°
, March 28, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

المجتمع المدني – هوية الاختلاف

في نقد التبسيط الحقوقي

يحدد الحقوقيون الدولة، بل يعرفونها، بثلاثة عناصر موضوعية هي: السكان والأرض والسلطات العامة؛ وليس بوسع أحد أن يجادل أو يماري في موضوعية هذه العناصر، بل يمكن أن يجادل المرء في تحديدها واستكناه مدلولاتها أولاً، وفي كون الكل (الدولة) لا يتحدد بأي من أجزائه، ولا

بأجزائه مجتمعة ثانياً. إن أي قطرة من ماء البحر تحمل خصائص البحر، ولكنها ليست بحراً، وأي خلية من جسم الكائن الحي تحمل جميع خصائص الكائن، ولكنها ليست الـكائن الحي، وكذلك جميع خلايا الكائن الحي ليست الـكائن الحي، بـ الـ التعريف. الكل أكبر من جميع أجزائه. فكل حديث عن المجتمع المدني والدولة الوطنية، بالتلازم الضروري، هو حديث عن كل اجتماعي اقتصادي وثقافي وسياسي محدد، من المبدأ والمنطلق، لا بشروط الزمان والمكان وحدودهما فحسب، بل بالروح الإنساني الذي يتموضع في العالم وفي التاريخ، أي في المكان والزمان على أنهما شكل وجوده وحركته الماديتين. وما يجعل الكل أكبر من جميع أجزائه هو طبيعته العلائقية وجدله الداخلي والخارجي الذي يجعل من وجوده عدم وجوده في كل حين. فإذا كانت عناصر الدولة الثلاثة، السكان والأرض والسلطات العامة، عناصر استاتيكية، ثابتة، فإن الدولة ليست كذلك؛ لأنها نتاج فاعلية مجتمع ينتج وجوده المادي، وينتجها، أي ينتج الدولة، شكلاً سياسياً وهمياً لوجوده المادي، كما في الدولة السياسية القائمة، أو شكلاً سياسياً فعلياً لوجوده المادي، كما في الدولة الديمقراطية الممكنة والواجبة[1]. ولذلك أميل إلى تصنيف الدول في ثلاثة أصناف: الدولة ما قبل السياسية (وما دون الدولة السياسية)، والدولة السياسية، والدولة الديمقراطية التي هي أفق الدولة السياسية وتجاوزها الجدلي. ويفترض هذا التصنيف مفهوماً جديداً للديمقراطية يرقى بها إلى مستوى حذف الاستلاب السياسي الكلي والناجز، في الدولة ما قبل السياسية، والنسبي في الدولة السياسية، في صيغتها الليبرالية أو في صيغتها “الديمقراطية البورجوازية”، حيث صنمية السلطة لا تزال تعبيراً سياسياً وحقوقياً عن “صنمية السلعة”، أو حيث لا تزال الدولة “سماء الشعب” بتعبير ماركس. على أن الدولة السياسية[2] هي المقدمة اللازمة والضرورية للدولة الديمقراطية.

 

يحيل مفهوم السكان الحقوقي والإحصائي على الرعايا في الدولة ما قبل السياسية، وعلى المواطنين في الدولة السياسة، وعلى المواطنين الأحرار في الدولة الديمقراطية. ولعل الفروق بين الرعايا والمواطنين والمواطنين الأحرار تشير إلى الفروق الجوهرية بين أصناف الدول وأنواع الحكم من جهة، وإلى طابع العلاقات الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية التي تجعل منهم رعايا أو مواطنين أو مواطنين أحراراً من جهة أخرى، أي إلى المجتمع التقليدي، والمجتمع المدني، والمجتمع المؤنسن ومعادلاتها السياسية: الدولة ما قبل السياسية والدولة السياسية والدولة الديمقراطية[3]. الفارق الجوهري أو النوعي بين المجتمع التقليدي والمجتمع الحديث (المجتمع المدني) هو العلمانية بجميع منطوياتها الإنسية والعقلانية والليبرالية، ولا سيما المواطنة والمساواة أمام القانون وتحرير الدولة من سائر التحديدات الذاتية للأفراد والجماعات، وتحقيق “الانعتاق السياسي” للمواطنين. والفارق الجوهري بين المجتمع المدني والمجتمع المؤنسن هو الحرية. ولذلك كنت ولا أزال أعرف الديمقراطية بأنها حرية الآخر الذي هو (أنا) و (آخر) في الوقت ذاته. في ضوء هذا الجدل، جدل الأنا والآخر تكف الحرية عن كونها مطلقاً ذاتياً، أو مطلقاً مشرعاً ذاتياً، كما تريدها الليبرالية الجديدة، أيديولوجية الرأسمالية المتوحشة.

