°
, March 19, 2024 in
آخر الأخبار
تفاصيل

عبارة سوريّة تغيّر تاريخ المسيحيّة: فايز مقدسي

بعد اكتشاف مملكة أوغاريت سوريا في الربع الأول من القرن الماضي، والحصول على ألواح عديدة مدوّنة برموز أبجدية تعتبر وحتى اليوم أقدم ابجدية في التاريخ، وبعد أن تمكن العلماء من فكّ رموز الأحرف وقراءة النصوص المدوّنة على الألواح وفهم مضمونها، قاموا بنقل النصوص إلى اللغات الأوروبية، ومنها الفرنسية، حيث بذل المختصّ الآثاري الفرنسي الراحل شارل فيرللو جهدًا كبيرًا في الترجمة وفهم المضمون ونقل أكثر النصوص الى الفرنسية. هذا العالم الكبير وفي محاضرة له في سنوات الـ 50 من القرن الماضي، أتت على لسانه تلك العبارة التي يجب أن يخلّدها التاريخ وهي:
إننا لا نعرف اسم ذلك الذي ابتكر الأبجدية الأولى في التاريخ، أبجدية أوغاريت، ولكننا نعرف أنه كان فينيقيًّا، وبمعنى أشمل وأدقّ كان سوريًّا. وإنّ شعبًا أعطى مثل تلك المعجزة للبشر يستحقّ منّا كلّ الشكر والثناء. ويستحقّ مكان الصدارة في التاريخ .
أمّا العبارة التي سأتحدّث عنها، والتي تبدّل تاريخ المسيحية، وتعيد المسيحية إلى أصولها السورية، فهي ترد حرفيًّا وبلغتها الكنعانية السورية. وهي منسوخة بالحرف اللاتيني كما يلي:

glmt-btl-bn-qdsh-shmmu-bn-il
وبالحرف العربي:

غلمت بتل بن قدش شممو- بن- عل
شرح المفردات:

غلمت: مؤنث غلام = صبية
بتل: بتول عذراء
بن: ابن ولد مخلوق
قدش: مقدّس قداسة- قديس
شممو: اسمه
بن: ابن- مولود مخلوق
عل: العلي تعالى الله.

الترجمة الحرفية للعبارة هي:

صبيّة بتول تحبل الابن المقدّس ويكون اسمه ابن الله أوابن العلى.

الترجمة الأدبية:

ها هي صبية عذراء بتول تحبل وتضع ابنًا أو طفلاً يدعى ابن الله.

