°
, March 29, 2024 in
آخر الأخبار
تفاصيل

ماهيّة الثقافة العربية أ.د يوسف سلامة

من المتعذر علينا الشروع في تحديد ماهية الثقافة العربية ما لم تنطلق هذه الثقافة من الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها ثقافة الحداثة الغربية على العالم بأسره.

وصحيح أن الثقافة العربية قد كانت في يوم من الأيام هي الثقافة العالمية الأساسية، غير أن كل شيء قد أصبح مشروطاً بعامل واحد أساسي يتمثل في مقدرة الثقافة العربية على الدخول في حوار جدي مع الأسئلة التي تطرحها الثقافة الغربية الراهنة،لا سيما أن هذه الأخيرة قد عينت العالم وأنتجته استناداً إلى أفكارها وإمكاناتها، الأمر الذي يحتم على الثقافة العربية أن تواجه مهمة مزدوجة: الأولى تتمثل في تقديم إجابات نظرية عن الأسئلة المستحدثة التي طرحتها الثقافة الغربية حول فهمها للإنسان والعالم وللعلاقة فيما بينهما، والثانية تتمثل في ضرورة التعامل مع التعينات الفعلية التي أنتجتها الثقافة الغربية على هيئة حقائق موضوعية في العالم الراهن، مما لا يسمح للمثقف ولا للسياسي أن يغمض عينيه ويتجاهل الوقائع الحية.

إذ بوسع أي منا أن يتجاهل الأسئلة التي تطرحها عليه ثقافة الحداثة، ولكن ليس بوسعه تجاهل الوقائع والحقائق التي أنتجتها هذه الثقافة على هيئة عالم قد أصبح إنسانياً بكل ما فيه.

ويبدو لنا أن البدء في تحديد ماهية الثقافة العربية، يمكننا من تعيين موقعها الراهن داخل العالم الذي أنتجته ثقافة الحداثة.

ولو أننا نظرنا في ماهية الفكرة الحضارية التي نهضت عليها الثقافة العربية، لأمكن لنا أن نشبهها بالجوهر الذي يعرفه الفلاسفة بأنه: ما يتقوم بذاته، وبأنه ما لا يحتاج في قيامه إلى غيره، وبأنه ما تتعاقب الأعراض عليه من غير أن يلم به أدنى تغير، ولعل هذا التعبير الأخير يمكننا أكثر من غيره من الدخول إلى صميم الفكرة الحضارية التي نهضت عليها الثقافة العربية، فكما أن الجوهر الثابت والبعيد عن التغير الذي لا يناله تحول أو تبدل، تتعاقب عليه أعراض متغيرة متبدلة متحولة، كذلك فإن الفكرة الحضارية التي نهضت عليها الثقافة العربية، هي أقرب ما تكون إلى الجوهر الذي تتعاقب عليه الأعراض.

أما الثابت في هذه الفكرة الحضارية، فهو العنصر الروحي أو الغيبي الذي وإن كان حاضراً في الأشياء وفي الأفعال، فإنه ليس من شأن الأفعال أو الأشياء أن تغير في ماهية هذا العنصر الثابت، في حين أن العناصر العرضية أو المتحولة لا تزيد على كونها مناسبات أو مجالاً يتجلى فيها ومن خلالها هذا العنصر المتعالي الثابت.

وهكذا فإن علاقة المتناهي باللامتناهي تصبح هي العلاقة التي يمكن لنا أن نصور الفكرة الحضارية العربية استناداً إليها، فمهما تعاقبت الأفعال التي تصدر عن الشاهد، فإنه لا سبيل لها لأن تستنفد ماهية ما هو غير قابل لأن يراه الإنسان أو يلمسه، هذا الانقسام بين الغائب والشاهد، والذي من الواضح أن الشاهد أو الإنسان لا يوجد بحسبه من أجل ذاته، بل من أجل غيره، يكشف عن أن مكانة الإنسان مكانة ضعيفة وهشة في هذا العالم.

