لم تنفع الصور التي تبثها وسائل إعلام النظام عن الأنشطة الثقافية في العاصمة دمشق، أو في مدينة السويداء، أو مدن الساحل، في تكريس اليقين لدى المتابعين، من أن سوريا التي يسيطر عليها ماتزال بخير ثقافياً.
الصور التي تدأب وكالة سانا على بثها والتي تتركز في المراكز الثقافية، وفي دار الأوبرا، تفضح وبشكل واضح قلة عدد الجمهور الذي يحضرها، ولعل كل المثقفين الذين يتابعون النشرات التي ترسلها المؤسسات الثقافية، والتي تحدد مواعد وأمكنة الأنشطة، سرعان ما يأتيهم بريد أخر يقول بإلغاء هذه الفعالية أو تلك.
لا يمكن لمدن تعيش حالة الخوف والقلق من واقع الحرب، وترضخ لإيقاع القتل والدمار أن تنتج نشاطاً ثقافياً مستمراً، فالقضايا الإجرائية وحدها من نوع موعد النشاط ومكانه قد تتبدل وتلغى في أي لحظة، كما حدث مع أسبوع السينما الإيرانية قبل فترة قصيرة، حيث تم الإلغاء قبل يوم من التاريخ المحدد، كما أن صعوبة الحركة عند حلول المساء قد أجبرت القائمين بالفعل الثقافي على توقيت الأمر ضمن مساحة النهار، ولهذا فإنك تجد الكثير من الفعاليات تتم في أوقات الدوام الرسمية!
نتحدث هنا عن التفاصيل العملية التي يعيشها المثقفون الذين بقوا في سوريا، ولكننا سنتجاهل طبيعة ومستوى الأنشطة ذاتها، لأننا بالتأكيد لم نتابعها، وإن كنا ندرك أن تشظي الجسد الثقافي وتبعثره في منافي السوريين المتعددة، قد أودى بالمستوى، فلم يعد أحدٌ يسأل عن مستوى النوع، بل بات في عرف الباقين أن مجرد القيام بالنشاط إنما هو فعل صمود يجب تمجيده.
وفي الجهة الأخرى، ونقصد أنشطة المثقفين السوريين في منافيهم، فإنه من الطبيعي ألا نلحظ وجود تظاهرات مستدامة، بل أنشطة متفرقة تكرسها حركية المثقفين في البيئات التي يعيشون فيها، ففي استانبول على سبيل المثال، يخضع الفعل الثقافي لترتيب بيوت ثقافية غير ذات برمجة واضحة، بل مرتبطة بزيارات المثقفين المتفرقين للمدينة، وعلى هذا المنوال تجري الأنشطة في العواصم والمدن الأخرى.
وكما تغيب معايير تقييم الأنشطة في الداخل، تغيب في الخارج، إذ يصبح اجتماع المثقفين المنفيين هو أهم ما يمكن أن يحدث في السياق. مع اسقاطنا من الحسابات طبعاً كل المنتجات الثقافية الشعبوية، التحريضية، الخطابية، الإنشائية، السائدة كثيراً في الداخل والخارج، لدى النظام والمعارضة، في هذه المرحلة.
بالتأكيد، ثمة منتجات ثقافية مهمة، تتم صناعتها بشكل إفرادي هنا وهناك، ولكن تسويق هذه المنتجات يخضع لآليات إفرادية أيضاً، كالعلاقات الشخصية، وخطط المؤسسات المانحة، التي لم يرتق عملها لأن يصبح بحجم تظاهرات ثقافية كبيرة، بل ظل أسير الإمكانيات، ومحدودية رؤى القائمين عليها، كما أن وزارة الثقافة في الحكومة السورية المؤقتة، ظلت بعيدة طيلة سنة من تاريخ تأسيسها، عن كل الثقافة السورية، مكتفية برؤية وزيرة الثقافة السيدة تغريد الحجلي، التي لم تخرج عن تخصصها بعلم اجتماع الأسرة.
كل ما سبق، من تبعثر وتشتت في الحالة الثقافية السورية، لم يدفع بأحدٍ من السوريين للقول بأن الثقافة السورية قد ماتت، بل إن الغالبية ممن يناقشون الأمر يرون بأن الأولويات الإنسانية قد تجعل الشأن الثقافي في مراتب متأخرة من سلم الاهتمامات، مع عدم تغييب الصوت الحاد والصارخ الذي يرى بأن المنتوج الثقافي هو حاجة ملحة تتوازى مع الحاجة للإغاثات.
وعليه فإنه لابد سيمر وقتٌ طويل، قبل أن تفرد أوراق الثقافة السورية، وتحولاتها في السنين الأربعة الفائتة، ولكن الملمح الأساسي الذي لا يمكن أن يغيب عن أذهان المتابعين، إنما يتحدد في الدور الكبير الذي لعبته الثورة في تغيير نظرة السوريين للثقافة، حيث بات تحديد المفهوم، ضبابياً، يتم اختصاره كثيراً بالمحددات الإجرائية، بينما يندر أن نرى معالجة متعمقة لسيرورة المفهوم ضمن حركية الواقع الطبيعية أو الطارئة، ومن هذه الزاوية، فإن تحديد المفهوم سيؤدي لعملية محوٍ للكثير من العناوين التي كانت تتأطر ضمن عنوان الثقافة.
وبانتظار انفراجات الواقع، وإعادة لملمة الشتات السوري – إن حصلت -سيبقى المشهد أسير الفردية، التي يراهن الكثيرون على إمكانية أن تولد الثقافة السورية الجديدة من رحمها.
المصدر :http://rozana.fm