°
, April 16, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

تأملات في العقل والعقلانية (1) جاد الكريم الجباعي

 

“العقل صورة المعقول في نفس العاقل”

أبو حيان التوحيدي

1 – في نقد العقل الكلي أو العقل المفارق

العقل، في اللغة، اسم؛ والاسم إما اسم ذات، كأسماء الأعلام والأشياء، وإما اسم معنى؛ وأسماء المعاني هي المصادر، كالعلم والعمل والخير والحق والجمال والعقل. والمصدر اسم جامد يدل على حدوث فعل

مجرد من الزمان والمكان، أي على فعل حدث أو على فعل يحدث أو يمكن أن يحدث في أي زمان ومكان، وهو مصدر جميع المشتقات.

 

العقل إذاً اسم معنى ومصدر الفعل الثلاثي عَقَلَ؛ يدل على حدوث أو إمكان حدوث فعل العقل فهو متعلق، في الحالين، بالإمكان وشروط تحققه، الذاتية والموضوعية، ما ينفي عن الحدوث صفة الحتمية ويعين للضرورة حقلين مختلفين: حقلاً منطقياً وآخر واقعياً، يحدد كل منهما معنى خاصاً للعقل، المشترك بينهما هو الضرورة أو العلاقة / العلاقات الضرورية. وهذه ليست مقاربة لغوية خالصة.

على أن مصدر الفعل، المصدر الجامد المجرد من الزمان والمكان، يطرح مسألة مصدر الوجود والحدوث، فإما أن يكون الله أو العقل الكلي، المطلق، فيقع الخلف بين التجرد من الزمان والمكان وبين الحدوث وإمكان الحدوث، وإما أن يكون الوجود بالقوة الذي يسبق الوجود والحدوث، فينطبق الحكم على المحكوم فيه، وينتفي الخلف، وتنتفي المفارقة. والوجود بالقوة وجود لامتناه في زمان ومكان لا متناهيين، منه ينبثق المتناهي وإليه يؤول، ما يعني أن المصدر المجرد من الزمان والمكان، أي العقل الكلي أو المطلق هو مصدر الخلف وأصل المفارقة. (اللامتناهي والمطلق مفهومان مختلفان).

ولا يخلو أن يطلق اسم (عقل) على الأشخاص فيغدو اسم علم، تعبيراً عن محبة العقل وعلو منزلته، ومن الأسماء المعروفة عقل الجر وعقل العويط وغيرهما كثير، وهذا يدل على ألفة التجسيد والتشبيه والحلول في مقابل التنزيه والتقديس والتأليه، أي على عمليتي رفع وخفض متواترتين تتعلقان بالتقدير، ويدل على تصور شعبي لما هو العقل، كما في اسم منير أو ضياء وهما صفتان للشمس والقمر، ومعروفة عبادة الإله الشمس والإله القمر، عند الفراعنة وغيرهم، واندراجها في العقائد اللاحقة، وقس على ذلك.

المسألة الأساسية، كما تبدو لنا، هي مسألة مصدر المعرفة وأصل الفكر ومعنى العقل ورهان الحقيقة، التي تلخصها “المسألة الفلسفية الأولى”، مسألة أيهما كان أولاً، المادة أم الفكر، الوجود المادي أم الفكر أو العقل الكلي أو الله، خالق الوجود. فلا يمكن مقاربة موضوع العقل والعقلانية خارج هذه المسألة أو بمعزل عنها. وليس ثمة سوى إجابة واحدة عنها من إجابتين ممكنتين بالتساوي ولا ثالثة لهما، ولا ننسب قيمة خاصة لأي منهما، فللقلب حكمه أيضاً.

العقل، المشار إليه على أنه إمكان، هو عملية تعرُّف لذات أو موضوع أو معنى، وحكم فيه أو له أو عليه، وقدرة على تأليف صور المدركات والمعقولات وتنظيمها وإقامة روابط وعلاقات فيما بينها تناظر أو تحاكي نظام المعقولات وعلاقاتها الواقعية. وفعل (تعقَّل) لازم ومتعد، نقول: تعقل الشيءَ: تعرَّفه وحكم فيه أو له أو عليه، وتعقل فلانٌ صار عاقلاً. وتسند العرب الفعل إلى فاعل معلوم أو مجهول، ظاهر أو مستتر، فلا يقوم عندهم، وعند غيرهم، فعل بلا فاعل، فمن البديهي ألا يكون عقل بلا عاقل.

