°
, March 19, 2024 in
آخر الأخبار
دراسات اجتماعية

العلوية السياسية غموض مصطلح بين الوهم والحقيقة – مأمون جعبري . 2-3

3.3.3 الطلاق السياسي بين جمال عبد الناصر وحزب البعث وارتداداته على أبناء المذهب العلوي

كان جمال عبد الناصر يلهب حماس معظم القطاعات الشعبية السورية، ومنهم العلويين، وكان لحضوره أثر مميز في نفوسهم، ويذكر لنا والدي أنه حين توفي جمال عبد الناصر كان الحداد يعم قريتهم، وحين سألت إحدى الطاعنات في السن عن سبب الحزن الجماعي: رد عليها والدي بما معناه أنك تجهلين حجم الكارثة بموت جمال عبد الناصر، وكانت هذه القرية علوية المذهب ولكن المتحزبين منهم كانت لهم حسابات متغيرة، ويتضح معنا ذلك بعد حين .

طرح مشروع الوحدة بين سوريا والجمهورية المصرية، وكان شرط جمال عبد الناصر: أن تُحل جميع أشكال التحزبات السياسية ذاتها لصالح مفهوم الوحدة.
قبلت الأحزاب السورية جميعها هذا الطرح، ومنها حزب البعث العربي الاشتراكي بعد صراع داخلي بين كوادره كان نتيجتها الموافقة على شرط جمال عبد الناصر. تمت الوحدة عام (1958م) بين سوريا ومصر ومن خلال الإجراءات التي اتخذها جمال عبد الناصر وجد البعثيون بأن الوحدة لم تكن منصفة، وإنما كانت عملية ضم سوريا إلى مصر، واعتبارها أحد الأقاليم المصرية، وسقط رهان البعثيين على إمكانيتهم بالتغلغل التدريجي داخل بنية الوحدة واستلامهم للمناصب الحساسة، “وأخذ عبد الناصر بعزل السوريين من مناصبهم داخل سوريا”، وتعيين رجالات مصريين أو موالين له في سوريا، أي حدث ابتلاع لمفهوم سوريا، وأخذ الجميع يخشون من ضياع الهوية السورية ضمن الهوية المصرية، وبدأ الصراع الخفي بين كوادر حزب البعث وجمال عبد الناصر، والذي تطور لاحقاً إلى صراع دامي، وأول بوادر الصراع كان تشكيل اللجنة العسكرية السرية من كوادر حزب البعث العسكرية، وتألفت في بدايتها من خمسة ضباط ثلاثة علويين واثنان من المذهب الإسماعيلي وهم “صلاح جديد-محمد عمران- حافظ الأسد- عبد الكريم الجندي– أحمد المير” وكان هذا الظهور الأول لشخصيات عسكرية من المذهب العلوي وتنتمي لحزب البعث، وأصبح لها في المستقبل بصمات على الحياة السياسية في سوريا، وكان كل من صلاح جديد ومحمد عمران من الشخصيات ذات الحضور القوي مقارنة مع شخصية حافظ الأسد المغمورة حينها. حملت هذه اللجنة ثلاث شعارات رئيسية عملت على الوصول إليها وهي (لا للناصرية- لا للوحدة السورية المصرية– لا لقيادة الحزب القومية)، وبدأت نشاطها السري داخل صفوف القوات العسكرية السورية لتطهير الجيش من مؤيدي جمال عبد الناصر، ومن ثم للتخطيط للانفصال عن مصر ووضع الأولوية القطرية للحزب بدلاً من الأولوية القومية. حدث ما خططت له اللجنة وحدث الانقلاب الذي أطاح بحكومة الوحدة داخل سوريا، وتولت اللجنة العسكرية معظم مفاصل الجيش بعد أن توسعت في مرحلة لاحقة من تشكيلها لتصبح خمسة عشر عضواً منهم خمسة علويين، وبدأت مرحلة جديدة من تاريخ سوريا بقيادة ضابط علوي هو صلاح جديد

4.3.3 حزب البعث و صلاح جديد
“صلاح جديد” من مواليد (1929). ولد في قرية الحديدية التابعة لريف حمص، ونشأ في قرية دوير بعبدة مسقط رأس والده التابعة لريف مدينة جبلة الساحلية. في بداية حياته السياسية كان من أنصار الحزب القومي السوري، ليلتحق لاحقاً بصفوف حزب البعث. عرف عنه التعلق الشديد بحزب البعث وتحديداً للهوية الاشتراكية التي كان يطرحها هذا الحزب، وبدا هذا واضحاً في أوائل المراسيم التي صدرت عن الحكومة السورية في عهده (1963م)، حيث صدر “قانون الإصلاح الزراعي” الذي حدد فيه الملكية الزراعية المسموحة لكل شخص، وعلى أثره تمت مصادرة الأراضي من الإقطاعيين، وتوزيعها على الفلاحين في سوريا، مما كان له أثر ضخم في توسع القاعدة الشعبية للحزب في صفوف الفلاحين العلويين، وبذات الوقت تزايد النقمة عليه من كبار الملاكين. وفي عهده أيضاً بدأت ملامح الحزب الدكتاتورية بالوضوح حيث تم البدء بالقضاء على النشاط السياسي لبقية الأحزاب، ومصادرة النشاط الثقافي المدني وخاصة حين أصدر “مرسوماً تشريعياً برقم (29) عام (1963م)” ألغى فيه مجموعة من الإصدارات الصحفية التي كانت تعبّر عن بقية الأحزاب والآراء الحرة المغايرة لفكر البعث، وحوّل مالكي هذه الصحف إلى المحاكمات الصورية بتهم افتراضية لا تستند إلى المفاهيم القانونية، ومن أشهر هذه التهم (الإساءة إلى إيمان الشعب السوري بالقومية العربية وبث الأفكار الشعوبية)، ونلاحظ أنها تهمة تخص من يعارض مفاهيم حزب البعث بالمفهوم السياسي وليست تهمةً قانونية.
في انقلاب عام (1963م) أو ما يدعى ثورة الثامن من آذار كان قد تحقق في مرحلة سابقة لهذا التاريخ الهدف الأول للجنة العسكرية (الانفصال عن مصر)، وبدأت هذه اللجنة عملها بعد (1963م) لتحقيق هدفيها المتبقيين، فقامت من عام (1963) وإلى عام (1966م) بالتخلص من أثر الناصريين في صفوف الجيش عن طريق تسريح عدد كبير من أنصار جمال عبد الناصر أو تهميشهم، لتتوّج انتصارها بتحقيق أهدافها عام (1966م) بعزل دعاة القومية في الحزب نفسه لصالح المفهوم القطري، حيث سيطر صلاح جديد على مفاصل الحزب وتم نفي دعاة القومية من القياديين الحزبيين، وأصبح صلاح جديد هو الشخصية الأولى في حزب البعث.
