الذي يتحدث فصله الأول عن “حاجات النفس الإنسانية ” ، مُنطلقاً من مفهوم الواجب الذي يعلو على مفهوم القانون : ” ولا قيمة للقانون مُجرّداً، لأن قيمته ترتبط دائماً بالواجب الذي يسعى إلى تحقيقه ، […] والغاية من الواجب في مجال الأشياء الإنسانية هي الإنسان في حدّ ذاته ، لأن هناك واجباً نحو كل إنسان لمجرد أنه كائن إنساني “.
لذا كانت للنفس في قلب احتياجاتها ومتطلباتها التي يُفترض أن تكون مكفولة . وهذه الاحتياجات ، التي بعضها مادي وبعضها أخلاقي، هي، كما حدّدتها سيمون :
1• النظام، هذه الحاجة الأقرب الى الخالد للنفس الإنسانية ، الذي يمكن القول بأنه ” نسيج علاقات اجتماعية لا تجعل أحد مضطرّاً لأن يخرق بعض الواجبات الصارمة من أجل القيام بواجبات أخرى “.
2• الحرية ، التي تعني الوجود الدائم لإمكانية الاختيار ، وذلك على الرغم من أن هذه الإمكانية تبقى ،على أرض الواقع ، مقيّدة بالقواعد والقوانين التي تمّ وضعها من أجل الصالح العام . وهذا شيء مفهوم وطبيعي لأن ” حرية الناس ذوي الإرادة الطيبة، على الرغم مما يفرضه الواقع عليهم من قيود، تبقى مطلقة على صعيد الضمير”.
3• الطاعة، التي يمكن تقسيمها إلى نوعين : ” طاعة القوانين السائدة والطاعة لبشر يُفترض أنهم قادة . ما لا يعني الموافقة على كل أمر يصدر عن هؤلاء،بل فقط على الأوامر التي لا تحفّظ عليها من منطلق مقتضيات الضمير “.
4• المسؤولية ، التي تعطي الإنسان ذلك الشعور الضروري بأنه “مفيد ولا يمكن الإستغناء عنه،[…] وضمان هذه الحاجة يعني أن على الإنسان أن يتخذ غالباًالقرار اللازم في تلك المسائل، الصغير أو الكبيرة، التي يلتزم بها، عبر الرغم من أنها لا تعنيه مباشرة “.
5•المساواة، كحاجة أساسية للنفس الإنسانية، التي تعني ” الاعتراف العلني العام والفاعل، الذي تعبر عنه حقيقة المؤسسات والأخلاق، بأن كل كائن إنساني يستحق القدر نفسه من الاحترام ومن التقدير “.
6• التراتبية، التي تفترض ” وعي المسؤولين بأن الشرعية الوحيدة للإخلاص الذي يُفترض أن يُقدمه لهم مرؤسوهم إنما هي رمزية سلطتهم “.
7•الشرف، الذي يجب أن نخلط بينه وبين الاحترام والذي ” يكون مكفولاً[لكل فرد] بالكامل، حين تُقدّم كل مجموعة اجتماعية للفرد فيها إمكانية المشاركة في منقول عظيم ذي علاقة بماضيها ومعترف به في الخارج “.
8• العقاب، كحاجة حيوية من حاجات النفس البشرية، وهو نوعان: تأديبي وجنائي، مع الإشارة إلى أنّ” الحاجة إلى العقاب تنتف،كما هي الحال، في شكل عام، حين تتول فاوانين العقوبات الى مجرد إكراه عن طريق الردع”.
9• حرية الرأي، التي يمكن اعتبارها حاجة أساسية من حاجات العقل الإنساني والنفس الإنسانية.وهذه الحرية تفترض، كتحصيل حاصل ، حرية التفكير التي تعني أنه ” لا يوجد فكر من دونها ، والأصح أن نقول بأنه حين لا يوجد فكر فإننا لن نكون أحراراً أيضاً “.
10•الأمان، الذي يعني أن ” النفس ليست تحت وطأة الخوف أو الاٍرهاب “.
11•المجازفة، كحاجة للنفس يُولّد إلغاؤها آمل الذي يشلُّ طاقات الإنسان بمقدار ما يشلُّها الخوف، وهو الشكل الذي “يُولّد ردّة فعل مدروسة “.
12•الملكية الخاصة، التي تبقى أساسية في أي مجتمع إنساني، لأن ” النفس تصيبها العزلة والضياع ما لم تُحِطْ نفسها بأشيا بمثابة استطالاتها البدنية”.
13•الملكية العامة، التي تعني ” المشاركة في الخيرات العامة، وهي لا تعني الاستمتاع بقدر ما تعني أننا نملك هذه الأشياء فعلاً”.