لعل التباس مفهوم العقل في ثقافتنا الحديثة والمعاصرة خاصة يكمن في عدم طرح سؤال ما العقل وما نسبته إلى العاقل، الفرد الإنساني، وتبني مفهوم العقل الكلي، المفارق، وتَمثُّله من قبل العقلانيين: التيولوجيين والعلمانيين، من دون أن يسمى كذلك، فكثيراً ما يوحي لنا ما كتب عن العقل و”نقد العقل” بأن العقل شيء ما قائم خارج الفرد الإنساني وفوقه. هذا العقل المفارق هو نسق الحقائق والقيم التي “يتبناها” المجتمع المعني، ولا يعدو كونه نسق حقائق السلطة المركزية المفارقة والمتعالية وقيمها، أو هو العقل الكلي أو الله، الذي يقدِّرنا على التفكير والتدبير. أما العقل الإنساني فليس [1] سوى ما فاض عن عقل الله أو ما منحه الله للإنسان فميزه من سائر مخلوقاته، لكي يعبده ويمتثل لأوامره ونواهيه، حتى بات الإنسان “العاقل” من يكبح جماح نفسه، بل من يذل نفسه “الأمارة بالسوء”، ويمتثل لأوامر الأرباب (جمع رب) ونواهيهم ويخضع لسلطتهم، وهم ذوو الحول والطول والقدرة والسلطان، من قاعدة الهرم البطريركي إلى قمته[2]، وهذا شائع في الاستعمال اليومي لدى العامة والخاصة يتلقنه الفرد منذ نعومة أظفاره، (الولد العاقل هو من يسمع الكلمة ويطيع والديه وأخاه الأكبر ومعلمه وشيخه وسائر الكبار طاعة عمياء ويمتثل لإرادتهم وأوامرهم ونصائحهم، والبنت العاقلة هي من تطيع وتمتثل دوماً فلا تتساءل ولا تعترض، “لها فم يأكل لا فم يحكي”) وباتت المبادرة الفردية في التفكير والتدبير وفي الفكر والعمل ضرباً من الطيش وخروجاً على القواعد والمعايير. وفي هذه الحال يقترن العقل بالفضول غير المستحب وغير المرغوب فيه، فليس غريباً، والحال كذلك، أن يُعرَّف العاقلReasonable بأنه: “الناطق، أي المتصف بالعقل، وكل من قال إن الإنسان عاقل عنى بذلك أن عقله يميزه عن الحيوان. والعاقل أيضاً هو الذي يفكر تفكيراً صحيحاً، ويحكم على الأشياء حكماً صادقاً، ويعمل عملاً صالحاً حتى يكون خيِّراً، بخلاف الجاهل الذي يستعمل فكره في فعل الشر فلا يسمى عاقلاً بل يسمى داهياً أو ماكراً. والعاقل أيضاً هو الذي يعرف كيف يكبح جماح نفسه ويعرض عن كل ما يجاوز نطاق قدرته، لذلك قيل: دولة الجاهل من الممكنات ودولة العاقل من الواجبات. والعاقل أخيراً هو الذي يتقيد بالذوق والعرف العام أو بأحكام القيم المقبولة في زمانه و يرادفه المعتدل والمتزن” (الدكتور جميل صليبا، المعجم الفلسفي).

باستثناء التفكير “الصحيح” والحكم “الصادق”، مع السكوت عن مرجع الحكم هل هو الواقع أم الوحي، وعن معيار الصحة والصدق هل هو مطابقة الحكم للمحكوم فيه أو له أو عليه أم مطابقة المحكوم فيه أو له أو عليه لصورته في ذهن الحاكم، أم مطابقة الخبر والمأثور والمنقول والموروث وابتغاء “الخير” و”العمل الصالح”، باستثناء ذلك يكشف التعريف عما أشرنا إليه. إن تعريف العاقل، في اعتقادنا، هو أساس تعريف العقل، وإن العاقل هو أساس العقل، وإلا فنحن إزاء عقل مفارق.