والسؤال المهم: هل ظهر تأثير المذهب العلوي على شخصية صلاح جديد السياسية؟
تشير الوقائع السورية في عهد صلاح جديد إلى أنه كان متعصباً لمفاهيم حزب البعث وخاصة لمفهوم الإشتراكية، ويذكرعن الحكومة في عهده أنها كانت تشارك الفلاحين في مواسم الحصاد، ومن جهة ثانية كان يعتمد على صديقه البعثي “أحمد نور الدين الأتاسي” اعتماداً كبيراً وهو من المذهب السني، واستلم منصب رئيس الجمهورية السورية لمدة أربع سنوات في الوقت الذي كان فيه صلاح جديد أميناً عاماً لحزب البعث، حيث أن صلاح جديد كان يعتقد أن القيادة الحقيقية هي للمؤسسة المدنية الحزبية، وأن منصب رئيس الجمهورية من ضمن هذه المؤسسة. وفي مرحلة الصراع البعثي الناصري خلال فترة صلاح جديد تم إقصاء العديد من شباب المذهب العلوي من مناصبهم، والذين كانوا من أنصار جمال عبد الناصر، ووضع بعضهم في السجون، وليس هذا فقط بل إن صلاح جديد لم يكن مناطقياً، فقريته الفقيرة لم تستفد من كونه رئيساً للحزب والشخصية الأولى في سوريا إلا كما استفادت كل القرى الأخرى، وقد خلت دكتاتوريته من أهم صفة للدكتاتورية الشخصية، وهي الاعتماد على الحلقة الأقرب عاطفياً أي العائلة، وهذا لم يحدث في عهده، ولم يبرز أي شخصية من عائلة (جديد). ومن كل هذه المعطيات نجد أنه كان يمثّل دكتاتورية الحزب في شخص رئيسه “الذي استقال من منصبه العسكري عام 1965” ليتولى إدارة شؤون الحزب.
نستنتج من هذه المرحلة لتاريخ سوريا الحديث، والتي تولى فيها أميناً عاماً للحزب الأوحد في سوريا شخصية تنتمي للمذهب العلوي ما يلي:
▪ لم يستفد العلويون من هذه المرحلة كونهم ينتمون إلى مذهب الرئيس، بل حقيقة و كبقية السوريين كانت فائدتهم الأساسية أنهم من الفئة الفلاحية في معظمهم، والإصلاح الزراعي عام 1963 ملك الفلاحين السوريين الأرض ومنهم العلويين.
▪ لم ينج العلويين من التصفية السياسية التي حدثت في هذه المرحلة بين البعثيين والناصريين لأنهم ينتمون إلى مذهب الرئيس، بل دفعوا ضريبة هذا الانتماء السياسي مثل بقية السوريين سجناً أو إقصاء.
▪ توسعت القاعدة الشعبية للبعث في الساحل السوري، وبين أبناء المذهب نتيجة للتوجه العام للحزب، وليس نتيجة لكون الممثل الأساسي للحزب من المذهب العلوي.
▪ شهدت هذه المرحلة في سوريا بدء مرحلة دكتاتورية الحزب، وليس دكتاتورية الفرد، ولم يظهر فيها تكتلٌ سياسي علوي في رأس السلطة السياسية بل كان تكتلاً بعثياً.
▪ رغم التهم التي وجهت من البعض بإقصاء العنصر السني من الجيش في تلك المرحلة فالحقائق أشارت إلى أنه كان صراعاً حزبياً بين البعث والناصرية وليس توجهاً مذهبياً.
▪ لم يظهر في تلك المرحلة أي حزب أو فئة تدعو إلى مفهوم العلوية كانتماء منفصل عن المجتمع السوري.
▪ ظهور أبناء المذهب العلوي كمتطوعين في الجيش السوري كان نتيجة لسياسة اتبعتها قيادة البعث، شجعت من خلالها أبناء الريف البعثيين من مختلف تحصيلاتهم العلمية على الانخراط في القوات المسلحة، وذلك لتحويل الجيش إلى جيش ذو أكثرية بعثية أي جيش عقائدي فاستجاب أبناء الأرياف لهذا، وأبناء ريف اللاذقية ذي الأغلبية العلوية تنطبق عليهم كل الصفات هذه، مما جعل قسماً ملحوظاً منهم ينخرط في صفوف الجيش، ولم يكن الدافع حينها وجود قيادة علوية في السلطة. هذا بالإضافة إلى أنه جاء كرد فعل على فترة زمنية كانت فيها المراكز القيادية والكليات التي تخرّج ضباطاً محصورة على أبناء المدن والعائلات الكبيرة.
▪ أما من الناحية الاجتماعية لعموم أبناء المذهب العلوي، فإن التحسن المادي الطفيف الذي طرأ على حياتهم كنتيجة مباشرة لتملّكهم جزءاً من الأرض التي يعيشون عليها بالإضافة إلى التحاقهم ببعض الوظائف، مكّنهم من تحسين وتطوير أدواتهم اليومية مما أعطاهم المزيد من الوقت، الذي هم في أمس الحاجة اليه لزيادة معارفهم بعد أن تعددت منابعها، وأظهروا اجتهاداً مميزاً في محاولتهم الحصول على العلم، فكان أبناؤهم يجتازون عشرات الكيلومترات للوصول إلى مدارس تمكّنهم من ااستكمال دراستهم الابتدائية وإتمام تعليمهم لاحقاً، بالإضافة إلى انفتاح سوق العمالة بالنسبة لهم، بعد أن كانوا فلاحين حصرياً، فأصبحوا يتنقلون بين المدن السورية متحولين إلى عمال. وهناك فرق كبير بين أن تبقى البنية النفسية الاجتماعية هي بنية فلاحية فقط، ومن أن يضاف إليها البنية الثقافية العمالية. حيث العامل أكثر انفتاحاً عادة لأنه مرتبط بأدوات العمل الصناعية، والتي هي أكثر تطوراً من أدوات الفلاح، وعلى سبيل المثال: حين تم تطوير وزيادة منشأة مرفأ اللاذقية عام (1954م) شارك عدد كبير من أبناء الريف العلوي في العمالة، واكتسبوا مهناً جديدة بالنسبة لهم بالإضافة إلى الاحتكاك المباشر مع الخبرات اليوغسلافية، والأجنبية العاملة في تشييد المرفأ، وقد تعلموا بعض اللغات وحملوا ما تعلموه إلى أريافهم. هذا الانتقال النوعي في أسلوب حياتهم يرجع أساساً إلى عامل هو الأهم، وهو عامل الإحساس بالأمان الشخصي الذي تملّكهم في هذه الفترة.