إنه وسيلة يضطلع بتحقيق غايات قد لا يعلم عنها الكثير، غير أنه يعلم شيئاً واحداً هو أنه إنما يحقق غايات وأهدافاً لا تتصل به اتصالاً جوهرياً ولا تنتسب إليه انتساباً حقيقياً، ذلك لأنها وإن أشبعت لديه بعض الدوافع الشخصية، فهذا الإشباع لا يكون ذاتياً وفردياً إلا بالعرض، في حين أنه في الحقيقة إنما يكشف عن عرضية الشخصي والفردي والذاتي في مقابل ثبات المتعالي وسكونه وقدرته اللامتناهية على فض ذاته في كل هذه (الغيريات) أو الأخريات التي لا تزيد على كونها أعراضاً لا يلبث المتعالي أن يطويها ويتجاوزها في كل حين.

وعلى ذلك فالكائن الثابت أو المتعالي هو الكائن الوحيد في الثقافة العربية الذي يمتلك وعياً ذاتياً بذاته، وذلك لأنه بمنزلة الجوهر من الأعراض، في حين أن كل ما يعبر الجوهر فيه عن نفسه من الفرديات البشرية والإرادات الإنسانية فإنها جميعاً لا تتمتع بأي وعي ذاتي، إنها ليست كيانات وجودية حقيقية بل هي أقرب إلى أن تكون أشباحاً وأعراضاً مؤقتة أو أعراضاً عارضة لا تكشف إلا عن ماهية الجوهر في حين أنها هي ذاتها موجودات بلا ماهية، لأن ماهيتها موجودة خارجها أي في الجوهر المفارق لها.

ومن هنا لم يكن أي موجود عرضي أو أي شخص بشري يتمتع بوعي ذاتي حقيقي يمضي إلى حد الإحساس بأن العالم موجود من أجله وبأنه قادر على التحكم بمصيره وعلى وضع منظومته القيمية وضعاً ذاتياً وشخصياً باعتبارها صورة لوعيه الذاتي بذاته، في العالم الذي يحيا فيه من غير أن يكون موجوداً وجوداً فعلياً، والذي يمر فيه مروراً عابراً وكأنه الطيف الذي لا تكاد تبصره حتى يضمحل ويزول ويفقد كل صور وجوده التي ليست في حقيقتها سوى مظاهر وأعراض لا ماهيات وجواهر.

ولعله أن يكون في وسعنا في ضوء ما قلناه أن نفسر العديد من الظواهر التي تشغل بال المثقفين العرب في حياة الثقافة العربية من ناحية وفي حياة الشعوب العربية بصورة عامة من ناحية أخرى، وحسبنا هنا أن نؤكد أن الاستبداد السياسي الذي تمارسه السلطات العربية على شعوبها، واستسلام الشعوب العربية واستكانتها وإمساكها عن تقديم التضحيات الضرورية لتحقيق الديمقراطية السياسية والاجتماعية في حياة الفرد والجماعة، إنما مرد ذلك كله إلى أن الفرد العربي لا يمتلك من الإحساس بذاته أو من الوعي الذاتي بذاته ما يجعله يستشعر أنه كائن حقيقي وموجود فعلي يستحق أن يشعر الآخرون بوجوده شعوراً فعلياً في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وبوسعنا أن نلفت الانتباه – لو شئنا – إلى العديد من المظاهر التي تترجم عن إحساس الإنسان العربي بعرضيته وبلا جوهريته.