ما يهمنا في التعريف السابق أن العاقل هو من يفكر، ويحكم، ويعمل، وفقاً لطبيعته الإنسانية التي قوامها الحرية؛ فيعرف ويفهم ويعقل، (ويعلِّم ويتعلِّم، فما من شخص إلا ويعلِّم غيره ويتعلَّم من غيره بصورة أو بأخرى)، بصرف النظر عن الصواب والصدق ومقاصد الحق والخير، فهذه مما يضفي على العقل طابعاً معيارياً يقيد العقل بقيود المطلق الأخلاقي، ويشده إليه، فيكف عن كونه عقل العالم وعقل الكون، وتكف إنسانية الفرد وحريته عن كونهما أساس العقل وأساس الأخلاق. فليس للإنسانية من أساس يجعلها ما هي سوى الحرية، وليس للعقل من أساس يجعله ما هو سوى الحرية.

فإذا كان العقل فطرة أو قوة أو قدرة أو ملكة أو استعداداً أو جوهراً .. أو ما شئتم (سنناقش ذلك في حينه) فإن هذا كله لا يعني شيئاً من دون إضافته إلى العاقل أولاً ومن دون علاقته بموضوع العقل ثانياً ومن دون أساسه الأولي، أي اللاعقل [3] ثالثاً، فالعقل، في اعتقادنا، لا يتعرف إلا بهذه الحدود وطابع العلاقات الجدلية فيما بينها، وهذه الحدود “كلية عينية” أو وحدة تناقضية، بتعبير هيغل، هي “وحدة الذات والموضوع”، التي يمثُل اللاعقل في كل من حديها على أنه تناقضه الداخلي، فلا يعودان حدين بسيطين أو مبدأين بسيطين، لأن المبدأ البسيط لا ينتج شيئاً ولا ينتج منه شيء، كالله المفترض مبدأ بسيطاً، أو جوهراً بسيطاًً، أي حقاً مطلقاً وخيراً مطلقاً وجمالاً مطلقاً وعقلاً مطلقاً (كلياً) وما شئت من المطلقات. والمطلق هو المجرد من كل حد ومن كل نسبة ومن كل إضافة ومن كل وصف ومن كل حال، والمجرد من الزمان والمكان والحركة والسكون ومن كل إمكان، كإمكان التغير والتبدل والتحول، والعدم والوجود والحياة والموت وهو الواجب الوجود لا الممكن الوجود .. وهذا ما يؤكد طابعه المثالي الخالص والوجوبي الخالص، والوجوبي ذاتي بالضرورة. (النسبي ليس مقابل المطلق ونقيضه دوماً، فالنسبية مبدأ ارتباط ومقارنة وقياس)

وحدة الذات والموضوع، (أو وحدة العاقل والمعقول جوازاً)، بحديها المتناقضين تناقضاً مزدوجاً، تقيم الحد على العقلانية المطلقة [4] التي تقدس العقل وتدَّعي له القدرة على معرفة العالم بتمامه والكون بتمامه فتلغي لا نهائية العالم ولانهائية الكون، ولا تعبأ بفكرة الصيرورة والتغير المستمر، فتبخِّر الوجود الفعلي في المبادئ والقوانين، ولا تعترف بالمصادفة والإمكان والاحتمال و”خصوبة اللامتوقع” وتزدري اللاعقل، أي جملة المشاعر والأحاسيس والعواطف والرغبات والميول والأحلام والأهواء وسائر النزعات الفردية، ولا سيما النزوع إلى الحرية والانعتاق من ربقة البنى والمؤسسات والسلطات، فتغلق على “العقل” في دائرة “الحقيقة” و”اليقين” وتختزل الإنسان إلى بعد واحد من أبعاده، هو البعد “العقلي” أو “العقلاني”، ولا تعترف من ثم بأفرادية الواقع وقيمة الفرد الإنساني المتناهي وفرادته، وبأن العقل محمول على هذه الفرادة.

المتناهي لا يُستنفَد، ولا يَستنفِد اللامتناهي؛ ما يجعل العقلانية، بـ ألـ التعريف الجنسية، لا العهدية، رهاناً مفتوحاً وأفقاً إنسانياً، أساسهما عملية / عمليات تعقُّل العالم التي لا تفتر ولا تني ولا تتوقف ولا تكتمل. فإن تأسيس العقل في العاقل والمعقول، لا في اسم الفاعل واسم المفعول، هو تأسيسه في الكونية، أي في الإنسانية والحرية بالتلازم الضروري بين الإنسانية والحرية. وهذا نقيض “العقلانية المطلقة” المنسوبة إلى العقل المطلق أو العقل الكلي أو المشتقة منه والمحددة به، سواء كان من ينسب تيولوجياً أم علمانياً.

