°
, March 19, 2024 in
آخر الأخبار
عيـســـى ابــراهـيـم

سوريا من “الدولة الأبوية ” إلى” حكم العائلة ” 2

في تداعٍ لمآل إدارة “الدولة” السورية، القائمة على مفهوم الدولة “الأبوية”، حدث اهتزاز مفصلي في رأس الهرم بسبب مرض “الأب القائد” في عام 1984، مرض لشخص “الرئيس” كشف عن هشاشة بنية “النظام” السياسي المزعوم في إدارة سوريا، وكشف أن الدولة تُدار بعقلية “الأب – الأمير” الذي يُدير مزرعة لا بلد، وأن الهياكل الحزبية والسياسية التي تأخذ تسميتها من علم الاجتماع السياسي الحديث والمُعاصر، تُستحدث وتُدار وتُستثمر بمآل الأمور، وفق عقلية أبوية-أميرية قديمة قِدَمَ هذه المنطقة.

عقلية أبوية-أميرية عززتها الصلاحيات المطلقة بيد رأس السلطة، فعند بدء بوادر مرض رأس السلطة حافظ الأسد، تَشكّلت لدى أخيه رفعت، القناعة بأنه البديل عنه في رئاسة المجتمع السوري، وحيث “المؤسسات” الخاصة بالدولة والحزب لم تكن حقيقية للدرجة التي تسمح بتجاوز مرض “الرئيس” بالاستعداد لانتقال سلس للسلطة والدولة، لأحد أعضاء قيادة الحزب أو الدولة مثلاً، بل كان الحقيقي والجَدّي، هو دور الأخ ومكانته في الدولة وحلمه في الانتقال، وهو أمر لم يتم تجاوزه، إلا بصفقة تمّت إثر تعافي حافظ الأسد صحياً، صفقة تضمنت خروج رفعت إلى المنفى مع ما يحتاجه من مال وغيره.
صفقة تمّت خارج أي مفهوم مؤسسي أو حزبي، وبإطار عائلي عَكَس انعدام مفاهيم العقد الاجتماعي، أو وجود دولة بالمعنى الحقوقي المعروف علمياً، وهو أمر ترافق مع ضعف كبير في الاقتصاد والخدمات والتعليم… إلخ.
وكذلك ترافق مع البدء بتعميق نمط الإدارة “الأبوية” للدولة، في “سوريا الأسد”، ومن ذلك إدارة التناقضات واللعب عليها وتعميقها، بل وخلقها إن اقتضى الأمر بين البنى الاجتماعية، ليس فقط على مستوى الطوائف والإثنيات بل حتى في إحداث تغييرات داخل تلك البنى وتعميق تناقضاتها الداخلية، في ظل انعدام أفُق خطط واضحة للتنمية المجتمعية.
وبدلاً من أن يتم النظر لما جرى في حماة وغيرها على أنها إشارات مهمة للخلل الحاصل في إدارة الدولة السورية، وكذلك للخلل في بنية المجتمع السوري، وحاجة هذا المجتمع لتطور في الإدارة، ولتعميق مفاهيم مشتركة لديه، من خلال البدء ببناء عقد اجتماعي جديد يجعل من انبثاق السلطة وتداولها أمراً يسيراً قدر الإمكان، عقد اجتماعي يضع سوريا بخطوة أولى على درب التمدن الطويل؛ بدلاً من كل ذلك تمّ العودة للعبة عينها في إدارة التناقض المجتمعي وإعادة صياغة البنى المجتمعية.
ومن الإجراءات الملفتة هنا، قيام الأسد الأب في عام 1985 بتكليف الشيخ عبد الله علّوش بتأسيس أول معاهد الأسد لتحفيظ القرآن “وهو من المذهب الحنبلي وهو مذهب سني صغير جداً في سوريا متوزع في بضع مناطق صغيرة حينها”، حيث كان الشيخ علّوش من أوائل السلفية الوهابية في سوريا، وهو والد زهران علّوش .
وغني عن البيان ما أحدثته هذه المعاهد في بنية التّدين السوري التقليدي المعتدل لمصلحة التطرّف لاحقاً.
ومن ثم حدثت هزّة أخرى عزّزت الفهم لطبيعة “النظام” الذي يُدير سوريا، وذلك عند وفاة ابن الأسد الأب، باسل الأسد 1994، الذي كان يُعدُّ كبديل لأبيه في قيادة البلاد في كل المؤسسات التي يقودها من حزب وجيش وسلطة تنفيذية… إلخ، حيث لم تكن تلك المؤسسات بمآل الأمور لتنتج بديلاً في القيادة، بل كان البديل وفقاً لطبيعة القيادة “الأبوية” يستدعي وراثة الابن لأبيه حال موته، بعد تجهيز الأب لابنه حال حياته.
وهو أمر سَيُكرّس وسيتضح بشكل نهائي عقب وفاة الأسد الأب في عام 2000، ومن ثم تنصيب ابنه الأخر بشّار الأسد بتعديل دستوري ليُلائم عمر الابن، وليخلف الابن أباه في كل مسؤولياته كرأس هرم في السلطة التنفيذية بصلاحيتها الأميرية المطلقة وفي قيادة الجيش والقوّات المسلحة وفي رأس حزب البعث العربي الاشتراكي.
وحيث لم يكن حاضراً في تلك المؤسسات ولا في ذهن رئيسها الأسد الأب تجهيز النسق الثاني والثالث من القيادة من أجل مواجهة تداعيات الأيام وفراغ القيادات في الصف الأول والثاني، ومواجهة معضلة “البديل”.
بل بدا وبشكل جلي أن البديل الذي كان يُجهّز هو الابن، ومن ثم يتداعى ذلك في كافة مفاصل القيادة وبما يلائم قيادة الابن الجديدة للدولة “سورية الأسد”.
وتداعى الأمر مرة أخرى في الذهن الجمعي السوري العام، حول ضرورة إجراء إصلاحات حقيقية في الحياة السورية عبر إصلاح سياسي يُؤسس لنمط مختلف في الإدارة والعمل السياسي والحياة السياسية العامة.