ولكن حسبنا أن نبين أن هذه الفكرة الحضارية التي نهضت عليها الثقافة العربية قد وصلت إلى حد من تطورها أصبح من الصعب عليها عنده أن تصوغ أسئلة جديدة أو أن تقدم إجابات جديدة على الأسئلة التي تطرحها الثقافة الغربية المعاصرة، ثقافة الحداثة وما بعد الحداثة التي أصبحت لها الكلمة العليا في حياة العالم اليوم بصورة أو بأخرى، ومما يدل على أن الثقافة العربية قد أصبحت محتاجة إلى أن تحقق لنفسها شيئاً جديداً هو كون الأصولية والتيار القومي الذي يرتبط بها ارتباطاً وثيقاً هما التيارين اللذين ما يزالان على ارتباط بالأفكار الرئيسية التي أنتجت الثقافة العربية في القرون الهجرية الأولى من غير أن يستطيعا مع ذلك تجاوز النظرة الأصولية إلى العالم والثقافة، أما التيارات الأخرى كالماركسية والليبرالية، التي لم تستطع أن تحقق استقلالاً ثقافياً يدفع بالثقافة العربية إلى تجاوز أزمتها، فإنها في صورتها الراهنة ما تزال هي الأخرى مترددة بين أن تربط نفسها بأصولها الغربية بصورة صريحة وبين طريقة أصولية في التفكير عندما يسعى الكثيرون من ممثليها إلى اكتشاف فكرة (الديمقراطية) في (الشورى)، أو إلى اكتشاف (الاشتراكية) في عدالة هذا الخليفة أو ذاك أو في أي من النظم الأخرى التي عرفتها الدول الإسلامية في عهودها المختلفة، الأمر الذي يجعلنا نعمم حكمنا على هذين التيارين فنطلق عليهما الحكم نفسه الذي نطلقه على التيار الأصولي والتيار القومي المتداخل معه من حيث إنهما لم ينجحا حتى الآن في توفير الشرائط الضرورية لتجاوز الثقافة العربية لوضعها الراهن المتأزم بكل تأكيد.

ولا يخفى على أحد أن جملة هذه الاعتبارات والمشكلات قد حتمت على الثقافة العربية أن تصل إلى حد الأزمة أو التأزم لإحساسها العميق بعجزها عن تجاوز حاضرها الذي لا بد من تغييره أو تفجيره، وهو ما لن يتحقق إلا إذا استولدت هذه الثقافة مفاهيم مبتكرة – وهو ما لم تستطع أن تفعله حتى الآن – الأمر الذي فجر التساؤل عن مستقبل هذه الثقافة بعد أن استشعرت بعمق أزمتها الناجمة أصلاً عن الثنائية الحادة بين حدين غير متساويين ولا متكافئين، في عصر تغيرت فيه صورة العالم وصورة الإنسان، وغدا فيه كل شيء محكوماً بتصور واحد أساسي هو أن الإنسان قد أصبح المركز الوحيد والسيد الوحيد لهذا العالم، الأمر الذي مكن الثقافة التي طورت لنفسها هذا التصور من أن تمتلك الطبيعة والمجتمع.

أما الطبيعة فقد تم امتلاكها بالعلم، وأما المجتمع فقد امتلكه كل البشر الذين يكونونه، بصورة أو بأخرى، عندما أرست ثقافة الحداثة مفهومها عن (الديمقراطية) – نظراً وعملاً – باعتبارها الأسلوب العقلاني الوحيد الذي يجعل للسياسة معنى، والذي يمنح أفراد المجتمع الحق في أن تكون لهم الكلمة الأخيرة في صياغة مجتمعهم على النحو الذي يستجيب لمتطلباتهم المختلفة، القابلة للتعديل والتغيير، الأمر الذي لا تستطيع التكيف معه وتلبيته إلا الديمقراطية السياسية باعتبارها الشكل الأرقى الذي توصلت إليه الإنسانية حتى الآن في إدارة شؤونها بطريقة أقرب ما تكون إلى العقلانية والفاعلية، على الرغم من أننا نعترف سلفاً، مع المعترضين بكثير من عيوبها ولكننا نؤكد إلى جانب ذلك أيضاً أنها أقل الأنظمة التي ابتكرها العقل الإنساني سوءا.

فديمقراطية (ناقصة أو فاسدة) يأخذ بها حاكم الوطن خير للبلاد من أن يكون هذا الحاكم مستبداً عادلاً، على الرغم من التناقض القائم بين الاستبداد والعدل.

إذ لا يمكن للمستبد أن يكون عادلاً بأي معنى وعلى أي نحو يمكن تصوره.

ذلك لأن الاستبداد لا ينفك عن الظلم بل هو الظلم نفسه، في حين أن (العدل) أفق أو فضاء لا يمكن التفكير فيه خارج المفاهيم الديمقراطية.

*أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق /نائب رئيس الجمعية الفلسفية العربية

Salamah@scs-net.org