لعل المسألة تتوقف هنا على الإجابة عن سؤال: هل الأفراد هم من ينتجون المعارف والقيم أم الجماعات والمجتمعات؟ والسؤال مرتبط بسؤال آخر أو مشتق منه: هل الفرد أساس الجماعة والمجتمع (والمواطن أساس الدولة السياسية وسلطتها) أم العكس؟ من المعروف أن ثمة إجابتين حدِّيتين عن هذا السؤال وثالثة تأليفية، هي التي نميل إليها، لاعتقادنا أن الأفراد هم من ينتجون المعارف والقيم[5]؛ والجماعات، ثم المجتمعات، تقوم بتنظيمها وتصنيفها وتوزيعها وتعميمها وفق آليات ممارسة السلطة، وآليات التجريد والتعميم، وهي الآليات التي تتحدد بموجبها البنى الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية، في كل منها، وتتحدد من ثم أنساق “العقل” والأخلاق. فإن مسألة العقل والعقلانية، أي مسالة إنتاج المعارف والقيم وتصنيفها وتوزيعها وتنظيمها وتعميمها، وهذه دالة كبرى على تواصل الأفراد والجماعات وعلى الحس المشترك، تطرح مباشرة مسألة المعرفة والسلطة / السلطات المركزية ومؤسساتها وتراتبياتها الهرمية وآلياتها، نعني السلطة بجميع أشكالها وأنواعها ودرجاتها وآليات ممارستها، بل إنها تطرح مسألة الحرية والسلطة، على اعتبار المعرفة مظهراً من مظاهر الحرية وشكلاً من أشكال ممارستها، والمعرفة عمل بالقوة، والعمل معرفة بالفعل، كما هو معلوم، والحب كذلك معرفة بالفعل[6].

فإن عملية / عمليات تعقل العالم، الفيزيقي والأخلاقي، وإنتاج المعارف العلمية والتقنية والفكرية والجمالية .. وإنتاج الوعي “العام” والذوق “العام” لا تنفصل عن عملية / عمليات تبادل المعارف والخبرات وتداولها، وهذه مرافقة باستمرار لعمليات تبادل منتجات العمل وتداولها. التبادل والتداول يحددان بيئات وأوساطاً ثقافية وأخلاقية مختلفة ومتباينة، تعينها، في كل مرة، عمليات تبادل منتجات العمل وتداولها، فلا ينفصل مجال الحياة المادية عن مجال الحياة الثقافية والأخلاقية، على الرغم من استقلال كل منهما، مثلما لا تنفصل حياة الأفراد الشخصية عن حياتهم العامة في المجتمع والدولة. ولا نتردد في تقرير واقع أن العلاقات الروحية محمولة دوماً على العلاقات المادية، وهذا أساس اختلاف البيئات والأوساط الثقافية في المجتمع الواحد، ولا سيما إذا كان هذا المجتمع يعاني نقصاً في اندماجه الوطني، كما هي الحال في مجتمعاتنا.

نحن لا ننفي هنا الطابع الاجتماعي للمعرفة، أو “الأطر الاجتماعية للمعرفة”، ويمكن أن نقول الطابع الاجتماعي للعقل إذا شئتم، مثلما لا نستطيع أن ننفي الطابع الاجتماعي للعمل. ولكننا ننفي صفة الإبداع والابتكار والتجديد والتحديث عن هذا الطابع الاجتماعي، ونعتقد أن المحافظة والتقليد صفتان ملازمتان له، أما الخلق والإبداع والابتكار فمن شأن الأفراد فقط. ولم يخل ولا يخلو اليوم أن يكون المجتمع، بصفتيه هاتين، المحافظة والتقليد، وبسلطاته ومؤسساته القارَّة، عائقاً في طريق الإبداع والخلق والابتكار ومقاوماً أو معانداً للتجديد والتحديث، ما يسم المبدعين في كل زمان ومكان بالحرية إن لم نقل بالتمرد والخروج على المألوف. الحرية هي قوام العقل المبدع وأساسه وعماده؛ ولهذا حديث آخر.