هذه هي العبارة كما ترد في قصيدة عرس القمر الأوغاريتية السورية، والتي زعزعت يقين العلماء بصدق وأوّلية كتاب التوراة اليهودي، لأنهم وجدوا العبارة السورية بالكنعانية هي نفس العبارة التي ترد، وبكلمات متشابهة، في الكتب التوراتية إصحاح إشعيا -7)
التي تقول بدورها:
ها هي العذراء تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمانوئيل. معنى اسم عمانوئيل: الله معنا أوالله بيننا أوابن الله.
هذه العبارة التي وردت في سفر إشعيا- 7 اعتبرتها الكنيسة الناشئة في القرن الميلادي الأول بمثابة نبوء عن ولادة المسيح من مريم العذراء، وكون يسوع ابنًا لله. وعلى هذه العبارة التوراتية، وعلى بشارة الملاك لمريم نشأ أساس لاهوت الكنيسة المسيحية. وهو ما تمّت تسميته في ما بعد مفهوم الحبل بلا دنس أي ولادة المسيح من أمّ عذراء لم تعرف رجلاً ولا زوجًا من قبل.
هذا الطفل المقدّس يكون ابن الله. وهو يشترك في ثالوث مقدّس مؤلّف من الأب الله والابن يسوع والروح القدس.
إن مفهوم الولادة من عذراء بتول الحبل بلا دنس قديم جدًّا في تاريخنا الروحيّ السوريّ، وإشعيا في التوراة لم يفعل، في الحقيقة، سوى أنه نقل أو اقتبس في نصّه التوراتيّ عبارة سورية كانت معروفة وسائدة في الفكر السوري. ونلاحظ أن إشعيا عندما استعار العبارة:
ها هي العذراء تحبل وتلد ابنًا اسمه عامونئل ونسبها لنفسه، قد استعمل نفس المفردات الواردة في النصّ الأوغاريتيّ عرس القمر فهو بدوره يستعمل كلمة غلمت مؤنث غلام للدلالة على البنت، كما أنه يجهل كلمة بتول التي ترد في النصّ الأوغاريتي في صيغة بتل، وبتول لقب كان يُطلق في اللغة الكنعانية السورية على الربّة عنات السورية، شريكة البعل، سيدة الينابيع والمياه. وحيثما يرد اسمها في نصوص أوغاريت فإنه يرد مسبوقًا بلقب البتول؛ ولا نزال إلى اليوم نقول مريم البتول مكان مريم العذراء. والبتول عنات- عشتار السورية تقيم أول عشاء سرّيّ قبل ولادة الدين المسيحيّ الكنسيّ. فهي بدورها، وكما نقرأ في نصوص أوغاريت، “تأكل جسد شريكها أو حبيبها البعل دون سكين تشرب دمه دون كأس”، وكما ناحت عنات على موت البعل، فإن مريم المجدلية ناحت على موت يسوع، وكما كانت مريم المجدلية أول من شهد قيامة المسيح من الموت، فكذلك كانت عنات أول من عرف بقيامة البعل من الموت.
إذن، تلك المفاهيم التي كانت أساس اللاهوت الكنسيّ هي في الأصل مفاهيم روحية سورية متجذّرة في الفكر السوري، ومنذ عهد طويل.
نلاحظ، وهذا هام ّجدّاً، أن العبارة السورية باللغة الحثّيّة التي سمحت بفهم وترجمة اللغة الحثّيّة القديمة 3000 قبل الميلاد تحمل نفس الدلالة حول مفهوم هذا هو جسدي خبزًا فكلوه وهذا هو دمي خمرًا فاشربوه.
العبارة في اللغة الحثّيّة السورية تقول حرفيًّا ما يلي:
نو- نيندا- ان – غيزا – تتني
فادر – ما – اكلوني
الترجمة الحرفية للعبارة:
هذا خبز فكلوا
هذا ماء أو خمر فاشربوا .
نجد أنها شبه حرفية، مع عبارة المسيح وعبارة عنات.
ولمّا كان هذا المفهوم حول تضحية الإله بنفسه أو بابنه، وهو مفهوم رمزيّ، في كل الديانات السورية- الرافدية القديمة فـ دموزي السومري يموت ثم يُبعث حيًّا بقوة المرأة- السيدة إننانا من أجل أن يأكل الناس ويشربوا.
يعني إعادة الخصوبة والرغد إلى الأرض لتكون حياة الإنسان حافلة بالسعادة.
كذلك يفعل تمّوز البابلي وعشتار والبعل السوري وعنات وتيشوب الحثّي وأدونيس السوري وأفروديت في العهد الفينيقي ثم المسيح.
وكذلك فعل أنطون سعاده فيما بعد، فقد مات لتحيا سوريا العظمى.
كلّ إله يتعذّب ويموت ثم يقوم من الموت من أجل الإنسان وليس الإنسان هو الذي يضحّي لله.
