أصحيح ما تقوله إحدى النّظريّات الاجتماعيّة: عندما تأتي الثّورة سيكون لدينا أفضل الناس، وأفضل الحلول للمشكلات المستعصية على صعيد الفرد والمجتمع، أم أنّها مقولة ناقصة تتطلّب الاقتران بمعطيات أخرى لتكتملْ؟. إذ أنّ مجيء الثورة بالمعنى التّاريخي العلمي، هو مجرّد حدث موضوعي، يُنضج “مقدّمات ستترتّب عليها نتائج بالضّرورة”، حيث تقرأ الطلائع الثوريّة “الحدث” وتقود الحراك الاجتماعي مستفيدة من نضج الظرف الموضوعي. طبعاً هذا إذا كان ثمّة “نخب” حقيقيّة جاهزة لتحمّل مثل هذه المسؤوليّة التّاريخيّة الكبيرة وجاهزة للتّضحيّة بكلّ غالٍ ونفيس في سبيل القيام بذلك، كشأن كلّ حركات التّاريخ، لكن هل يستطيع أي ظرف أن يغيّر وعي الناس إذا لم يغيّروا ما بأنفسهم كما يقال؟!. الظرف الموضوعي لا يغيّر من طبيعة الأشياء، ما لم يكن قد تغيّر وعي النّاس ذاته، فكيف سيصنع ثورة من ليس لديه فكرة عمّا يمكن أن تكون عليه الحياة الإنسانية الأفضل؟!.
الذي يجعل الثورة أمراً حتميّاً هو أنّ المجتمع لا يستطيع الاستمرار بنفس الآليّات السّابقة فيحدث التّناقض الأساسي بين ما هو موجود، وما يجب أن يكون، لذلك يحدثُ التّغيير، ولكن التّركيز على مشاكل المجتمع والحياة يجب أن يترافق مع اهتمام حقيقي بطبيعة الكائن ومعنى الحياة نفسها والتّوسّع في الفهم عن طريق الفنّ وابتكار الأفكار الجديدة ونبذ الأوهام، فكم هو مهمّ معرفة المرء لذاته وإدراكه للاشعوره، إذ لا يكفي رفع شعار “دلفي” “اعرف نفسك” لأنّه حتى الصّفقات التّجاريّة الخسيسة تستخدم هذا الشّعار. بل المهمّ أن نتعرّف بشكلٍ أعمق على داوخلنا ومخزونها، ومعرفة المرء لنفسه تتضمّن معرفته للاشعوره أيّ للبعد الآخر لحياته. الحقيقة هي أنّ معظمنا يقضي حياته وهو “نصف نائم”. لسنا يقظين كفاية، بل فقط بمقدار ما تتطلّبه مساحة السّعي الغريزي وراء الرزق الذي تمتلكه أغلب الكائنات الحيّة الأخرى، فلكي نكون أنفسنا لا مجرّد آلات تفريخ وتغذية فقط، لابدّ لنا من المساهمة بخلق استبصار آخر يجعلنا ننفذ من السطح إلى جذور وجودنا لنصبح متيقّظين أكثر. أليسَ عجيباً أن نكون أشقياء في زمن الوفرة المعرفيّة وسهولة الوصول إلى المعلومة المفيدة بأقل زمن ممكن! أشقياء، ممتعضون، حزينون، وحياة أغلبنا خاوية بلا معنى؟. حتى أجسامنا لا نعرف عنها شيئاً، إلّا في حالات “الألم”، مع أنّه إذا أراد الشخص أن يحرّر نفسه من الدّاخل فإنّه بحاجة لمعرفة ذلك من وضعيّات جسمه وإيماءاته، إذ يمكن قياس الحالة الذهنية بملاحظة وضعيّة الجسم المتغيّرة طبقاً لذلك.