بيد أن ما هو مُعلن من شعارات عامة كبيرة غير قابلة للقياس والتحقق من نسب الإنجاز، كان مختلف عما هو مُضمر من أهداف تفصيلية واضحة محددة قابلة للإنجاز في ذهن رأس الهرم الجديد، كما كانت واضحة على الدوام أيضاً في رأس أبيه، فَطَرح هذا الأخير مفهوم الإصلاح الاقتصادي كبديل عن الإصلاح السياسي وتمّ تسويق ذلك عبر: حاجة السوريين المّاسة لرفع دخلهم وبما يلائم تلبية حاجاتهم اليومية، وهو مطلب حق حينها، أُستخدم من أجل البدء بالاستحواذ على الاقتصاد، بعد أن كان تمّ الاستحواذ على السلطة ومفاصل المسؤولية فيها، وذلك الإصلاح ساهم بأخذ قطاع الخليوي من ملكية الدولة السورية الى ملكية “الرئيس” بواجهته الاقتصادية ابن خاله، وكذا الأمر بكثير من قطاعات الاقتصاد الأخرى، وصولاً لينتهي ذلك الأمل الذي بدأ عند بعض السوريين بقدوم الشاب الجديد ورغبته بالإصلاح!
أمل بعثته بالنفوس، الرغبة والنية الحسنة لدى السوريين بالإصلاح التدريجي، علّ الأمر يُعفي سوريا من تداعيات كارثية لا قِبَل لها بها، بيد أن الأمر في ذهن عامة السوريين كان مُختلف عما في ذهن خاصتهم.
وكانت حصة السوريين من العهد الجديد الشعارات الكبيرة عينها من عهد الأسد الأب وما أضيف إليها بعهد الأسد الابن من تحديث وتطوير، تلك الشعارات الكبيرة من ناحية الوحدة مثلاً لم تكن لتخفي الانقسامات الحادة في كل مستوى ديني أو إثني أو مناطقي في سوريا، وكذا الاشتراكية لم تكن قادرة على تغطية سرقة المال والثروات العامة من قبل رأس السلطة والمافيا المحيطة به بذريعة محاربة الرجعية العربية والبرجوازية المحلية؛ وكذا الحرية، كان قانون الطوارئ الممتد منذ عقود، كفيل بمعرفة مصيرها.
واتضح مع الوقت أن التحديث والتطوير والإصلاح الاقتصادي كان الطريق المعلن من أجل إعادة مسك الاقتصاد كاملاً من قبل رأس الهرم السلطوي، بعد أن تشارك به لعقود مع أخرين من التجار، بلعبة تناغم وتبادل مصالح مُعلنة بين الطرفين، وهو المُستولي سابقاً على كامل السلطة ومفاصل المسؤولية.
وانتقل الاحتقان المجتمعي إلى مستويات جديدة وخطرة ووصل حتى شركاء الأسد الابن وأبيه في السلطة، بسبب الأنانية المفرطة للابن في الإدارة والاستحواذ على الثروة والسلطة وكل شيء وانهيارات عامة في كل مجال، تُغطّى بإنجازات وهمية بالسياسة الخارجية، عبر خلق وهم وغيب سياسي خارج الحدود يدغدغ العواطف،غير قابل للقياس ولا التّمتّع بفوائده المُفترضة من قبل السوريين!
وبدا الأمر ذاهب، بدون عناء بالتنبؤ ذلك، نحو الانفجار، حيث مُستقر هكذا نمط في إدارة المجتمعات .

1 آب 2017