°
, March 19, 2024 in
آخر الأخبار
عيـســـى ابــراهـيـم

” إحتلال السلطة ” -5-

الخطاب الأخير للأسد الأبن أمام موظفي وزارة الخارجية والمغتربين في 20 آب 2017 , هو تعبير أكثر وضوحاً عن مآل الأوضاع في سوريا ، حيث الكارثة الإنسانية الأكثر فداحة في العصر الحديث على الأقل ، التي خسر فيها كل سوري أمراً ما ، شخصاً ما ، ملكية ما …. الخ إن بقي هو كسوري على قيد الحياة .!
إلا الأسد الإبن فقد خرج بدون أي خسارة ، في أي مستوى ، بل إستثمر في الخراب الحالي كما في الخراب السابق الممتد لعقود ، كما إستثمر والده الأسد الأب ، في الجهل وإرث التّخلّف واللغة الشعاراتية غير الممسوكة لعقود .
وكما إستثمرا سوية في مفهومي التحرير والمقاومة والإشتراكية ، وغيرها من الشعارات الكبيرة غير القابلة للقياس والتّحقق من نسب الإنجاز بالنسبة للمواطن السوري ، هذا المواطن الذي خسر وجوده لمصلحة غيب سياسي لا يُدرك . الوجود عينه الذي درّ على الأسد الأب والإبن ثروة وسلطة وسيطرة ممتدة شاملة عامة …. الخ .
يُبرز هذا الخطاب بشكل مُلفت فهم الأسد الإبن لسوريا ولما جرى ويجري فيها من خراب وموت , ففي ظل تلك الأنا المُفرضة المُتدحرجة بذاته، يُصبح هو سوريا ، وسوريا هو ، فهو مالكها ، فتميل سوريا ومصلحتها، وفق أناه الشخصية ومصلحته الفئوية ، فالدولة والمجتمع والوطن السوري ، مفاهيم غير حاضرة في خريطته الذهنية ، بل هي مفردات ، يُدير بها الجموع الذي يستقطب بعضه بهكذا كلام .
كل الموت والخراب الذي لحق بكل سوري وسوريّة ، هو أمر له تفسيره الإيجابي بالنسبة له ، من مفهوم سوريا تُنظف نفسها الى أخر قوله بتجانس السوريين بعد كل هذا الموت والخراب في كل محل ومن كل صوب !!!!
إلا المطالبة بتداول السلطة والبدء بحياة سياسية طبيعية وإعادة الثروات المسروقة …. الخ فهذه أمور الحديث عنها أمر لا يجوز ولا وجه إيجابي فيه ، وغير مطروح ، بل لا يجوز طرحه !!!
بالنسبة له فكل هؤلاء الشباب السوريين الذين قُتلوا في طرفي الأمر ” كثير من هؤلاء الشباب بعمر إبنه وأبناء أقرباءه وأبناء المافيا المُتمتعين بثروات السوريين ” لا يعنون له شيئاً ، وهم إن عنوا له ، فهم فداء سوريا التي يملكها ويستثمرها ، ولا سوريا غيرها بذهنه .
بل أنه يُقَيّم دول العالم دولة دولة ورؤساء تلك الدول وينتقد سياسياتها الاقتصادية والعامة وهو الذي عجز مع أبيه قبلاً عن تأمين الكهرباء على مدار أربع وعشرين ساعة للمواطن طيلة أكثر من نصف قرن من الحكم !
سبع سنوات قُتِل فيها حوالي مليون سوري منهم حوالي مائة وخمس وعشرين ألف علوي ضمناً ، إضافة لبقية تفاصيل الكارثة الأخرى …
نتج عنها بقاء ما كان :
من إستحواذ كامل للأسد الإبن ، كما أبيه ، على السلطة والثروة وكامل الصلاحية السياسية والأمنية و السيطرة المطلقة في سوريا … الخ
كل ذلك ، يبدو أنه كان ، حتى يبقى كرسي السلطة والحكم ، هذا الكرسي الذي جاء عبر إنقلاب عسكري قامت به عدة دبابات وعناصر عسكرية إحتلوا مبنى الإذاعة والتلفزيون في دمشق ، وبرعاية أمريكية روسية إسرائيلية ، إنقلاب عسكري قام به حينها وزير دفاع ربح شخصياً ، من خسارة ” بلده ” لهضبة الجولان كاملة لصالح إسرائيل في عهد توزيره وبستة أيام فقط !