بعد عام واحد من استلام صلاح جديد لأمانة حزب البعث في سوريا أي عام (1967م) تدخل سوريا في حربها مع إسرائيل وتكون النتائج كارثية على الصعيد الوطني. خسارة جزء من الأراضي السورية، انهزام نفسي لدى عموم السوريين، وما تلا تلك الهزيمة من “اتهامات تتلخص”: أن القيادة البعثية كان همها الأساسي هو ترتيب البيت الداخلي السوري لتضمن استمرارها في حكم سوريا، في هذه الظروف المضطربة كان يحتل مركز وزير الدفاع الشخصية الثالثة في اللجنة العسكرية التي تم التطرق إليها سابقاً وهو حافظ الأسد

4 العلاقة بين العلويين و النظام السوري منذ استلام حزب البعث للحكم
1.4 حافظ الأسد واستلامه للحكم في سوريا
ولد حافظ الأسد عام (1930م) في قرية القرداحة لأب وأم ينتميان إلى المذهب العلوي، وليسوا من الرموز الدينية للطائفة، والدته من عائلة كبيرة عددياً ومن الوجهاء في مرحلة سابقة (آل مخلوف). درس حافظ في المرحلة الأولى من حياته في مدرسة القرية التي أنشأتها فرنسا أثناء حكمها لسوريا، ثم انتقل إلى مدينة اللاذقية لإكمال دراسته الثانوية، والتحق حينها بصفوف حزب البعث وانضم إلى الكلية الجوية في حمص عام (1951م)، وتخرج برتبة ملازم. ذهب إلى مصر عام (1958) خلال مرحلة الوحدة لإجراء دورات عسكرية، وفي تلك المرحلة انضم إلى الخلية العسكرية التي تم ذكرها وأبعد عام (1962م) عن المؤسسة العسكرية، وأعاده إليها صلاح جديد عام (1964)، بعد أن رفعه من رتبة رائد إلى لواء وسلّمه قيادة الدفاع الجوي، وأوكل إليه مهمة توسيع قاعدة حزب البعث داخل القطاعات العسكرية. لم يعرف له دور في النشاط الحزبي المدني، وكان متفرغاً للمؤسسة العسكرية. عُيّن وزيراً للدفاع عام 1966م.

1.1.4الخلاف بين حافظ الأسد وصلاح جديد
بعد حرب (1967) المفجعة بنتائجها: “اتهم صلاح جديد وزير الدفاع حافظ الأسد بالتقصير في مهامه أثناء الحرب، وخاصة أنه يُسند إلى حافظ الأسد إعطاء الأوامر للجيش بالانسحاب من أرض المعركة في القنيطرة قبل بدء القتال الحقيقي، وتعمّق الخلاف لاحقاً عام 1970” حين رفض حافظ الأسد إرسال الطيران السوري لمساندة القوات البرية التي ذهبت من سوريا لمناصرة الفلسطينيين أثناء صراعهم مع حكومة الملك الأردني بما يسمى معارك أيلول الأسود، وكان نتيجة رفضه الإسناد الجوي أن دُمرت القوات البرية من قبل الطيران الأردني، مما دفع بصلاح جديد إلى طلب عقد “مؤتمر قطري طارئ لحزب البعث عام (1970م)” لعزل حافظ الأسد ووزير أركانه مصطفى طلاس من مناصبهم، ووافقت قيادة الحزب حينها على مقترح صلاح جديد بإجماع (78) من أصل(83) ورفض القرار (5) بينهم مصطفى طلاس وعبد الحليم خدام، ولكن القرار لم ينفذ لأن وزير الدفاع حافظ الأسد كان قد جهز نفسه لمثل هذا اليوم وقام بانقلاب على قيادة الحزب بمساعدة مصطفى طلاس، ومجموعة من الضباط الموالين، ووضع على أثره كامل قيادة الحزب في السجن، وعلى رأسهم صلاح جديد وتمكن قسم قليل من الفرار، ومنهم إبراهيم ماخوس القيادي الحزبي العلوي المذهب. ولم يظهر خلال هذا الصراع أي تكتل علوي سياسي يدعم أحد الطرفين المتصارعين، وكان كل طرف منهم لديه داعميه من المذهب السني.
لنرصد رد فعل الشارع العلوي على الانقلاب على صلاح جديد:
انقسم الشارع العلوي إلى قسمين: الأول يمثل الكتلة العاملة في المجالات المدنية وهي الأكثرية وكانت مناهضة حقيقة للانقلاب، وذلك لكونها أولاً متعلقة بشخصية صلاح جديد القائد الحزبي المتشدد للبعث، والذي قدم استقالته من المؤسسة العسكرية ليوسع قواعد البعث المدنية، ومن جهة ثانية في الحكومة التي اعتقلها حافظ الأسد كان هناك شخصيات قيادية علوية من عائلات كبيرة مثل (إبراهيم ماخوس- عادل نعيسة)، ولهم الكثير أيضاً من الأنصار لدى العلويين المدنيين، وعلى أثر الانقلاب أعلن الكثير من أمناء الفرق الحزبية العلويين العصيان المدني على الرئيس الجديد، وطالبوا القواعد الحزبية بالانتفاضة الشاملة، ولم يكن لهذا الموقف أي أثر يذكر حيث إنه وأساساً ومن استلام البعث عام (1963م)، تم تعطيل كل معارضة ذات طابع مدني حيث تم تفعيل قانون الطوارئ الذي عطّل أي شكل من أشكال المعارضة السلمية، وخول الرئيس المنقلب إجهاض أي عصيان مدني بقوة السلاح.
وأما الجزء القليل من أبناء المذهب والمنضوي تحت راية العسكر، فكان معظمه مع حافظ الأسد، الذي كان قد أسس لذاته في مرحلة سابقة حضوراً داخل المؤسسة العسكرية، وسرعان ما تم السيطرة على تمرد القيادات المدنية للحزب من أبناء المذهب العلوي، وإعادتهم إلى الطاعة للرئيس الجديد بقوة الوعيد، وخاصة أنهم شاهدوا ما اتخذه من إجراء مع رفاقه من القياديين.