ولا بد من التفريق بين إنتاج المعرفة وتنظيمها وتصنيفها وتوزيعها وتعميمها من جهة وبين تكوين الرأي، ثم “الرأي العام”، بما هو علامة أو دالة على المواقع الاجتماعية للأفراد والجماعات، وعلى عمليات إنتاج السلطة من جهة أخرى؛ فالجماعات هي من تقوم بتكوين الرأي من خلال التواصل والنقاش والحوار والتوافق، في بادئ الأمر، ثم تقوم بتعميمه بالوسائل المتاحة لديها (الجماعات الدينية والمذهبية والأحزاب الأيديولوجية وجماعات الضغط مثال على ذلك). ولا تخلو هذه العملية من كف الفرديات وقمعها إذا لزم الأمر، وفق مبدأ قوة الأكثرية أو مبدأ “القوة عادلة”. هذه العملية ليست مفصولة كلياً عن إنتاج المعرفة والقيمة، لكنها أقرب إلى توظيف المعرفة والقيمة منها إلى إنتاجها، وهكذا تنشأ عمليات التعقيل وتتولد المنظومات والأنساق والأيديولوجيات وتتحول إلى سلطات عليا. ولا بد هنا أيضاً من البحث عن أثر الأفراد ومبادراتهم في هذه العملية.

من المعروف أن “الرأي” تعبير مباشر عن مصلحة خاصة فردية أو جماعية تتجلبب بجلباب “العقل”، بحكم الطابع الموضوعي للمصلحة، مع عنصر ذاتي غير مرفوع، هو ما يجعل جماعة بعينها أو فئة بعينها تقدم مصلحتها على أنها “المصلحة العامة”، في ظل نسبة معينة للقوى، ولنقل في ظل مبدأ الغلبة الذي يجعل المغلوبين على أمرهم، وهم الأكثرية العددية غالباً، يقبلون بالأمر الواقع، فتغدو الفئة المسيطرة مادياً مهيمنة ثقافياً وأخلاقياً هيمنة تجعل المغلوب يتماهى بالغالب ويقتدي به ويتبنى أفكاره وتصوراته وقيمه على أنها الأفكار والتصورات الصحيحة والقيم المرغوب فيها. وهكذا تتحول عملية التعقيل إلى نسق عام هو، نسق “العقل الكلي”، يصير سلطة عليا مادية ومعنوية بالتلازم الضروري.

الفارق الذي لا يجوز إهماله بين العقل والتعقيل هو نفسه الفارق بين نسبة العقل إلى الفرد العاقل المعرف بالعمل والإنتاج والإبداع وحرية الإرادة، وبين نسبته إلى قوة مادية أو معنوية مفارقة تقع خارج الفرد وفوقه. هذه القوة المفارقة هي من تحدد مبادئ العقل وحدوده ووظيفته مثلما تحدد مبادئ الحق والأخلاق، هي من تقوم بالتعقيل وتربي الأفراد على ذلك.

اللاعقل، بجميع المعاني، محك العقل، بجميع المعاني، والشر محك الخير والباطل محك الحق والخطأ محك الصواب، ومن ثم فإن “الجاهل”، “الذي يفعل الشر”، كما ورد في المعجم الفلسفي، ليس مجرداً من العقل، (الجاهل في هذا السياق ليس نقيض العاقل، وليس هو من يفعل الشر بإطلاق. “العاقل” يفعل الشر أيضاً، وشره أدهى، لأنه يفعل الشر وهو يعرف أنه شر، كقادة الدول المستبدين والفاسدين وقادة الجيوش ومبتكري الأسلحة وتجار المخدرات والرقيق والقائمة طويلة) إلا إذا كان العقل منزهاً ومقدساً، يتماهى بالأخلاق الحسنة أو النبيلة تماهياً، ولا يقترن بالأخلاق الحسنة والسيئة اقتراناً، وكان “العاقل” منزهاً ومقدساً بنزاهة العقل وقداسته. (دولة الجاهل من الممكنات ودولة العاقل من الواجبات) فما أحسن الجهل!. إن أسوأ ما يمكن أن يصيب العقلانية من أمراض هو تنزيه العقل وتقديسه، فقد يضمر العقل ويبقى التنزيه والتقديس وهما مقدمتان للتأليه، على نحو ما رأينا ونرى من عبادة الطاغية وإسباغ جميع الصفات الإلهية عليه، وألفة الطغيان، في غير مكان. (ما شئت، لا ما شاءت الأقدار، فاحكم، فأنت الواحد القهَّار)