تلك الهضبة التي يستحيل تقنياً إحتلالها بسبب إرتفاعها الشاهق عن محيطها في طبريا وأراضي فلسطين الشمالية …
وفي المقاربة عينها تكون خسارة سوريا لأبناءها ومقدراتها وثرواتها ، الربح الشخصي للأسد الإبن في استمرار ” إحتلال السلطة ” في سوريا ..
ولعل أرقى أنواع الإحتلال الحديث ، هو إحتلال السلطة عبر شخص أو عائلة تمتطي الدولة، أو تستثمر حزباً يُوصلها لإمتطاء الدولة ، في مجتمع كالمجتمع السوري ، شأنه شأن مجتمعات المشرق ، التي لديها تاريخ طويل من القهر والإستبداد الممزوج بالقداسة الدينية ، تاريخ مُحرّكه السلطة الأبوية المُسيطرة ، و تداعياتها الثقافية والإدارية في تفكير العقل الجمعي …
وحيث في ظل هذا التفكير ، يَسهل وضع ” الأب القائد ” عبر ” إحتلال ” السلطة بإنقلاب عسكري أو بغيره ، ليبقى ” الأب ” في كرسي الحكم ، طالما بقي على قيد الحياة ، وليرث ” الإبن ” أبيه حال وفاته ، في كل ما يملك من كرسي الحكم …..الى كامل البلاد …
إن ” سورية الأسد ” هي النموذج الأكثر تبلوراً لكيفية إحتلال دول عبر إحتلال السلطة فيها ، من قبل فرد أو عائلة ، فَيُنتج هذا الإحتلال المُغلّف بالبعد الوطني كل المفاعيل الإيجابية للإحتلال التقليدي ، ويتجاوز كل سلبياته ، حيث يتم الإستفادة من آلية عمل ” الدولة ” في إستنزاف ثروات البلاد ” سوريا ” وإيداعها في بنوك دول ” عدوّة ” عداوة مُفترضة بدون قتال وبدون جهد وبأدوات “الدولة ” نفسها وبالطرق ” الشرعية ” المُفترضة فيها ، حيث المواطن السوري مُغيَّب تحت وقع الشعارات الطنانة الكبيرة التي تُعمى بصره وبصيرته عما يجري .
فتذهب عائدات الخليوي التي يُقدَّر مردودها الإسبوعي بعشرات الملايين من الدولارات ، فما بالك بمردودها السنوي أو العقدي ! وكذا مردود النفط الذي منذ عقود موضوع ب” أيدي أمينة ” لم تُدخله الخزينة العامة السوريّة يوماً ، أو مردود حقول الفوسفات التي تبين لاحقاً أن بعضها يُنتج اليورانيوم !
أو مردود الغاز ، الذي لسوريا كما تُبيَّن الدراسات مرتبة من المراتب الثلاثة عالمياً … الخ
وكل هذا المال المسروق، مُودع هناك في تلك الدول التي يدّعي هذا “النظام ” عدواتها !
في حين تُفرض وتُجيى في “الدولة” الضرائب على ، ومن، جميع المواطنين السوريين ، ويصرف على الخدمات لهم منها ، و هي خدمات بطبيعة الحال دون الحد الأدنى لهم كبشر .
بل هي أدنى من الخدمات التي تُقدّمها عادة دول الإحتلال لمن تحتل أرضهم ، وفقاً لمتطلبات وجودها كمحتل مقبول لا بد له من تأدية بعض تبعات الإستقرار في تقديم الخدمات .
كما في ظل الإحتلال الإفرانسي تاريخياً لسوريا ، أو في ظل الإحتلال الإسرائيلي في الجولان أو التركي في لواء إسكندرون وأراضي سوريا الشمالية ، حيث يتمتع السوري هنالك بخدمات تفوق بما لا يُقاس ، الخدمات المُقدّمة له في ظل هذا النموذج الجديد من الإحتلال : ” إحتلال السلطة ” .!
ويستعين هذا ” المحتل الجديد للسلطة بجيش من ” المُرابعين ” الجدد المربوطين بحاجتهم لديه ك ” الإقطاعي ” الجديد :
” الأب القائد ” .
” المُرابعون” الجدد من موظفي الجيش والإدارات العامة وتوابعها الذين لا يتجاوز عددهم حوالي مليونين أو ثلاثة بأحسن تقدير ، يتحولون بمآل السياق الذي يُوضعون به ، وبمأل مصدر دخلهم المربوط بدوره بيد ” الإقطاعي الجديد – الأب القائد ” وبمآل فعلهم ، بمعزل عن النوابا الطيبة للكثير منهم …
يتحولون ل ” جند أوفياء ” في المسيرة الأبوية عينها .