ومن الضروري هنا أن نناقش تخمينات لاحقة لهذه الفترة عن وجود ما يشبه اللوبي المذهبي العلوي الذي كان يدفع باتجاه حكم علوي لسوريا:
بتحليل الوقائع التي سردناها نجد أن الصراع بين صلاح جديد العلوي المذهب، وحافظ الأسد العلوي المذهب أيضاً يضعف هذه التخمينات ويفقدها موضوعيتها، وكل الدلائل التاريخية لمفهوم اللوبي المذهبي لأي مذهب كان يثبت أن اللوبي لن يسمح بحدوث صراع كهذا، وعادة يكون له إمكانية الحسم في مثل هذه الأمور، ومن جهة ثانية كان للطرفين المتصارعين داعمون من كل المذاهب، والداعم الرئيسي لحافظ الأسد كان مصطفى طلاس وهو سني المذهب، ومن جهة ثالثة لم يثبت وجود أي فتوى دينية علوية بهذا الخصوص. وحقيقة الأمر أن العلويين لا يملكون مجمعاً دينياً ينظم أمورهم الدنيوية ويعتبرونه مرجعاً، فلديهم مجموعة من المشايخ غير الموحدة في اتخاذ أي قرار ملزم لكامل أفراد المذهب، وبالتالي فهم الظرف التاريخي الذي أدى إلى استلام حافظ الأسد السلطة أو تبوؤ صلاح جديد، ومن قبله زكي الأرسوزي ووهيب الغانم مراكز متميزة في حزب البعث على أنه تخطيط مذهبي هو لوي للوقائع وإظهارها كحقائق متفق عليها.

2.1.4 العلاقة بين حافظ الأسد ومراكز القوة في سوريا
ثبّت حافظ حكمه لاحقاً من خلال التحالف بين سلطة رأس المال والسياسة، بالإضافة إلى الممثلين “للإسلام الرسمي” ، ففي عهده حظيت وزارة الأوقاف بدعم شخصي منه، ويذكر أنه بعد استلامه للسلطة مباشرة قامت مسيرة تأييد حاشدة من كبار “تجار دمشق من المذهب السني” ورددوا شعاراً هو (طلبنا من الله مدد أرسل لنا حافظ الأسد)، ولم تكن حينها أية إشارة تدل على أن هناك تجمع علوي سياسي وراء استلام حافظ الأسد، وبدأت تتكون ملامح الدكتاتور الفرد على أرض الواقع من خلال ما قام به بعد استلامه مباشرة، وذلك من خلال قبضه على كل المناصب السياسية وجمعها في شخصه فهو بعد عام واحد من انقلابه أصبح رئيساً للجمهورية وأميناً عاماً للحزب، وقائداً أعلى للجيش والقوات المسلحة. هذه الثلاثية تمركزت في شخص واحد، وبالتالي لم يبق أي تمثيل حقيقي لسوريا خارج قبضته، ومن جهة ثانية تخلص من كل معارضيه دون التمييز بين انتمائهم الديني، وأول من بدأ بالتخلص منهم هم أصدقاؤه الذين كان معهم في اللجنة العسكرية، فوضع صلاح جديد في السجن.
أما محمد عمران الشخصية الثانية في اللجنة العسكرية العلوي المذهب أيضاً والذي هرب بعد انقلاب حافظ الأسد، فقد تمت “تصفيته جسدياً في لبنان بعد عامين من استلام حافظ الأسد، وتشير أصابع الاتهام إلى أن حافظ الأسد وراء التصفية كما أورد نيكولاس فان دام” ،لأن محمد عمران حين فر إلى لبنان أخذ يتحدث بشكل ما عن خيانات حافظ الأسد في حرب (1967م)، وهكذا بدأت تترسخ صفات حافظ الأسد في أذهان الموالين قبل المعارضين: بأنه الشخص الذي لا يقبل الاختلاف معه، وهو مستعد لاتخاذ أقصى الإجراءات ضد من يعترض عليه. وفي عام (1973م) تم صياغة دستور جديد للبلاد من أهم ما ورد فيه:
▪ “أن يكون رئيس الجمهورية مسلماً، ويختاره مجلس الشعب ويستفتى فيه الشعب”
▪ يكون الترشيح من النواب الثلاثة للرئيس بتوصية من حزب البعث.
▪ يكون انتخاب الرئيس لمدد متتالية.
▪ تحدد مدة الرئاسة بـ (7) سنوات.
نلاحظ أنها مواد مكتوبة لتنطبق على شخصية الرئيس حينها، وأما المادة الأولى التي تحدد ديانة الرئيس، فتم التعاطي معها بالحصول على “اعتراف من موسى الصدر المرجع الشيعي، بأن المذهب العلوي هو من المذاهب الإسلامية”، وبالتالي حقق الشرط الأول كاملاً، وخاصة أن أعضاء مجلس الشعب كانوا يختارون بشكل من الأشكال من قبله، أو من قبل ترشيحات أمنية أو بعثية، وأما البند الثاني الذي يوضح من له الحق في ترشيح رئيس الجمهورية فهو مثالي لشخصية الرئيس، فمن سيرشحه هم نوابه وبتوصية من الحزب الذي هو أمينه العام، والبند الثالث يتيح له الترشيح مرات متتالية أي مدى الحياة بمعناه الحقيقي. نلاحظ كيف تم نسج شبكة من الإجراءاتالتي تعطى صيغة قانونية لاستمرار بقائه رئيساً، والمعنى الفعلي لكل هذه الإجراءات أن الرئيس يعيّن نفسه وينتخب نفسه ولا مجال لوجود المنافس فهو يقول هذا أنا وأنتم عليكم أن تقبلوا.
وبهذه الطريقة أصبحت المهمة الأساسية لحزب كامل بكل كوادره، وهو الحزب القائد للدولة والمجتمع والوحيد المسموح له بالنشاط، العمل على ضمان تأمين البيئة الملائمة التي تجعل استمرار الرئيس ممكناً وفق الشروط التي تم توضيحها دون الحاجة إلى دعم من أي مفهوم طائفي، أي تم تفريغ الحزب من شعاراته ومنطلقاته ليصبح آلة عملاقة لها مهمة رئيسية وأولوية هي تأمين التأييد لرئيس البلاد الحاكم المطلق، وهكذا تنازل حزب البعث عن دوره المفترض في تطوير الوطن إلى دور هو استمرار ضمان بقاء الدكتاتور الحاكم المطلق. وفي هذا الإطار أعطي للحزب كامل الصلاحيات في اتخاذ أي إجراء يحقق هذا الهدف متجاوزاً كل القوانين، وتحت راية قانون الطوارئ، أي تحول الحزب إلى عصا وأداة قمع تضاف إلى الأدوات المعروفة من أجهزة أمنية، “وأصبح للحزب آذان متنقلة على مساحة الوطن، تلتقط أصغر انتقاد لشخصية الرئيس وتنقله إلى الجهات المختصة لتتعامل معه خارج أي مفهوم قانوني”.
وعلى هذا الأساس تأطرت العلاقة بين حافظ الأسد وحزب البعث، وهو المحور الثاني المنوه إليه سابقاً.

3.1.4 العلاقة بين حافظ الأسد وأبناء مذهبه العلويين
ماذا كان يمثل العلويون بالنسبة لحافظ الأسد؟ عن ماذا كان يبحث لديهم؟
في بادئ الأمر لا بد من الإشارة إلى أن حافظ الأسد لا ينتمي إلى أسرة دينية.