عندما نشأت الكنيسة السورية، كانت أكثر نصوص ثقافتنا القديمة الأصلية قد طمرتها الأرض وغطّاها التراب، فاعتبر آباء الكنيسة الأولى أن نص التوراة (سفر إشعيا 7) الذي ذكرناه هو الذي تنبأ بمجيء المسيح وولادته من عذراء، وأنه سيدعى ابن الله، وأن المسيحية ديانة انبثقت عن اليهودية وتكمّلها. وأول من رفض آنذاك هذه الفكرة وهذا الانتساب للتوراة كان القديس السوري بولس الذي رفض فكرة أن يسوع من نسل داوود، وجعل المسيح من الذرية الروحية والجسدية للملك السوري الكنعاني ملكي صادق الذي عاش، حسب التوراة، على عهد إبراهيم والذي إبراهيم نفسه سجد له وخضع وقدّم الأضاحي والهدايا للملك السوري الذي كان، وفي ذلك الوقت من التاريخ، كاهنًا لله العليّ وملكًا على مدينة القدس الكنعانية باعتراف التوراة نفسها. وفي هذا الامر دلالة كبرى.
إذن، أجدادنا كانوا يعرفون الله، ولم يأخذوا الفكرة من إبراهيم وموسى وأنبياء اليهود.
وليس من باب الصدفة أن المسيح جعل من دمشق عاصمة المسيحية، والعاصمة التي انطلق منها بولس ليجعل العالم مسيحيًّا بالمفهوم السوري .
عدا بولس فلا يجوز أن ننسى الغنوصيين السوريين الذين خاصموا الكنيسة الأولى ورفضوا ردّ المسيحية إلى الثراث اليهودي. حتى إنهم رفضوا اليهودية بكلّ ما فيها واعتبروا (يهوه إله اليهود) ربًّا كاذبًا ومنافقًا ويكره البشر، وأن شريعة موسى إنما هي ازدراء للبشر.
من الغريب بمكان أنه اليوم وبعد اكتشاف الكثير من مؤلفات أسلافنا القدماء أن الكنيسة لم تقم بدراسة الموضوع. ولم تقم باعتماد العبارة الأوغاريتية السورية على أنها هي الأصل في النبوءة عن ميلاد المسيح من عذراء وأنه يدعى ابن الله أو ابن العليّ. و(ابن) في اللغة الكنعانية السورية يأتي أولاً في صيغة اسم ابن- بنت، ولكنه يأتي أيضًا في صيغة فعل معناه: صنع، خلق، بنى – يبني. ابن الله، لا يدلّ بالضرورة على أن المسيح ولد من مريم بعد علاقة جسدية، بل على أن الله خلقه أو شكّله، فصار المسيح مخلوقًا من مخلوقات الله- والمسيح لم يقل أنا ابن الله، بل تحدث عن أبي الذي في السماوات. والبعل في نصوص أوغاريت ينادي الله، وقبل المسيح بـ 2000 سنة يا أبي. والمسيح سمّى نفسه ابن الانسان، وبلغته السورية الآرامية بار- ناشا. أمّا عبارة ابن الله، فهي مجازية، بمعنى أن الله صنع الإنسان وخلقه، فهو أبوه، ولكن ليس بالمعنى الجسديّ. وحتى اليوم نسمّي كلّ انسان ابن ادم ونستعمل في كلامنا عبارة مثل: على مهلك يا ابن ادم ، أو عبارة طول بالك يا ابن الله. والمقصود: يا مخلوق الله.
واسم كاسم الملك السوري الآشوري الشهير آشور- بني- بعل لا يعني على الإطلاق: آشور ابن العلي أو ابن الله، بل الذي خلقه وكوّنه الله أو البعل. وهو اليوم اسم عبد الخالق ليس بمعنى العبودية، بل بمعنى العبادة وبمعني الذي بناه أو صنعه أو خلقه الله.
هناك ناحية أخيرة نشير إليها، وهي أن الغنوصيين السوريين رفضوا فكرة صلب المسيح وقتله، وقالوا إنه لم يُصلب ولم يُقتل، وانما تراءى ذلك للناس بينما كان الله يرفع المسيح إلى السماء.
ونجد في القرآن، وبعد عدة قرون من المدرسة الغنوصية الكلام نفسه:
(وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُمْ)
علمًا أننا نعرف من الأناجيل أن الحاكم الرومانيّ آنذاك لم يجد ذنبًا ارتكبه الميسح يستحقّ الصلب والقتل، ولكنّ جموع اليهود صاحوا أمام الحاكم: اقتله ودمه علينا وعلى أولادنا من بعدنا.
هذه العبارة التي ترد في قصيدة عرس القمر من نصوص أوغاريت، وباللغة السورية الكنعانية، يجب في رأيي أن ُتدرّس في جميع مدارس سوريا الطبيعية- الهلال الخصيب وأن تتبنّاها الكنيسة وتنشرها في العالم، وأن تصبح هي العبارة الأهمّ في القدّاس المسيحيّ.
المشكلة أن رجال الدين والمؤرخين في بلادنا هم أول من شوه ويشوّه الحقائق التاريخية بسبب التعصّب من جانب والجهل من جانب اخر.

المصدر :

http://www.orhay.net/index.php?singlePage=NDg3