس هذا التردد كمسألة نفسية مجتمعية، ولكننا نهتم في الوقت الحاضر بعواقبه على مسار الديمقراطية في المجتمع.

حين دفع الناخب الفرنسي الفاعلين السياسيين إلى التشارك في السلطة رغم اختلاف توجهاتهم، فهذا أمر إيجابي من حيث إنه يدفع الجميع إلى الوعي بحدود سلطته أمام مُصدرها الذي هو الشعب، ثم من حيث إنه يضع الكفاءات المختلفة التي يكون عليها من موقع السلطة أن تبحث عن السياسات التي تخدم تنمية المجتمع. ولكن، لذلك الانشطار من ناحية أخرى عواقب قد تعوق المسار المجتمعي والسياسي.

يبدو نفس الوضع غير ملائم من جهة أخرى، من حيث إنه لا يمكن الطرفين المتشاركين في السلطة رغم تعارض سياستهما وتصوراتهما عن تنمية المجتمع من تنفيذ الخطط التي يكون كل طرف قد وضعها . يكون التعارض قي التوجه السياسي بين رئيس الدولة وبين الوزير الأول في بعض مظاهره عائقاً أما وتيرة تنفيذ المشاريع المقترحة من الطرفين. ولذلك، فإن حالة التعايش التي عرفها المجتمع الفرنسي بوضوح في مرتين اشرنا إليهما دالة على الديمقراطية، من جهة، ومساعدة على وضعها موضع السؤال من جهة أخرى.

ما نسجله هو أن ظاهرة انشطار المجتمع إلى توجهين كبيرين يهيمنان على الحياة السياسية لم يمنع ، مع ذلك، من تطوير الديمقراطية لأن الانشطار كان مؤطراً بالاختيار الديمقراطي الراسخ لدى كل القوى الفاعلة في الحياة السياسية وتوافقها على أنه لا رجوع بالنسبة للمجتمع عن ذلك الاختيار. فالتنافس والصراع السياسيان أصبحا يجريان ضمن الاختيار الديمقراطي، وليس خارجه أو ضد تطوره. وهذا التطور هو الجواب الفعلي على النقد الخارجي للتنظيم الديمقراطي باعتباره تنظيما يجعل المجتمع منقسماً. الانقسام مظهر طبيعي في النظام الديمقراطي لأن هذا النظام قائم أساساً على التعدد السياسي. ولذلك اعتبرناه إشكالاً ديمقراطياً، أي محايثاً للنظام، وليس إشكالاً يضع ذلك النظام بكامله موضوعاَ لسؤال. الديمقراطية هي أفضل الممكنات التي ظهرت حتى الآن في النظام المجتمعي، ولكنها إمكان لا يخلو من مشكلات تظهر بداخله.

لاحظنا، خارج ما سلف ذكره، محاولات أخرى لتجاوز الانقسام المتكافئ الذي أشرنا إليه للمجتمع الفرنسي. من هذه المحاولات نذكر العمل من أجل تأسيس وسط سياسي يتقاسم التأثير في المجتمع إلى جانب اليمين واليسار السياسيين. ظهر هذا الاتجاه في الانتخابات الرئاسية الفرنسية سنة2007 لدى السيد فرانسوا بايروF.Bayrou، وكانت وجهة نظره أنه قد آن الأوان للخروج من الحلقة المفرغة التي تجعل الصراع السياسي خول مواقع السلطة منحصراً بين يسار ويمين. وفي نظره، فإن فرنسا لم تعد في حاجة إلى البقاء دائماً ضمن القيم التي يدعو إليها اليمين أو التي يدعو إليها اليسار متمثلاً بصفة خاصة في الحزب الاشتراكي. لابد، إذن، من العمل على تأسيس قيم جديدة تستند إلى تيار وسط يكون قادراً على أن يقول نعم ولا في نفس الوقت وحسب تصوره لمصلحة المجتمع،أي أن هناك أساسا جديدا للتصويت وللتأييد والامتناع عن ذلك، وهذا في حد ذاته قيمة جديدة.(4) وليس من شأن دراستنا هذه البحث في نجاح هذا الاتجاه أو عدم نجاحه. لكن الموقع الذي أخذه بايرو ضمن الانتخابات الرئاسية يؤشر إلى تطورات ممكنة قادمة في تشكل المجتمع الفرنسي.