ومن خلال تتبعنا لظروف استلامه، نلاحظ أنه لم يستند بالمعنى المباشر إلى أبناء مذهبه لاستلام السلطة رغم أنه دُعم من ضباط داخل مؤسسة الجيش التي كان يديرها من المذهب العلوي. إلا أنه أيضاً دُعم من ضباط من المذهب السني، وكان أعلاهم رتبة مصطفى طلاس، وبالتالي لا يحمل حافظ الأسد في دواخله مفهوم رد الجميل من هذا المنطلق، وكان قد بنى علاقته مع أبناء المذهب العلوي وفقأً للشكل الذي يضمن بقائه، وليس وفقاً لمصلحة أبناء لمذهب وهذا سيتوضح معنا وفق السيرورة التالية:
حافظ الأسد ابن البيئة الساحلية، وابن جبال اللاذقية المدرك تماماً لفقر هذه الجبال، ولشدة الإهمال الذي تعانيه في كل ما مر من الحكومات السابقة، ولكنه بذات الوقت الرئيس الذي استلم منصبه بعد انقلاب دامٍ أطاح فيه برفاق الدرب دون تمييز، وعلى رأسهم العلويين منهم، يدرك تماماً أن استمراره يعتمد على الجيش وسلطة رأس المال، وأن الوسائل الديمقراطية مجرد شعار يرفع، فهو استلم الحكم دون أن يعبر المسار الديمقراطي، وهو بالتالي يحتاج إلى أتباع يجدون في بقائه عامل أمانهم الأساسي، مع استمرار امتلاكه لعنصر الشك الذي لا يفارقه. إنها الصفات المثلى للدكتاتوريات الشخصية، والتي لطالما وجدت في عائلتها الحلقة الأقرب والأكثر ولاءً والتي تصادف في حالة حافظ الأسد أنها عائلة علوية إضافة إلى بعض المقربين العلويين أيضاً، وبالتالي فإن تحالف حافظ مع عائلته لم يكن مبنياً على منطق الفكر المذهبي بل على مفهوم الانتماء العائلي. ووجد حافظ الأسد ضالته الأولى في أخيه الذي يملك أيضاً صفات مشابهة فهو ضابط، وهكذا كان رفعت الأسد هو الشخصية التي يمكن أن يثق فيها حافظ الأسد الذي لم يمتلك حتى تلك اللحظة ابناً شاباً يعتمد عليه ويمنحه ثقته المطلقة. ومن المعروف أن المواصفات النفسية للدكتاتور تجعله أقرب إلى ابنه في الدرجة الأولى فيما يخص أمور السلطة، ولكن الحل الوحيد في حالة حافظ الأسد في تلك اللحظة تمثّل في أخيه رفعت الأسد، أي أن هذا المكان كان مرسوماً رسماً وفقاً لتفكير حافظ الأسد لينطبق على رفعت الأسد. أعطي رفعت الأسد الثقة، وطُلب منه أن يشكل قوة عسكرية ضاربة ومخلصة لسلطته، وهنا بدأ رفعت الأسد بإيجاد حل يتلاءم مع هذه الشروط، وبدأ البحث عن أفراد يمكن ربطهم مصيرياً بالأسرة الحاكمة. بحث رفعت عن خزان بشري لديه بطالة وفقر، وغير مرتبط بأي جهة خارجية، ولديه تاريخ من المظلومية والتهميش، وقادر أن يتحدث معهم عن قرب لمعرفته اللصيقة بهم. إنها أكثر ما تنطبق كمواصفات على أبناء الساحل العلويين.
وجدت السلطة المتمثلة في حافظ الأسد ورفعت الأسد ضالتها في أبناء مذهبها كأقرب درع حماية، ولكن أصبح من اللزوم بالنسبة إلى السلطة أن تبقي تلك المناطق فقيرة كي لا تجد حلولاً إلا لدى السلطة العسكرية ذاتها.
وعلى هذا الأساس بدأت تتكون قوات سرايا الدفاع التي اتخذت شكل ميليشيا خاصة وكانت في أغلبيتها من الشباب العلويين ولم تكن جزءأ من الجيش النظامي بالمعنى الفعلي، بل كانت قوات جهزت لمهام خاصة، ولها قيادة مستقلة في قرارها عن قيادة الجيش النظامية، ولها تسليحها الخاص، ولا تمر بمتطلباتها وأسلحتها وأوامرها عبر المنظومة المباشرة لوزارة الدفاع تبعاً للتسلسلية الهرمية المتبعة في الجيوش، ولا علاقة لوزير الدفاع (مصطفى طلاس) بها، على الرغم من أنه من أقرب المقربين إلى الرئيس حافظ الأسد. يبدو الأمر أشبه بميليشيا داخل الجيش، وبذات الوقت لم تشارك بأي معركة خاضها الجيش خارج الحدود السورية، وموزعة بشكل ممنهج ضمن منطقتين رئيستين في سوريا. المنطقة الأولى: هي في محافظة دمشق حيث تتوضع على تلال الجبال المحيطة بالعاصمة، والمنطقة الثانية جبال الساحل السوري ذي الأغلبية العلوية. كل ضباطها القادة من الضباط العلويين، مهمتها الأساسية حماية مراكز القيادة في دمشق ليس من العدوان الخارجي، بل من أي محاولة انقلاب داخلية، أي بما معناه حماية حافظ الأسد شخصياً. ومن الجدير ذكره قيام عناصرها في مرحلة ما بسلوكين أعطيا إشارة إلى نزعة تطرفية موجهة. السلوك الأول والذي كان له أثر شديد السلبية على بنية المجتمع السوري عموماً، حين أخذ مجموعة من عناصر سرايا الدفاع بنزع غطاء الرأس للسيدات المحجبات، وقد قرأ السوريون عموماً هذا السلوك بأنه توجه طائفي، حيث المحجبات هم من أتباع المذهب السني عموماً. كما كان لسرايا الدفاع الدور الأساسي في قمع الإخوان المسلمين أثناء صراعهم الدموي مع النظام في نهاية السبعينيات، وصولاً إلى مجازر ارتكبت في كل من حماه، وسجن تدمر طالت المدنيين من السنة في حماه، “ولابد من الإشارة هنا إلى أنه كانت قيادات بعثية ممن شارك حافظ الأسد في الحكم، وهم من الطائفة السنية على رأس المشجعين للتخلص من تنظيم الأخوان المسلمين”. من يقرأ هذه الوقائع يتراءى له أنه أمام ميليشيا مذهبية مسلحة