“….. أبطالنا القدامى ؟ نقتلهم كل يوم فيما نظن أننا نُحييهم , لو أننا نُحييهم لكنّا نقتدي بإبداعهم لا بقبورهم . وطنيتنا ؟ كل شيء يتحول إلى شكلية سياسية . وأكثرنا في هذه الشكلية , شهود سلبيون . نُراقب ونسكت . ركام يتكيء عليه التاريخ , ويجرفه . وفي هذه الشكلية, تبدو أرضنا مفتوحة للغزو
من كل جهة , ويبدو أننا مغلوبون سلفاً . وبدل أن تساعدنا ثرواتنا المادية والبشرية على الانعتاق والخلاص , فإنها تؤدّي , على العكس , إلى تمكين الغزو .
لنتّحد , نحن العقلاء , ولو للحظة , مع الأطفال والمجانين : تكشف لنا التجربة القريبة والبعيدة أن الشعب متقدم على قياداته , وأنا ما يهجس به ويطمح إلى تحقيقه ويفعله يتجاوز ما تهجس به قياداته وتطمح إلى تحقيقه وتفعله . وتُعلّمنا هذه التجربة , إن كنا نُريد بصدق أن نتعلّم , أن الشعب يتحرك في جهة , وأن السلطة تترّك في جهة , وأن هذه السلطة لاتمنع الشعب حق الثورة وحسب , وإنما تمنعه كذلك حقّ العمل وحق الخبز وحقّ العلم وحقّ الكلام . إنها تحاصره في ما يشبه المدار المُغلق : كأن الثورة تبدو مستحيلة في أرض لا ينقذها إلا الثورة .
… ولنفكّر . نحن العقلاء ولو للحظة مع الأطفال والمجانين : لانكون انفسنا إلا إذا رفضنا جذرياً , ما يحول بيننا وبين أن نكون أنفسنا .
هذا هو معنى التحرّر . فلماذا القيام بالأدوار التمثيلية والشعب يريد أن يعيش التحرّر لا أن يُمثّله ؟ وها هو الشعب كله يهجم ويقترب : يُحطّم المسارح كلّها – الدعاية والإعلام . الوعظ والإرشاد , التسويغ والإفتاء والخطب الدورية الموقوتة .
يريد أن يكون نفسه : يُشارك في كل شيء بنفسه , ويُغير كل شيء بنفسه ويُحقّق كل شيء بنفسه . يريد أن يصنع نفسه ويصنع العالم حوله بنفسه .
لنحلم إذن الحلم – العمل : أجيال عربية تخرج من المدار المُغلق , من المعتقلات والمستنقعات , من سياسة الإخضاع والقهر . من اقتصاد النهب والاستغلال. من تربية تتجه إلى الوراء بسرعة الريح . أجيال تنصهر في براكين الغضب والرفض , تزلزل المجتمع بمؤسّساته وتركيباته وقيمه جميعاً . تنشأ في رماد حاضر تقبض عليه لكي تقبض على شعلة المستقبل .
ها هو الشعب كلّه يقترب من حالة ستكون الحياة فيها أكثر هولاً من الموت وحينئذ سيتحوّل العنف . بشتّى أشكاله , إلى خبز يومي . ولن يكون هذا العنف رمزاً للتحرّر من قيوده الخارجية وحسب . وإنما سيكون أيضاً رمزاً للتحرّر من قيوده الداخلية . وها هو اليقين يملأ الشعب كلّه : قد تتأخّر مسيرته , ولكنها لن تتوقّف .
أجيال عربية تتفجّر إعصاراً يعصف , ناراً تتأجج . ربما فجأة : لانعرف متى , ولا نعرف كيف …
+ + +
إتبعوا الملامح , واتركوا ما يحيطبها أو يرافقها من أنقاض , التاريخ يتفتّت في الكتب , لكي يولد في الوجوه ,بين الوجوه , في الأقدام , في الحجر والتراب .
لا نستطيع ان نمحو الكارثة إلا بتجاوزها . فما يخاف منه بعضنا ويتجنّبونه حرصاً منهم على الحياة هو نفسه الذي يُحطِّم حياتهم , بخلاف ما يظنّون ويحرصون , وهو نفسهم الذي يفصلهم عن الحياة . وكيف نقدر أن نُغيّر وضعنا ككل ّ , إذا لم نُغيّر وضعنا كأفراد – نُغيّر أفكارنا وقيمنا وطرق تفكيرنا ؟ إذا لنجابه أولاً ما نخاف منه . ورغم أن هذه المجابهة قد تقودنا إلى الموت , فلا مفر لنا . إذا كنا نريد الحياة حقاً , من أن نجابهه : تلك هي المفارقة التي نعيشها , وفي تجاوز هذه المفارقة , نتجاوز الأمل الكاذب ونُؤسّس الصدق ورجاء المستقبل . نبتعد عن التعزية التي تُموّه وتُسلّي ,ونقترب إلى المصالحة العميقة مع أنفسنا . نتخلّص من السبات الذي يحسبه بعضنا طمأنينة , ومن العَدمية التي يظنّ بعضنا أنها الحكمة , وأنها الصبر الوديع الهاديء .
إذن , لامفرّ لنا من الدخول في الفاجعة وقبولها حتى نهاياتها , لكي نخرج بحياة أغنى ونسترجع وجوهنا الحقيقية . وكل شيء , في هذا الدخول , يتجاوز الفرد : إما أن نتحرك جميعاً , وإما أن تزداد العفونة ويصبح الشلل أكثر تأصلاً .
لا مفرّ لنا
ذلك ان الخطر لا يُغلب إلاّ بالخطر .”
أدونيس من فصل ” بيان للكل لا لأحد ” في كتابه : “فاتحة لنهايات القرن ” الطبعة الثالثة 2010صادر عن دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر . دمشق سوريا .