°
, March 19, 2024 in
آخر الأخبار
دراسات اجتماعية
1

العلمانية والعدالة الاجتماعية متلازمتان

حوار مع الفيلسوف الفرنسي هنري بينا – رويز Henri Pena-Ruiz

لينا سانكاري Lina Sankari

ترجمة : خليد كدري

هنري بنا – رويز (1) عضو سابق في لجنة برنار ستازي المكلفة بالنظر في تطبيق مبدأ العلمانية على صعيد الجمهورية . تمثل العلمانية، بالنسبة له، معركة الساعة المرتبطة على نحو عميق بمسألة التحرر.

 

كيف نفسر هذه العودة المطردة لموضوع العلمانية في ساحة النقاشات الفرنسية؟

حاليا، هناك إستراتيجية ينتهجها مناهضو العلمانية وتتمثل في القول بأن العلمانية واقعة خاصة بفرنسا، وهي ’’الخصوصية‘‘التي يسعون إلى القضاء عليها. وهم أنفسهم من ابتكر مفاهيم’’العلمانية المفتوحة‘‘أو ’’الإيجابية‘‘. وهذه المفاهيم ليس لها أي معنى إن لم يكن الرفض المخاتل للعلمانية. هل يمكن الحديث عن عدالة اجتماعية مفتوحة أو حقوق إنسان مفتوحة؟ في الواقع إن العلمانية، هكذا بدون صيغة النعت، يمكن أن تهم أوربا برمتها. في إسبانيا، على سبيل المثال، العلمانيون يشجبون تحويل المال العام لحساب الكنيسة بينما الخدمات العمومية،المشتركة بين المؤمنين والملاحدة واللاأدريين، تعاني صنوفا من الإهمال. العلمانية ليست’’فرنسية‘‘بطبيعتها، بل هي ذات حمولة كونية.هل يمكن القول إن حقوق الإنسان فرنسية، أو إنّ قانون سلامة الجسد (2)إنجليزي أو إن دواء البنسلين اسكتلندي؟ صحيح أن فرنسا تظلّ واحدة من البلدان التي فصلت الدولة عن الكنيسة بأوضح ما يمكن. العلمانية تستدعي المساواة الصارمة بين المؤمنين، الملاحدة و اللاأدريين؛ إذن ليس هناك مبرر لإحداث امتيازات عمومية لصالح الدين، ولا لصالح الإلحاد.

وماذا عن النقاش الدائر حول ممارسة الشعائر الدينية؟

يجدر بنا أولا أن نتحاشى كل خلط بين المهاجرين والمؤمنين الممارسين لشعائرهم الدينية. المهاجرون المغاربيون والأتراك في فرنسا يتشكلون من العمال الذين يساهمون في صنع ثروة البلد. هم يستحقون إذن نفس الحقوق التي يتمتع بها العمال الفرنسيون تماما. من جملة هؤلاء المهاجرين، هناك قلة فقط هي التي تجد نفسها في الإسلام. هناك حوالي خمسة ملايين شخص منحدرين من الهجرة المغاربية والتركية. وتقدر نسبة الممارسين منهم أي أولئك الذين يرتادون المساجد بحوالي %15 ،أما 85% فهي نسبة غير المسلمين أو هم، إن كانوا مسلمين، يطبقون مبادئ الدين في حياتهم اليومية من غير أن يطالبوا بأكثر من ذلك. وبالمقابل، ينتظر هؤلاء الأشخاص من الجمهورية أن تلعب دورها الاجتماعي، وأن تكون حاضرة في الخدمات العمومية الكبرى كالتعليم والثقافة والصحة. يجب أن نتفادى الوقوع في خطأ الاعتقاد بأنه يلزم، من أجل المساواة بين المواطنين المسلمين والكاثوليك، بناء مساجد من المال العام. إن العدالة الاجتماعية تتمثل أولا في الاهتمام بما هو مشترك بين جميع البشر : تيسير الاستفادة من خدمات الثقافة والصحة والتربية والسكن اللائق. لا داعي لأن يهتم اليسار لنسبة %15 التي هي نسبة الأشخاص المؤمنين الممارسين، بل عليه الاهتمام لنسبة%100 من الأشخاص الذين يتطلعون إلى ما يهم الناس جميعا. ليس من مهام دولة علمانية أن تبني المساجد أو الكنائس، لكن من مهامها توفير مدارس عمومية، مستشفيات عمومية، مساكن اجتماعية في متناول الجميع.زد على ذلك أنه في السنوات الأخيرة تم بناء 2400 قاعة للصلاة : من الآن فصاعدا أضحى القول بأن المواطنين المسلمين يؤدون صلواتهم في الأقبية حديث خرافة. في باريس، هناك مساجد خالية من المصلين، بينما يدعي أشخاص أنهم يصلون في الشارع، تلبية لنداء رؤساء دينيين سلفيين. من الواضح ههنا أن الدين ليس سوى مطية يراد من ورائها تحدي قوانين الجمهورية العلمانية. لا يجب أن نخطئ المعركة الحق. الدين ليس خدمة عمومية، وفي بعض الحالات يتم تسخيره ضد حقوق النساء، ضد الثقافة، ضد الحرية الشخصية. يجب على اليسار ألا يترك الدفاع عن العلمانية لليمين، الذي أمعن أيضا في الهزء بها عبر دعم المدارس الدينية الخاصة في الوقت الذي ما فتئ يعمق فيه من تدهور الأوضاع المادية للمدرسة العمومية من خلال إلغاء الآلاف من مناصب الشغل. البوصلة التي نحتاجها، في هذا المضمار، بسيطة : المال العام منذور كله للخدمات العمومية، التي هي خدمات كونية، ومن ثم مشتركة بين المؤمنين والملاحدة. العدالة الاجتماعية والعلمانية متلازمتان : هناك صلات وصل بينهما(3). على سبيل التذكير : في الوقت الذي كان فيه جون جوريس منهمكا في إعداد قانون الفصل بين الدولة والكنائس، كان يفكر سلفا في معاشات العمال. فالمال الذي ما عاد ينفق على الدين يمكن من الآن فصاعدا أن ينذر لخدمة المصلحة العامة. فالمعاشات العمالية مشتركة بين المؤمنين والملاحدة. أما اليوم فالعكس هو الحاصل : الدولة تزعم أن قلة الموارد لا تسعفها لضمان هذه المعاشات، لكنها تكشف عن ثرائها بالقدر الذي يسمح لها بالإنفاق على ديانات لا تلزم سوى المؤمنين بها…