-3-

كل نقد للنظام الديمقراطي بكونه يقود إلى انشطار المجتمع إلى قوى متصارعة حول السيادة وبلوغ موقع السلطة يتضمن خلطاً بين الانشطار الذي له عواقب وخيمة على المجتمع، وبين التعدد السياسي المطلوب من أجل صيرورة طبيعية للحياة المجتمعية وضمنها الحياة السياسية بصفة خاصة. يظهر التعدد السياسي بوصفه قيمة ديمقراطية، لأن وجوده الحق لا يكون إلا داخل هذا النظام المجتمعي. أما النظام المجتمعي الذي يخيب عنه التعدد السياسي، فإنه يكون من طبيعة استبدادية تهيمن فيه فئة، بل وشخصية سياسية على الحياة المجتمعية. التعدد السياسي أفضل الممكنات التي يمكن أن يعيش في ظلها مجتمع ويتعايش فيه الناس رغم اختلاف تصوراتهم وتوجهاتهم الفكرية. نرى في التعدد السياسي في كل مجتمع وفي جميع حالاته الممكنة معياراً على وضعية الديمقراطية في ذلك المجتمع: يرمز التعدد السياسي في وجوده وعدمه، وفي ضعفه أو قوته على مدى تقدم المجتمع أو تخلفه في تشكيل ذاته على أساس ديمقراطي. وانطبق هذا المعيار على المجتمعات الإنسانية في كل جهة من العالم.

نعود إلى التعبير عن اتجاه تحليلنا، كما انطلقنا منه منذ البداية: حيث إننا لا نذهب مع الانتقاد القائل بأن الديمقراطية تقود نحو انشطار للمجتمع، فإننا نرى أم انقسام المجتمع إلى اتجاهات سياسية تعبر عنها أحزاب ليس انشطاراً مُخلاً بتطور المجتمع، بل تعددا يخلق حركية داخل المجتمع ضمن سيره الطبيعي الذي يضمن حقوق الناس في التعبير عن تصوراتهم وآرائهم حول القضايا المطروحة على المجتمع في جميع مستويات الحياة المجتمعية. وقد تابعنا ضمن هذا المنظور تجربة ديمقراطية

أوربية هي التجربة الفرنسية، ونقترح بعد ذلك النظر من نفس المنظور إلى تجربة في أمريكا هي التي عاشتها منذ تأسيسها الولايات المتحدة الأمريكية.

تقاسم السيادة على الحياة السياسية في الولايات المتحدة الأمريكية حزبان هما الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري اللذين كانت نشأتهما بعد تحرر الولايات المتحدة من السيادة البريطانية وتأسيسها كدولة مستقلة مؤسسة من عدد من الولايات التي أعلنت اتحادها في شكل فيدرالي تحكمه سلطة مركزية إلى جانب السلطات المحلية لكل ولاية. تطورت الديمقراطية في الولايات المتحدة عبر الصراع بين هذين الحزبين.

نشأت في الولايات المتحدة الأمريكية أحزاب أخرى ذات توجهات ليبرالية واشتراكية وشيوعية أو مرتبطة بقضايا البيئة أو محدودة في حدود بعض الولايات، ولكن أياً من هذه الأحزاب لم يستطع فرض نفسه كقوة معادلة للحزبين الرئيسيين: الجمهوري والديمقراطي. وقد رأينا أنه كانت هناك محاولة جدية في فرنسا لخلق تيار سياسي وسط بين اليمين واليسار اللذين تقاسما السيادة في السياسة الفرنسية. وحيث لم تنجح الأحزاب الأخرى في الولايات المتحدة الأمريكية في تأسيس تيار وسط، فإن هذا الأمر يشجع على انتقاد السياسة في ذلك البلد بكونها تعبيراً عن انشطار المجتمع. ثم إن عدم النجاح في تشكيل طرف ثالث قوي مثل الطرفين الآخرين من شأنه أن يقود إلى الشعور بأن الحياة السياسية التي ارتكزت علة ما يزيد عن قرن ونصف بين تيارين ظلا مهيمنين تصبح فاقدة للحركية وتوحي بالركود. وفضلا عن هذا، فإن تقارب السياستين الجمهورية والديمقراطية في عدد من المظاهر، وخاصة ما يتعلق بالسياسة الخارجية والعلاقات مع البلدان والجهات المختلفة من العالم. تبدو التعددية في الولايات المتحدة الأمريكية بالنسبة للملاحظ الخارجي غير كافية لخلق حركية ديمقراطية في المجتمع. تحيل هيمنة حزبين على الحياة السياسة في البلاد التعددية إلى ثنائية، وهي أمر يدعو إلى طرح التعددية موضع سؤال مثلما يكون ذلك بالنسبة لتعددية تزيد عن الحد بالقدر الذي تصبح يه فاقدة للتمثيلية الواجبة للتصورات حول المجتمع وحول سياساته الداخلية والخارجية على السواء.تبدو الديمقراطية في هذه الحالة، حتي في أرقى نماذجها في حاجة إلى تطوير.