لكن الرعايا أعضاء في جماعات مغلقة ومتحاجزة وطوائف حرفية، في الدولة ما قبل السياسية، ولا سيما في الدولة الاستبدادية ذات السحنة المملوكية العثمانية عندنا؛ أي أعضاء في المجتمع التقليدي؛ والمواطنين أعضاء في المجتمع والدولة الوطنية؛ والمواطنين الأحرار أعضاء في الدولة الديمقراطية والمجتمع المؤنسن؛ ومن ثم فإن مفاهيم: المجتمع المدني والأمة والشعب تغدو مفاهيم أساسية أو مركزية في مصفوفة نظرية حديثة تتخطى دائرة اهتمام الحقوقيين. وفي ضوء هذه المصفوفة تكف الأرض عن كونها رقعة جغرافية أو بيئة طبيعية، وميداناً للتملك السلبي، الخاص والعام والمشترك، وما يقرره من قواعد قانونية، لتصير وطناً يوفر لأهله الحرية والحياة الكريمة ويدافع أهله عنه ويصونون استقلاله وسيادته ويضحون في سبيل ذلك بالغالي والنفيس، وما ذلك إلا لأنهم يتملكونه إيجابياً بالعمل والإنتاج والمعرفة، ويموضعون ذواتهم فيه، فيكسبونه جميع خصائصهم، ويكتسبون جميع خصائصه؛ فكل إنتاج هو تملك. أما الدولة الديمقراطية التي هي أفق الدولة السياسية وتجاوزها الجدلي، فهي النظام العام الذي تكف معه الدولة عن كونها شكلاً سياسياً خاصاَ مخارجاً لمضمونه أو مناقضاً له، أي تكف عن كونها استلاباً لماهية المجتمع المدني وروح الشعب. وهي، كما حددها ماركس بوضوح لا لبس فيه، وحدة الشكل والمضمون، تصير معها الحياة السياسية للمجتمع هي ذاتها حياته الاجتماعية، ويكف القانون من ثم عن كونه قوة منع وكبح خارجية، ويصير قوة داخلية في الفرد والمجتمع، أميل إلى تسميتها بالقوة الروحية التي يصير القانون معها ضمير المواطن، ونوعاً من ضمير جمعي للمجتمع. هذه يوتوبيا، أجل، إنها كذلك، لكنها تريد أن تؤكد أن الإنسان على خط التحسن والتقدم، برغم الانتكاسات والتراجعات هنا وهناك، فضلاً عن وظيفتها المعيارية والأخلاقية. وهي قبل هذا وذاك تريد أن تؤكد أن هذا العالم هو عالم الإنسان وهو كالإنسان ذاته قابل للتحسن.

الوطن، وقد كف عن كونه مجرد رقعة جغرافية، أو بيئة طبيعية، أو حتى مجرد حدود سياسية معترف بها، يغدو علاقة إيجابية مثلثة الأطراف: علاقة بين الإنسان والطبيعة، وعلاقة بين الإنسان والإنسان الآخر، وبين الإنسان والمجتمع والدولة، وهي علاقة ذات محتوى اجتماعي اقتصادي وثقافي وسياسي وقانوني وأخلاقي، يمكن إجمالها بكلمة واحدة هي المواطنية؛ وتعني عضوية الفرد الفعلية في الدولة السياسية ومشاركته الإيجابية في الحياة العامة . ومن ثم فإن مفهوم الوطن لا يقوم من دون مفهوم المواطن، من دون مفهوم المواطنية والمواطنة. وهذه أيضاً لا تقوم من دون مفهوم الوطن؛ فويل للذين يريدون أن يكونوا مواطنين حيث لا وطن، وويل للذين يأكلون من أيدي غاصبيهم.

الانتقال من الدلالة المكانية الخالصة للوطن إلى الدلالات الاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية والقانونية كان نتيجة تطور تاريخي طويل، ويمكن القول إنه لم يتبلور إلا في مطلع الأزمنة الحديثة. وإذا شئتم فإن المواطنية، بما هي انعتاق من الروابط الأولية، ومن العلاقات “السياسية” الشخصية والوراثية، ومن منطق الامتيازات والولاءات الشخصية والعصبيات ما قبل الوطنية أو ما قبل القومية، هي أحد أهم معالم الحداثة.