وأفكار من هذا القبيل لماذا تحتجب وراء الأكاذيب؟

يجب أن يتحلى المسؤولون السياسيون بالشجاعة ليعترفوا بأن الدين لا يلزم سوى المؤمنين. عندما يذهب المؤمن إلى المستشفى، فمن الواجب معالجته مجانا عوض أن يؤدي ثمن العلاج المتفاقم باستمرار من جراء منطق الرسوم العلاجية الإضافية والمصاريف الطبية غير القابلة للتحمل، هذا المنطق الذي كرس طبا يسير بوتيرتين. على هذا النحو، يوفر المؤمن على نفسه بعض تكاليف العلاج ويستطيع بكل سهولة أن يكتتب مع مؤمنين آخرين إن هو رغب في الإنفاق على شؤون دينه، في نطاق الحياة الخاصة. إنا نلحق ضررا بالغا بالسكان المنحدرين من الهجرة المغاربية والتركية إذا نحن جعلناهم في بوتقة واحدة مع المتدينين الذين يتحدون الجمهورية العلمانية. فالعلمانية والمساواة بين الجنسين والحق في التعليم والمعرفة لا يجب أن تعوقها تقاليد رجعية. يجب علينا أن نناضل بحزم ضد أشكال التمييز الاجتماعي التي تعاني منها فئات من السكان. لكن ذلك ليس مبررا للانضمام إلى لعبة الرؤساء الدينيين المتعصبين، الذين لا يمثلون سوى أنفسهم، فنعيرها اهتماما خاصا.

إذن العلمانية تطرح مسألة التحرر أيضا؟

التحرر فكرة مفادها أن البشر لا يجب أن يعيشوا تحت الوصاية. ومع العلمانية صارت هذه الفكرة مؤكدة. إذا نحن تركنا جمهرة بكاملها من السكان بين أيدي رهط من السلفيين الذين يحملون لواء النكوص الاجتماعي واللامساواة بين الجنسين، فإننا سنتنكب عن مطلب التحرر. فالقول بأن الجمهورية علمانية يعني أنها مرتبطة بمجموع الشعب وليس بالفئة التي تؤمن بالله. والقول بأنها اجتماعية يعني أنها ملزمة بلعب دورها في مجال الخدمات العمومية والحقوق الاجتماعية.

أين يكمن تواطؤ الأصولية الدينية مع سياسة إلغاء القيود(4)الليبرالية؟

من غير أن يخلو الأمر من المصادفة، يوجد نوع من القِران المدهش بين عولمة ليبرالية فائقة تجهز على حقوق العمال من ناحية، وبين هذا الانبعاث لآلية التعويض الديني من ناحية أخرى. منذ زمن ليس ببعيد، استطاعت مارغريت تاتشر أن تكسر آخر إضراب كبير شنه عمال المناجم البريطانيون، وأن تخصخص الخدمات العمومية كقطاع السكة الحديدية، وأن تجهز على المكاسب الاجتماعية. وفضلا عن ذلك، شجعت الطوائف الدينية على أن تنوب مناب الدولة الاجتماعية الفاشلة، وذلك على طريقة العمل الخيري. إذا كان الإحسان ينبع من شعور نبيل، فلا يمكنه أن يسد مسد السياسة الاجتماعية، ولا أن يحل محل التضامن القائم على إعادة توزيع الدخل.

الهوامش:

1) هنري بينا-رويز فيلسوف وكاتب فرنسي متخصص في قضايا العلمانية. مناضل يساري. مبرز في الفلسفة، و يعمل أستاذا محاضرا بمعهد الدراسات السياسية بباريس.(م).(م)Habeas Corpus2) قانون، وترجمتها الحرفية’’الأوعية المستطرقة‘‘.(م)vases communicants3) في الأصل.(م) dérégulation4)

المصدر: يومية لومانيتي الفرنسية في عددها الصادر بتاريخ 29 دجنبر 2010 . والحوار متوفر على موقع الصحيفة :

http://humanite.fr/28_12_2010-entre

عن موقع الأوان