تتبع للعلويين، وتنفذ رؤيا مذهبية، ولكن بالغوص في تفاصيل الحدث نجد أن سرايا الدفاع لم تستند الى أي جهة دينية تمثل المذهب العلوي، ولم يتم الترويج في داخل مؤسساتها لفكر مذهبي، مع غياب أي تشريع ديني لدى العلويين يحضهم على بناء ميليشيا عسكرية تدافع عن مصالحهم الدنيوية، والأكثر وضوحاً أنه في مرحلة الصراع بين “حافظ الأسد ورفعت الأسد” الطامح للاستيلاء على النظام، تم استخدام ذات الميليشيا في الصراع (الطرفان المتصارعان علويان بالانتماء المذهبي)، ومن غير المعقول وجود تكتل علوي سياسي ضمن النظام سيسمح بأن تصل الأمور إلى تصفية نهائية كما كان من الممكن أن يحدث. وبعرض نموذج لإحدى العائلات العلوية التي تطوع أبناؤها في سرايا الدفاع، نستطيع أن ندرك النظرة التي كان ينظر بها حافظ الأسد إلى أبناء الطائفة العلوية، وما الدور الذي يريده لهم. عائلات علوية متوسط عدد الأفراد فيها مع الأب والأم 10 أشخاص. لديها مصدر دخل شبه وحيد يعتمد على رب العائلة إن كان عاملاً، أو على إنتاج زراعي يخضع لشروط الطبيعة البعلية. الأطفال مسجلون في المدارس مع نزوع ضخم تجاه التعلم في ظل موارد لا تسمح للجميع باستمرار التحصيل العلمي، فعند تقصير أحدهم دراسياً وتراجعه يصبح عبئاً على العائلة المنهكة أساساً، ويصبح بذات الوقت هدفاً للباحثين عن عمالة محدودة الشروط. نتحدث عن منطقة مهمشة اقتصادياً بلا مصانع ولا شركات سياحية تؤمن لهم العمل على السياحة البحرية مما يُنتج فائضاً في العمالة وفائضاً في الفقر. يتقدم النظام بعرضه المغري ويفتح أمامهم باب التطوع العسكري حيث المؤهلات الجسدية هي المهمة فقط وهي مؤهلات تتوافر بطبيعة الحال لدى سكان الأرياف. يتضمن عرض النظام راتباً مغرياً بمقاييس تلك الأيام فضلاً عن الإجازات والكثير من المغريات الجذابة لمراهق مهمش وشبه منبوذ وغير ناجح في دراسته وكل ما عليه تقديمه هو الولاء المطلق واعتبار كل ما ينطق به رئيسه المباشر مسلّمة لا تقبل التفكيرأو المراجعة. ويتم الأمر ويحصل رفعت الأسد على أعداد ضخمة من اليافعين من الريف العلوي، وتتشكل وحدات سرايا الدفاع ذات الأغلبية العلوية كتركيب مذهبي، وبذات الوقت تبدأ عملية توجيه ممنهج لهؤلاء الشبان اليافعين حول مفهومين أساسيين هما (الولاء والإنتماء)، فالولاء الأساسي الذي لا يجاوره أو ينازعه ولاء هو للأب القائد (وهما هنا شخصان بشخص، الأب المباشر هو القائد رفعت الأسد والذي يمثل الرئيس حافظ الأسد)، وليس ولاء على أنهم أشخاص لهم مرتبة دينية عند العلويين فهم لم يكونوا أساساً من أسرة لها مرتبة دينية، بل ولاء الحاجة الاقتصادية. أما الانتماء السياسي فهو حتماً لحزب البعث الذي يستلهم أفكاره الخلاقة من الرئيس حافظ الأسد كما روّج له، أي يعود ويجير الانتماء أيضاً للرئيس حافظ الأسد. نلاحظ كم هي محكمة الإغلاق هذه الدائرة، والخروج منها بالنسبة للشاب المتطوع شبه مستحيل إن أراد ذلك، فالقوانين العسكرية تجعل من المتمرد على أوامر القائد خائن ويحاكم عسكرياً، والمتطوع يوقّع على عقد بهذا الخصوص يتضمن قبوله بعدم التقدم بطلب تسريحه إلا بعد مدد طويلة عادة، أو لأسباب صحية. وبذات الوقت، مالذي سيدفع شاباً أُنقذ من التهميش والضياع بالعدول عن رأيه والعودة إلى الفقر، وقد أصبح يحصل على جزء متميز من الاحترام من عائلته لأنه يساهم في تخفيف الأعباء المادية عن الأب، ويساعد الأخوة المتابعين في الدراسة، وفي مرحلة لاحقة أيضاً يتمكن من الزواج في مرحلة مبكرة نسبياً ويشكل عائلة تخصه، وخاصة أن هاجس تأمين منزل قد تبنته المؤسسة العسكرية التي يعمل لديها، وأما شريحة الضباط في سرايا الدفاع فقد كان وضعها مختلفاً نسبياً ويمكن معرفته من خلال قراءة هذا النموذج من ضباطها الذي التقيت به في مرحلة سابقة وحدثني عن تشكيل سرايا الدفاع وكان قد تبوأ مركزاً مهماً في قياداتها الميدانية. سألته بشكل مباشر: كيف تشكلت سرايا الدفاع؟ ولماذا؟
أجاب حرفياً: إن السيد الرئيس بعد حرب (1973م) كان محاطاً بالأعداء من الدول المحيطة ومن الداخل، والعدو في الداخل هو الأخطر لأنه عميل مخفي للخارج، لذلك قرر مع أخيه القائد رفعت تشكيل قوة داخلية مخلصة لحماية القيادة من أي تهديد داخلي.
وكان القائد رفعت شخصياً يذهب إلى الكليات العسكرية التي تخرج الضباط ويقوم باختيارنا بناء على قدرتنا الرياضية وتفوقنا في الكلية العسكرية.
سألته: هل كان يختار غير العلويين، وهل تم اختيارك لأنه تمت تّزكيتك من المشايخ؟
أجاب: حصرياً كنا من العلويين ولكن لا حاجة لأن نزكى من المشايخ لأن القيادة (رفعت الأسد) لها بصيرة نافذة ومعرفة أكثر من المشايخ.
ماذا كان واجبكم وبماذا كنتم تؤمنون؟
أجاب: واجبنا الأساسي حماية الرئيس من أعدائه في الداخل وتنفيذ ما يراه القائد رفعت ولا نأتمر بأمر غيره ولا علاقة لأي سلطة ثانية بنا.