14• الحقيقة التي تفوق قداستها والحاجة إليها كل ما سبق وعدَّدناه من احتياجات، مشيرين إلى أنت”لا يمكن تلبية هذه الحاجة لأي شعب ما لم نوفّر من أجل ذلك أناساً يحبون الحقيقة”.
ونتفكرمع سيمون بأن هذا كله يعني، كتحصيل حاصل، أن التّجذُّر هو الحاجة الأهم على الإطلاق للنفس الإنسانية،وأن هذا الّجذُّر لا يتحقق إلّا من خلال “المساهمة الحقيقية، الفعّالة والطبيعية، [للفرد] في حياة الجماعة” فجذور الإنسان قد تنقطع، كما تُبيّن سيمون ڤايل في الفصل الثاني من كتابها بعنوان “اقتلاع الجذور”، حين يتعرض المجتمع للحرب والاحتلال ويتعرّض الناس للتهجير،و/أو في قلب المجتمع نفسه، حين يسود الظلم ويسيطر السلطان المتوحش للمال الذي لا يبغي إلّا الربح.لذلك نراها تسهب، فتتوسع في شرح ما يعني في مجتمع كمجتمعها:
- اقتلاع جذور العاملين في المصانع حين يتحولون إلى عبيد للرأسمال وللأمة؛و…
- اقتلاع جذور الفلاحين بسبب انتشار العلاقات الرأسمالية في الريف و /أو اضطرارهم إلى ترك أراضيهم للتوجه إلى المدينة، حيث يتحولون إلى عمّال مصانع؛ و…
- في تلك الفترة من هذا الفصل بعنوان “الأمة واقتلاع الجذور”، حين تتحدث عن الخطر الذي يهدد باقتلاع جذور الأمة الأمّة بالكامل بسبب الحرب والنزوات، كما كانت الحال في تلك الأيام في العالم وفي فرنسا.
- لتصل في نهاية الفصل الثالث من الكتاب، الذي عنوانه أيضاً “التجذر”
(عنوان هذا الكتاب الذي كان أخر ما كتبت) والذي ناقشت فيه، من منظور فلسفي، ماهية المخارج المتاحة لنا كبشر كي نحافظ على الحياة و نعمِّق تجذُّرنا في هذه الأرض، فتوصلت إلى النتيجة التي تقول بأنه ليس هناك من مخرج أمامنا إلا العمل الذي يجب أن يصبح أكثر روحانية ؛ فالفكر الإنساني يسيطر على الزمن متنقلاً بسرعة بين الموت والحياة، فيعُبر المسافات كلها؛ أمّا مَن يعمل فهو يخضع للزمن، كالمادةالصمّاء التي تتخلّله في كلِّ لحظة.
من هذا المنظور، ندرك كيف عنف العمل بطبيعة الإنسان. ولهذا السبب يعبّر العمّال عن العذاب الذ يولده العمل بالقول بالقول بأنهم يجدون الوقت طويلاً. وقبول الموت، حين يكون حاضراً ونراه عارياً، هو الانتزاع الأخير، الآني،لما يدعوه كل واحد منّا بالأنا. أمّا قبول العمل فهو أقل منه عنفاً. لكنه حيث يكتمل فإنه يتجدّد مع كل صباح وطوال هذه الحياة الإنسانية، يوماً بعد يوم، وفي كل يوم، من الصباح إلى المساء، ليتكرّر مجدّداً في اليوم التالي، وغالباً ما يستمر حتى الممات، ففي كل يوم يقبل العامل عمل يومه وطوال هذه الحياة؛ يقبله سواء كان متعباً أم مفعماً بالطاقة. لأنه مباشرة بعد القبول بالموت، يأتي القبول بذلك القانون الذي يجعل العمل ضرورياً للحفاظ على الحياة، [يأتي] كأكمل تجسيد للطاعة يستطيعه الإنسان. وتصير باقي النشاطات الإنسانية، كقيادة البسر ووضع الخطط التقنية والفن والعلم والفلسفة وغيرها، بعد ذلك، أقل شأناً من العمل البدني الذي أصبح روحانياً منح يصل مضمونه،مما يجعل من السهل بعدئذ تحديد المكانة التي يجب أن يتبؤاها العمل في الحياة الاجتماعية المنظمة. فهو يجب أن يكون مركز روحانيتها.
سيمون ڤــايل بالفرنسية: Simone Weil): (باريس 3 فبراير 1909 – أشفورد 24 أغسطس 1943): فيلسوفة فرنسية وُلِدَتْ في عائلة يهودية غير متدينة. تُعتبَر سيمون فايل من أهم فلاسفة القرن العشرين، وهي أخت عالِم الرياضيات أندريه فايل.
المصدر: سيمون ڤايل ، مختارات ، ترجمة محمد علي عبد الجليل ، دار معابر للنشر الطبعة الأولى 2019 دمشق ، سوريا