ولا بد من الإشارة هنا إلى أن استقلال مفهوم العقل عن العاقل ونسبته للأقوياء دون الضعفاء والأغنياء دون الفقراء والحاكمين دون المحكومين والسادة دون العبيد والمتبوعين دون التابعين والرجال دون النساء والراشدين دون الغاوين من الصبايا والصبيان والشابات والشباب والبالغين دون الأطفال .. مغرق في القدم، ربما يرجع إلى ظهور الملكية الخاصة وبداية الانقسام والتمايز لا بين الأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية فقط، بل انقسام الفرد الإنساني على نفسه، إثر قمع الأنوثة وكفها وكبتها في الذكور والإناث وتحويل الأنثى إلى ملكية خاصة، كالعبيد والبهائم. وانتهى ذلك إلى قسمة الذكور أنفسهم إلى عقل أو روح ونفس وجسد وحرمان المرأة من نعمة العقل أو الروح واختزالها إلى جسد ونفس ملوثة بشهواته ورغباته وغواياته وصيرورة الرجل عقلها أو رأسها، ثم قسمة العالم إلى ماهية ووجود ونسبة الماهية الخالدة (العقل المطلق) لله الواحد الأحد، ونسبة الوجود للعالم العابر أو الدنيا الزائلة والفرد الفاني، وما مقولتا “الوجود الحقيقي” و”الوجود الفعلي” الشائعتان، منذ أفلاطون إلى يومنا، سوى تعبير عن هذه القسمة التي تحدَّد بموجبها معنى العقل ونصاب الحقيقة.

وللبحث صلة

 


[1] – تعمدنا تحديد أو تعريف العقل الكلي بالإيجاب (هو) وعقل الفرد بالسلب (ليس) إشارة إلى ما هو مستقر في الثقافة والعرف من جهة وإلى الطابع المعياري الذي غلب على المفهوم من جهة أخرى. وهذا وثيق الصلة بمفهومي الأيس والليس في الثقافة العربية.

[2] – الطابع الهرمي للعقل / العقول ليس سوى تمثيل للطابع الهرمي للمجتمع والطابع الهرمي للسلطة؛ العقل الفعال في القمة والعقل المنفعل في القاعدة، لذلك ميزوا العقل أو الروح من النفس الملابسة للجسد والملوثة بحاجاته وشهواته ورغباته.

[3] – اللاعقل هنا لا يعادل الحمق والجنون والعته والبله والخرق والخرف .. وإن كان لا يستبعدها، ولكنه يحيل بصورة أساسية على غير المنتظم وغير المنضبط وغير المقيد وغير المحدد وغير القابل للضبط والقياس والتكميم، سواء في الفرد الإنساني أو في سائر الموجودات الأخرى. وهذا مرتبط بأحد معاني قولنا إن المتناهي لا يُستَنفَد ولا يَستَنفِد اللامتناهي.

[4] – المطلق شيء واللانهائي شيء آخر. المطلق من إنتاج الفكر، فلا يجوز فهمه إلا على أنه حد فكري وأخلاقي على النسبي يحول دون إطلاقيته. “فمن ليس في روحه وفي فكره المطلق يحوِّل نسبيَّه إلى مطلق وذلكم هو الاستبداد”، حسب الياس مرقص. المطلق هو المستحيل وجوده، إلا في الذهن أو هو الكمال المستحيل الذي تتجه إليه النفوس فيحفزها على التحسن الذاتي. بهذا المعنى يتحدث بعضهم عن “الديمقراطية المستحيلة”.

 

[5] – ما من حكم يطلقه الفرد الإنساني على شيء أو على شخص أو على معنى إلا وينطوي على بعدين: بعد واقعي (حكم واقع) وبعد قيمي أو تقديري (حكم قيمة)، فالموضوعية المطلقة مستحيلة كالذاتية المطلقة.

[6] – نعتقد أن المعرفة والعمل والحب هي حدود الوجود الإنساني، وهي ثلاثة أشكال للحرية، على اعتبار الحرية شكل الإنسانية ومضمونها، والعكس صحيح. الحرية والإنسانية متحدتان في هوية واحدة هي جوهر الوجود الإنساني.