ومن معرفتي المباشرة بهذا الضابط أستطيع أن أنقل بعض مواصفاته، هو الأخ الأكبر من عائلة مكونة من عشرة أفراد غير الأب والأم، كان أقل أفراد أخوته تحصيلاً في النتائج الدراسية، فلديه ثلاث أخوة مهندسين وأخ حقوقي، ولكنه كان الأصلب بينهم كبنية جسدية وفي المرحلة التي احتل فيها مراكز قيادية في سرايا الدفاع، شكّل حاجزاً بينه وبين أبناء قريته، وكان يتعاطى معهم بطريقة سلطوية، ويعيش في حالة مادية جيدة بالمقارنة مع أقرانه من أبناء القرية، بالإضافة إلى ملكيته لأكثر من سيارة أعطيت له من القيادة، في الوقت الذي كان لا يتجاوز عدد السيارات الخاصة حينها في تلك القرية البالغ عدد سكانها (2000) نسمة سيارتين، وقد حاول أبناء القرية التقرب منه لتسهيل أمورهم لدى السلطات وكان قليلاً ما يستجيب لهم، ولم يكن في تلك المرحلة يعتقد بأهمية المرجعية الدينية التقليدية (المشايخ)، بل أحياناً كان يتعدى على دورها، ويصنع له بعض الأتباع من المريدين الراغبين بالحصول على معرفته الدينية، والتي كانت بسيطة ولكن الشبان كانو يتقربون طمعاً بالاستفادة من سلطته العسكرية، ولكنه كان حاسماً تجاه أي فكرة أو شخص ينتقد السلطة السياسية، ولا يساوم على ذلك، واتضح هذا تماماً عندما اعتقلت السلطات ابن عمه الذي كان ناشطاً في الأحزاب اليسارية، وقد استدعت السلطات والد المعتقل مرات عديدة وعرّضته للإهانة وهو طاعن في السن، وكان عم الضابط وحين لجأت العائلة إلى الضابط الذي هو قريبها المباشر، رفض التدخل حتى لمساعدة عمه، وكان رده أن ابن عمه مخطئ، ويجب أن يحاسب لأنه عارض السلطة، وأما عمه فهو ملام لأنه لم يحسن تربية ابنه، وهو غير مستعد للتدخل في مثل هذه الإشكاليات لأنها أيضاً قد تؤثر على مستقبله، ونظرة القيادة لإخلاصه.
ومن هذين النموذجين العاملين في ميليشيا سرايا الدفاع وكيفية استقطابهما، يتضح لنا أن النظام السوري المتمثل بحافظ الأسد لم يكن لديه أي مصلحة في تطور البنية الاقتصادية لسكان الساحل السوري العلويين، كي تبقى حاجاتهم الاقتصادية مرهونة بعلاقتهم مع الأسرة الحاكمة، ولم يتضح أي جنوح لدى النظام لتجميعهم تحت مظلة سياسية ذات مسمى طائفي (علوية سياسية) بل استمروا في انتمائهم السياسي إلى حزب البعث في معظمهم. وتم في مرحلة لاحقة دعم هذه التشكيلات العسكرية بإقامة دورات “صاعقة لطلبة الشهادة الثانوية” تمنحهم ميزة الدخول إلى الجامعات بحصولهم على علامات تضاف إلى علاماتهم التي حصلوا عليها، وذلك مقابل ولائهم التام للقائد حافظ الأسد.
فهل استطاع نظام الأسد رهن كامل أبناء الطائفة لمصلحة استمراره؟
تأتي الإجابة على هذا السؤال من خلال البحث عن التكوينات المعارضة لنظام الأسد الأب داخل أبناء الطائفة العلوية.

4.1.4 المعارضة السياسية لنظام الأسد داخل أبناء الطائفة العلوية
تحدثنا عن أفراد من العائلة، ومن الذكور حصراً الذين لم يفلحوا في متابعة تحصيلهم العلمي، وهم لا يتجاوزون في معظم الحالات شابين في العائلة كحد أقصى، ولدينا بقية الأخوة المتابعين لتحصيلهم وبعناد مشهود له، فالإحصائيات تدل أن أقل نسبة أمية في سوريا هي في الساحل أي عند العلويين، وبذات الوقت أعلى نسبة خريجين جامعيين، فهناك تعطش حقيقي لديهم للتحصيل العلمي ولديهم خيارات مختلفة نجمت عن تحصيلهم العلمي مقارنة بأخوتهم اليافعين الضحايا الذين تم ذكرهم. منحتهم هذه المعرفة المتراكمة طموحاً للحصول على مراكز متقدمة وأكثر أهمية في مجتمعهم من المراكز العسكرية، وبذات الوقت قادتهم المعرفة غير المؤدلجة بإطار الحزب القائد (حزب البعث) إلى استنتاجات لم تكن لصالح تأييد النظام القائم، ودفعتهم للبحث عن بدائل سياسية عن حزب البعث الحاكم، وخاصة أن منطقتهم قد تم فيها زرع أفكار لأحزاب في مرحلة سابقة غير حزب البعث، وتمثل قمة الفكر اليساري حينها، وهو الحزب الشيوعي السوري الذي وجدوه في بداية الأمر معبّراً عن جزء من طموحهم في تحقيق مفاهيم العدالة والاشتراكية، وتجذيراً لفكر الشغيلة من فلاحين وعمال، ولكنهم سرعان ما استنتجوا أن هذا الشكل الرسمي للحزب الشيوعي قد تم ترويضه لصالح الحزب القائد حزب البعث، مما دفعهم للانشقاق عنه، والانضمام لأحزاب شيوعية ذات بنى ثورية سرية ساهموا في تشكيلها مع بقية أبناء المذاهب السورية وكان أبرزها “حزب العمل الشيوعي”، وهكذا ظهر لدينا بنيتين متناقضتين من حيث نظرتهما لسلطة حافظ الأسد. بنية مرتبطة بوجوده وهي التي تمت عسكرتها، وبنية تراه دكتاتوراً ويجب إسقاطه بالوسائل السلمية. ووجد داخل العائلات ذاتها وجهتي نظر، من يقدم حياته في سبيل استمرار نظام الأسد، ومن ينادي بالإطاحة به.
