°
, December 7, 2024 in
آخر الأخبار
تفاصيل

منذر مصري يكتب : الجوكندا السورية.. لا تبتسم

حرصاً على تنفيذها بأفضل وجه، قامت الفنانة التشكيلية السورية ناتالي مصطفى، برسم لوحتين للجوكندا السورية، بذات حجم: 55/80 سم، وذات الوضعية لجوكندا دافنشي.

اللوحة الأولى، على كمالها، بمثابة مسودة، أو بروفة للوحة الثانية، التي لم تضف على المسودة سوى أنها منفذة بعناية أكبر ودقة أشد، والتي أرسلت صورتها بالبريد الألكتروني، للمشاركة في مسابقة (الجوكندا السورية) التي تقيمها صالة (قزح) للفن التشكيلي في دمشق. وهكذا صار من نصيبي، رغم صعوبة تخلّي ناتالي مصطفى عن أي من لوحاتها، الجوكندا السورية بنسختها الأولى، الخام، غير المصقولة، الأصلية.

الصور العديدة التي التقطتها والتي حرصت أن يبدو في بعضها العمل كاملاً، وفي بعضها الآخر تبدو تفاصيل الوجه والرقبة والصدر واليدين، جميعها لم تجدني نفعاً في محاولاتي المتكررة، كتابة شيء ما عنها. مما اضطّرني لإحضار اللوحة من مرسمي، وأعلقها أمامي، على مسافة متر أو أكثر بقليل، وأقوم وأنا أكتب عنها بالاقتراب منها وتدقيق النظر بكل ملمح أو تفصيل فيها؛ الخطوط الغامقة التي تحدد الشكل، ضربات الريشة الظاهرة والخفية، تدرج الألوان وتقابلات البارد منها والساخن، التي تنبه للدور الهام الذي تلعبه في لوحات نتالي، صديقي الفنان التشكيلي هيثم شكور، يوم جاء معي وألقى نظرة على أعمالها الأخيرة، ومنها (الجوكندا السورية). وهنا يأتيني السؤال، كيف للجنة مشرفة على مسابقة فن تشكيلي أن تحكم حكماً صائباً بخصوص قيمة لوحة ما، وأن تقبلها أو ترفضها، بواسطة صورة عنها أرسلت إليها على العنوان البريدي!؟ ذلك أن اللوحة، لدهشتي، رفضت!؟

 

يسألني الفنان التشكيلي السوري ناصر حسين، المقيم في ألمانيا، مستغرباً: “هل رفضت لأن الأعمال المقبولة أهم!؟”. ذلك لأنه لا يجد سبباً للرفض نابعاً من اللوحة بذاتها، التي يقول عنها: “طبعاً.. عمل جيد”. مضيفاً: ” لكن ضمن المنطق المشغول به، أظن أنه مبالغ لحد ما بحجم الرأس، ولكن شدني جداً الشغل باليدين ودرجة اللون الأسود في الثياب. رسم اليدين جيد وتعبيرهما وحالتهما النفسية مناسبة ومتعايشة مع تعبير الوجه، حسب الصورة – ربما الواقع مختلف- لذا أنا أرى أن الشغل باليدين أفضل من الوجه”. ومرة أخرى نرى كيف أن من يريد أن يصدر حكماً فنياً، ولو على مستوى حوار خاص، أن يتوقف عند نقطة، أن ما يراه ليس سوى صورة عن العمل وليس العمل نفسه، ومع ذلك كان حكم رسام قدير كناصر حسين بهذه الإيجابية.

يا للجبين العالي، وكأنه بحجمه وباستقامته، يمثل إباءً ما.

يا للحاجبين الحادين، يطول ويعلو الأيسر منهما، وكأنه يرسم علامة استفهام قاسية!؟

يا للعينين الواسعتين على نحو زائد، الواسعتين بالحد الأقصى الذي يسمح به الوجه، حتى إن العين اليسرى، أكبر حجماً من الفم، العين المفتوحة على مداها والفم المغلق لحد الإطباق. ما الذي أفقدهما صفاءهما، فما عاد البياض يحيط بؤبؤيهما، بل جفنان ثقيلان يسدلان من الأعلى، فلا يغطيان سوى جزأين صغيرين من كرتي العينين، مبقيتين على جحوظ خفيف بالكاد يلحظ، وهلالان معتمان كئيبان يحملانهما من الأسفل.

يا للفم ذي الشفتين الرقيتين المطبقتين بشدة، أين ذهب طيف تلك الابتسامة؟

يا لشلال الضوء الذي يهبط من أعلى الجانب الأيسر للجبين، إلى الخد، ثم إلى العنق، ويصب في بحيرة الصدر. 

يحاصر هذا البهاء الصامد، لحاف سميك من العتمة، يصنعه الشعر الذي  تشوب دكنته حمرة تأتيه من خارجه وتنحل في حوافه، يكمل عمله الليلي ثوب سميك يغطي الساعدين بدءاً من الكتفين الضيقين إلى اليدين.

هناك خط أصفر ساطع يبزغ من خلف الجهة اليسرى من الجوكندا، وكأنه التماعة انفجار.

يا لليدين، على رقتهما، مكثرتين من العقد، يا للأصابع المحطمة. نعم يصلهما شيء من شلال الضوء ذاك، ولكنه ينكسر ويتبعثر عليهما.

أما عن المنظر الطبيعي الذي يقبع خلف الجوكندا، فقد حلّت به الحرائق وحاق به الدمار. يصعد اللون الأحمر المشوب بالسواد هنا والاصفرار هناك، من أسفل اللوحة، إلى أن يتحول إلى خطوط متقاطعة ومتداخلة من الرصاصيات والرماديات، تشفّ في الوسط حتى تبدو وكأنها هالة من غبار تحيط بالرأس، راسمة، و لأقل مصورة، معالم مدينة مهدمة، سوريا مهدّمة، أطياف عالم مهدم.

سوريا.. الأم الثكلى، الزوجة المرملة، الأخت المفجوعة، الابنة الميتمة، تنظر إلينا، تنظر للعالم، بصمت وعزّة نفس، لا تتطلب، ولا تنتظر من أحد شيئاً.

 

المصدر : http://hunasotak.com