-4-

نعتنا الإشكالات التي نعرضها في هذه الدراسة بالديمقراطية لكونها تقع داخل صيرورة الاختيار الديمقراطي، أي أنها ليست عوامل خارجية بالنسبة لذلك الاختيار تعوق تطوره من خارجه، يل هي مظاهر داخلية له تبرز أن هذا الاختيار لا يكون صيرورة بدون إشكالات. ولا يعني عرضنا لهذه الإشكالات ابتعاداً عن الاختيار الديمقراطي. هذا هو الإطار التصوري الذي نريد أن نتحدث ضمنه عن إشكال علاقة الديمقراطية بالمعيار الانتخابي.

هناك نقد ممكن للديمقراطية من حيث هي اختيار يرتبط في الحياة المجتمعية-السياسية بالمعيار الانتخابي. فالحكم على مجتمع ما بكونه ديمقراطيا يتم بالاستناد إلى ندى بناء حياته السياسية على الانتخاب: انتخاب حكامه، وممثليه في المجالس النيابية والاستشارية، وكذلك في المجالس الجهوية والمحلية. الشعب يمارس اهتمامه بشؤونه العامة بالإنابة عنه بوسيلة هي الانتخاب. وقد ذكر جان جاك روسو، منذ القرن الثامن عشر وهو يتحدث عن المجتمع الديمقراطي، وكتابه التعاقد المجتمعي، مبدأ الانتخاب بوصفه أساساً من أسس ذلك المجتمع. غير أن علاقة البناء الديمقراطي للمجتمع تنقلب أحياناً في الممارسة لتصبح الممارسة الانتخابية غاية مطلوبة، وعاملاً يلعب دوراً سلبياً في الصيرورة الديمقراطية للمجتمع. فالمجتمع الذي يبني نظامه السياسي استناد إلى الانتخابات يعود في كل واحدة منها إلى مناقشة شؤونه معتمداً على الحملات الدعائية الانتخابية، ويكون المجتمع في غالب أحواله في حالة استعداد لتلك الحالة. فالسنوات الأربعة أو الخمسة التي تفصل بين انتخابات وأخرى في جميع المستويات الرئاسية والتمثيلية والجهوية والمحلية تعرف صراعات مسبقة للانتخابات حتى قبل أوانها، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن كثير من الخطوات والتحركات والمواقف: هل هي نابعة من التفكير في شؤون المجتمع وتنميته أم هي مجرد دعاية انتخابية؟ يبدو أن هذا الإشكال مرتبط بكيفية صميمية بالانتخابات وبالتنظيم الديمقراطي للمجتمع. وهذا من الإشكالات الداخلية للديمقراطية بصفة عامة التي تحاول مجتمعات كثيرة إيجاد صياغات لتجاوزها.

-5-

لم يكن القصد لدينا في هذه الدراسة أن نستعرض كل الإشكالات الذاتية المحايثة للصيرورة الديمقراطية، علماً منا بأن الكثير من الإشكالات المطروحة على المجتمعات الديمقراطية متعددة وتستحق دراسات منفردة ودقيقة. كان القصد في مقابل ذلك أن نعمق البحث في المجتمع الديمقراطي الذي تحدثنا في السابق عن قيمه، وأن نبرز أن انتقال كل مجتمع نحو السير في طريق الاختيار الديمقراطي لا يجعله بدون مشكلات. فللتنظيم الديمقراطي للمجتمع مشاكله الخاصة بطبيعة صيرورته. لكن الاختيار الديمقراطي يظل، في نظرنا مع ذلك، اختياراً لأفضل الممكنات التي تتيح للحياة المشتركة أن تكون، من حيث هي كذلك، أكثر قابلية للتحمل وللمشاركة فيها من الجميع.

 

المصدر : . . موقع الأوان

 

عن موقع : سؤال التنوير