فكيف واجه النظام هذا التمرد في منطقة يعتبرها خزان الإمداد لحمايته الشخصية كمورد بشري عسكري موال حتى الموت؟
من المعروف أن حافظ الأسد كان بارعاً في إمساكه العصا من وسطها في علاقاته الدولية الخارجية، ولكنه ومنذ استلامه الحكم في سوريا كان لا يؤمن إلا بمسك العصا من طرفها بالنسبة لمعارضيه في الداخل أياً كان انتماؤهم، فاستخدم سلاحين فتاكين لقمع هذه المعارضة. السلاح الأول والذي أبدى فاعلية حقيقية هو: سلاح التجويع الذي استعمله النظام بشكل منظم بوجه معارضيه من العلويين، فهذا الخريج الجامعي بعد عشرات السنين من الدراسة، والأحلام التي بناها وبنتها عائلته تحتاج إلى ترجمة على أرض الواقع، وهو العمل وفقاً لاختصاصه. وفقاً للظرف السوري حينها، كانت الشركات الخاصة شبه معدومة، ومن لديه قدرة على الاستثمار في مشاريع خاصة يجب أن يكون لديه رأس مال كبير، وهذا غير متوفر لدى معظم أبناء المذهب العلوي، وبالتالي فالمكان الوحيد لاستيعاب هؤلاء الخريجين الطامحين، هي شركات القطاع العام المسيطر عليها من قبل نظام الرئيس. وكان الشرط الرئيسي لقبولك في هذه القطاعات أن تكون بعثياً ترى في حافظ الأسد ملهماً للبعث وهذا بالدرجة الأولى، وإن لم تكن بعثياً منظماً بشكل رسمي، يجب أن تكون موالياً للبعث، وهذا ما كان يسمونه بالحياد الإيجابي. ومن لا تنطبق عليه هذه الثنائية لا وظيفة له. وبكل بساطة فإن تقريراً لدى الأجهزة الأمنية من أي مخبر أو من أحد أعضاء حزب البعث يشير إلى أنك لا تنتمي إلى هذه الثنائية، يجعلك تفقد فرصتك وأملك الوحيد في العمل لدى شركات القطاع العام، مما جعل الكثيرين من أبناء المذهب العلوي الجامعيين وغيرالمقتنعين بمسيرة حكم الرئيس حافظ الأسد، يكتمون قناعاتهم لأجل ألا يخسروا كل أحلامهم في الحصول على وظيفة، وكي لا تصبح شهاداتهم الجامعية مجرد أوراق تعلق على الجدران دون فائدة معيشية منها. لاحق النظام معارضيه في محيطهم الاجتماعي وحاول عزلهم داخل مجتمعهم وجعلهم منبوذين. إن مجرد الاحتكاك مع هؤلاء المعارضين يمكن أن يضعك في دائرة الشبهة، والتي تقلل فرص حصولك على عمل وإن لم تكن تنتمي إليهم بأفكارهم المعارضة. ومن سينقل اقترابك من دائرة المعارضة، هو أحد جيرانك أو أقاربك وربما أخوك لأنه سيصبح ذي حظوة عند السلطة، وقد يقبض أموالاً عن التقارير التي يشي فيها عنك. أما نبذ المعارضين فكان يتم عن طريق تحميلهم عبء تقاعس النظام عن تقديم الخدمات الضرورية لهذه الأرياف، فبكل بساطة حين كان يسأل أحدهم لماذا لم يتم توصيل الكهرباء إلى تلك القرية؟ يكون الجواب حاضراً وهو كيف من الممكن للدولة أن تصل الخدمات لقرية مملوءة بمعارضيها، فيزداد الحقد من أبناء القرية ذاتها على بعض أبنائها ويتم نبذهم، وتصبح العلاقات الاجتماعية داخل أبناء القرية الواحدة مأزومة رغم أنهم من ذات المذهب، وبالتالي لا وجود لظاهرة سياسية تجمع أبناء المذهب وتأتي أوامرها من الأعلى بإتجاه الأسفل مثل العلوية السياسية.
وكما هي الحرية متلازمة عقلية للإنسان يبقى هناك أناس لا تستطيع وسائل الحرمان الاقتصادي، والحصار المجتمعي من ثنيهم عن البحث عن البدائل السياسية الأفضل من وجهة نظرهم. لذا استمرت مجموعة من الشباب ذوي الانتماء العلوي المذهب في حراكها السياسي السلمي المعارض، وهذا ما لم يسمح به النظام السوري حينها بزعامة حافظ الأسد مزودا بكل الوسائل التي يملكها من خلال قوانين الطوارئ الذي يستبيح كل المفاهيم الحقوقية. وبذلك بدأت حملات اعتقال طالت كوادر هذه الأحزاب المعارضة التي لم يتمكن النظام من ترويضها، ومن بين من طالتهم العلويون المنتمون إلى هذه الأحزاب.في بادئ الأمر تم زجهم في المعتقلات لسنين طويلة دون أي محاكمة وتم استخدام كافة أشكال التعذيب الجسدي والنفسي وصولاً إلى “التصفية الجسدية”، وحقيقة الأمر أن السلطة لم تميز بين المعارضين تبعاً لانتمائهم المذهبي، فوضع العلويين المعتقلين لم يكن أفضل من غيرهم بل على العكس، ففي بعض الأحيان كانت تطبق العقوبة الأشد على أبناء المذهب حين يكون التحقيق من قبل بعض العناصر الأمنية العلويين الذين لم يقبلوا فكرة أن سجينهم علوي ويعارض نظام الرئيس حافظ الأسد. أصبح لدى مئات العائلات العلوية أبناء داخل السجون، ومن هنا نجد بوضوح أن العلاقة بين سلطة حافظ الأسد وعموم المذهب العلوي لم تبنَ بناء على وحدة المذهب، بل بنيت على مصلحة تم فرضها من الأعلى باتجاه الأدنى كأي نظام دكتاتوري. في المحصلة بات السواد الأعظم من أبناء المذهب يمشي في مسارات محددة وكل خروج عن الأيديولوجيا الحاكمة يكون ثمنه غالياً. وهكذا نجد أن عموم أبناء المذهب العلوي لم يكونوا منضويين تحت رؤيا مذهبية سياسية واحدة خلال فترة حكم حافظ الأسد، أي لا يوجد لديهم هوية سياسية مذهبية (العلوية السياسية)، وبذات الوقت فإن الرأس الأعلى في هرم النظام لم يكن يسيّر من قبل تجمع علوي سياسي يضم حافظ الأسد ورفعت الاسد وآخرين من الطائفة العلوية، لأنه في حال وجود مثل هذا التجمع كان سيمنع وبشكل مؤكد حدوث الصدام الدموي الذي حدث بين حافظ الأسد ورفعت الأسد والذي انتهى بترحيل رفعت الأسد خارج سوريا، وحل ميليشيا سرايا الدفاع، والدليل الدامغ على غياب مفهوم العلوية السياسية في مرحلة حافظ الأسد، هو أن حافظ الأسد حين أصيب بمرض عضال عام 1983وكاد أن يصل الى مرحلة الموت قرر أن يعين مجموعة لتسيير شؤون الحكومة أثناء علاجه، وكانت مخولة منه مباشرة وضمت ستة شخصيات بين عسكرية ومدنية ولا يوجد بها أي علوي”عبد الحليم خدام/وزير الخارجية، مصطفى طلاس/ وزير الدفاع، حكمت الشهابي/ رئيس الأركان، عبد الرؤوف الكسم/ رئيس الوزراء، زهير مشارقة/ الأمين المساعد للقيادة القطرية في حزب البعث”. فأين هي العلوية السياسية القائمة في هرم النظام التي تسمح بذلك في حال وجودها