نستطيع أن نميّز شخصا من طريقة سيره أكثر من وجهه، لأنّ السير هو الحركة الأقل قصديّةً، أو شعوريّة وهي الأصدق، وكذلك الإيماءات، فأيّ شخص لديه بعض الفهم يستطيع تمييز المصطنع منها من الحقيقي. كلّ تعبير جسدي، هو تعبير مباشر عن أرواحنا، لذلك علينا تنمية قرون استشعار داخليّة، لفهم معنى الإيماءة ووضعية الجسم ومسيره وبذلك نستطيع أن نمضي إلى المشكلة الأصعب وهي معرفة المرء لمعنى الجسد الكلّي ووحدة إيقاعه ضمن وجوده الطبيعي والإنساني العام، وهي مشكلة لم تسبر بعد كثيراً رغم أنّه في علم الأنماط الشخصية تمّ إظهار الصّلة بين البنية الجسديّة والملامح الهوسيّة الاكتئابية أو الفصامية بوضوح شديد. ولكي نصل إلى معرفة حقيقيّة لذواتنا لابدّ من وعي مقولة “التّركيز والتّأمل” التي يفتقر إليها كائن العصر الحديث. يجب ألّا يكون في حياتنا لحظات ميّتة، أو غير ممتعة أو تفتقر للفائدة. أن نعي مفهوم الزمن بدقّة، وألّا نهدر الوقت بتلك المجّانيّة الفظيعة، وأن نحفّز طريقة الإدراك الكثيف لكلّ لحظة من لحظات الجسد ووضعيّاته، ولأيّ شيء يجري فيه، ثم يأتي اكتشاف المرء لنرجسيته وعيوبها ليضيف درجة جديدة لسلّم ارتقائه النفسي والمعرفي، فالنّرجسي “كلّنا نرجسيّون بنسبٍ مختلفة” شخص لا وجود لواقع خارجي عنده، فأفكاره وأحاسيسه وما إلى ذلك هي وحدها الحقيقيّة. هو كائن مضطّرب للغاية يعيش على تغذية نرجسيته وحسب.
إنّ فهم النرجسيّة التي هي مشكلة عصبيّة من مشكلات النّمو الإنساني، يعتبر أحد مفاتيح فهم تصرّفات الناس غير العقلية ولفهم الإنسان لنفسه. وتحليل المرء لنفسه كلّ يوم ضرورة بغاية الأهمية، خصوصاً في هذه الظّروف الضّاغطة بشدّة، التي جعلت الكثير منّا يعيش بعبثيّة ودون إحساس بالجدوى. وحين يريد المرء تحليل نفسه والبدء بالتّغيير يجب أن تكون شوكة المقاومات الداخلية لديه قد انكسرت، حيث يجب ألّا يركّز فقط على طفولته بل على أساس وجوده الكلّي وموقعه من هذه الحياة وأهدافه وغاياته فيها التي هي لاشعورية غالباً. وقد يكون التّحليل الذّاتي بسيطاً بأن نخصّص كلّ يوم نصف ساعة للسّير والتّمعّن بالنظر في سيرنا والتفكّر لماذا كنّا متعبين في الأمس وإذا كنّا قد نمنا نوماً كافياً فلماذا التّعب إذن؟ وقد نكتشف أنّنا كنّا قلقين، ونسأل أنفسنا عن سبب القلق. وهكذا.. والتّحليل الذّاتي هو أن تأخذ وقتك وتكون مسترخياً وتبدأ الشعور مختبراً أحاسيسك تجاه أشخاص كنتَ تظنّ أنك تحبهم مثلاً، ثم تكتشف العكس. بتلك البدايات البسيطة التي لا تحتاج لمخطّطات كبيرة، كما يقول عالم النفس الكبير “إريك فروم” سنتعلّم بهدوء كيفيّة معرفة ذواتنا بشكلٍ أوسع والتّعامل مع الطّوارئ العصابيّة والاكتئابيّة التي يقول أغلب الناس أنّهم يجهلون المقدّمات المنطقيّة التي أدّتْ إليها.
المصدر :
جريدة البعث السوريّة