الوطن هو ما يلبي حاجات الفرد الأساسية ويصون حقوقه المدنية وحرياته الأساسية وكرامته، ويحقق له المساواة مع الآخرين أمام القانون، ويحقق له الأمن والحماية والرفاهية؛ وإلا فإنه ينتكس إلى مجرد بيئة طبيعية ومكان إقامة. ومما يدعو إلى السخرية أن نبحث عن معنى الوطن في بطون المعجمات والقواميس، أو في الأشعار والأقوال المأثورة، لا في العلاقات الواقعية الحية، ولا سيما علاقة الفرد بالدولة، العلاقة التي تكثف جميع علاقاته الأخرى. الوطن هو بيتنا السياسي، وموطن اعتزازنا الأدبي.

والانتماء إلى الوطن، أي إلى الدولة السياسية، أي إلى المجتمع المدني، أي إلى الأمة، يتضمن جميع انتماءاتنا الأخرى ويعلو عليها، لا ذاتياً فحسب، بل موضوعياً أيضاً، لأنه انتماء إلى الكل، أو إلى الكلية العينية التي لا تكتمل فردية الفرد إلا بها. أما سائر الانتماءات والتحديدات الذاتية الأخرى، كالانتماء إلى الأسرة أو العائلة الممتدة أو إلى دين أو مذهب أو جماعة لغوية أو ثقافية أو إثنية، أو إلى طبقة اجتماعية أو حزب سياسي، فإنها تفصح عن طابعها الجزئي وتكتسي مضموناً جديداً تستمده من الانتماء إلى الكل. وقد يستهجن القارئ إذا قلنا إن الوطن مفهوم علماني بامتياز، وإن المواطنية هي الصيغة العملية للعلمانية. أليست العلمانية انتقالاً من التشظي إلى الوحدة ومن الملة إلى الأمة، يصير معه الوطن قيمة مشتركة بين جميع مواطنيه؟

وليس من نافل القول أن نؤكد أن حرية الوطن واستقلاله وسيادته، لا تعني شيئاً إذا لم تتأسس على حرية المواطن واستقلاله وسيادته. هل في هذا غلو؟ لقد علمتنا تجربة أكثر من نصف قرن أن الرعايا لا يدافعون عن الأوطان. المواطنون الأحرار فقط يمكن أن يدافعوا عن الوطن دفاعاً ناجعاً. العلاقة بين المواطن والوطن تناظر العلاقة بين الحرية والقانون. والشعوب التي لا تدافع عن قوانين بلادها لا تدافع عن بلادها. ويفترض قولنا هذا أن تكون القوانين جديرة بالدفاع عنها. وذلكم هو المغزى الأعمق لمفوم الوطن.

من كتاب : المجتمع المدني – هوية الاختلاف : جاد الكريم الجباعي – سوريا


[1] – نتحدث عن الدولة الديمقراطية بصيغة الإمكان انطلاقاً من حقيقة كونها إحدى ممكنات الدولة السياسية ، ما لم تنتكس الدولة السياسية إلى ما دون مفهومها.

[2] – يحيل مفهوم الدولة السياسية الذي تعمدت التزامه على مدار البحث على الدولة الحديثة، في محاولة لربط مفهوم السياسة بمفهوم الحداثة، لأن مفهوم الحداثة عندنا لا يزال فقيراً ومسطحاً وهشاً، يختزل على الغالب إلى نوع من نزعة علموية وتقنوية. مع بزوغ الحداثة فقط غدت السياسة شأناً عاماً، ووظيفة ملازمة للفرد / المواطن تعبر عن عضويته في المجتمع والدولة، وغدت من ثم فاعلية اجتماعية ومجتمعية، لا فاعلية سلطوية وسلطانية. والمؤسف أنه لا يزال ينظر إلى السياسة عندنا على أنها فاعلية سلطانية فحسب، حتى عند الذين ينظرون إليها على أنها فاعلية حزبية للحزب الشمولي الذي ما فتئ يعيد إنتاج الاستبداد. وجدير بالذكر أن المجتمع الحديث والفكر الحديث هما حاضنة الدولة الحديثة.

[3] – استعمل مفاهيم المجتمع المدني والمجتمع المؤنسن والدولة السياسية والدولة الديمقراطية بالمعنى الذي حدده ماركس في نقده فلسفة الحق عند هيغل خاصة.