وهنا يتجاوز إحتلال السلطة كتجلًّي جديد لأنواع الاحتلال القديمة ، يتجاوز كل سلبيات المفهوم القديم للإحتلال ، عندما لم يعد ممكناً التمييز بينهما في ذهن العامة، بل أصبح الإلتباس المُضلل ميزة إضافية فلا يمكن للمواطن المسلوب الرؤية أن يشك ب ” الأب القائد الأمين ” المُحتل السلطة لمصلحة الخارج، والقائم بكل إجراءات الاحتلال ولكن دون إعلان ….
يبدو أن السوريين الآن أمام التجربة الثالثة في تاريخهم الحديث تجاه تجديد “بيعة ” إحتلال السلطة حيث الأولى في إنقلاب 1970 والثانية في أحداث الثمانيات وإحكام القبضة بعدها ، وهذه الثالثة في 2017 والتي قد تُتوج بالبيعة في وقت قريب ، وهي بيعة كان دائماً مبرر مآل بقاءها هو : الإسلام السياسي ، الذي يرعاه الغرب كما يرعى هذه الأنظمة المحتلة السلطة في الوقت عينه .
واضعاً إيانا كسوريين وكبشر أما خيارين يجعلنا ، بمآل فعله وعدم فعله ، نتوزع على طرفي معادلته المُفترضة :
إمّا إستبداد وديكتاتورية أو تطرف وإرهاب !
ولا نميل على طرف معادلتنا الخلاصية من الإستبداد والديكتاتورية والتطرف والإرهاب ، وذلك لسببين هما :
قوة هذا الغرب الحضارية أولاً ، والأهم مساعدتنا له بإرثنا الفكري – الديني الغني بدعم المُستبدين والإستبداد والديكتاتورية ، المغلَّف بقداسة الدين الذي ” أُخرج ” منه الله الى غير رجعة ، لمصلحة المستبدين ورؤاهم الفكرية المقدسة …

مرة أخرى لم يكن ليكون هذا الخطاب الأخير للأسد الإبن بهذه القوة منه وإعلان ” النصر ” لولا ضوء أخضر ، كما شأن الضوء الأخضر له سابقا ً بإجراء انتخابات رئاسية في بعض مناطق سوريّة دون بعضها الأخر في 2014 …
ضوء أخضر أمريكي – إسرائيلي واضح له لا لبس فيه ، ضوء أخضر سبقه معونة للأسد الإبن ، عبر غرفتي ” الموك ” و” الموم ” أبعدت النار عن مقر الأسد الإبن واستهدفت النار عينها ، المساحة المُفترضة للحراك السياسي السلمي في المدن والبلدات السورية ، لأن في هذا الحراك مقتل الأسد الإبن ، تاركة داعش والقاعدة ومن لفّ لفّهما يمرحون في سوريا ..!
دون أن ننسى تنسيق إسرائيل مع داعش في المنطقة الجنوبية ، ولا دور الطائرات الإسرائيلية في قصف المدن السورية دون إعلان ، وتمرير بعض أخبار مُضلله ، حول قصفها مواقع حزب الله ، ولم نرى يوماً بيان ذلك ، هذا الحزب الذي فُجعنا به كما فجعنا بغيره ..
أمّا تلك الدول الإقليمية كإيران وغيرها والدولية كروسيا فهي هامش على متن ، متروك لها هامش الفعل من المتن !
نعم خسارة سوريا هي ربح للأسد الإبن وجواز مرور للإستمرار في ” إحتلال ” السلطة ، كأرقى مفهوم إحتلال للدول عبر ” الأب ” والدولة الأبوية المُغيبة للقانون … فحيث يحضر الأب يغيب القانون …
دُمّرت سوريا وقتل السوريين ، ولم يبقى بيت سوري لم تدخله مأساة ، دون بيت الأسد الإبن والمافيا المساعدة له ، حيث كانت كارثتنا الإنسانية ، فرصتهم الأثمن !
وكان الإنتصار في “حرب كونية ” لمصلحة الأسد الإبن خلال ست سنوات !
الأسد الإبن الذي لم “يقدر” أن يُعيد الجولان الذي خسرته سوريا وربح والده الأسد ، بخسارتنا الجولان : حكم سوريا ….
لم يقدر أن يستعيده خلال سبعة عشر سنة من حكمه ،والممتد بعد ثلاثين من حكم أبيه !

21 آب 2017