سألني صحفي قبل أيام قليلة عن رأيي بمقترح قدمه بعض المجتمعيين الأدعياء لـ ”تأجيل استحداث حقوق جديدة“. فكرت متسائلاً: بكم من الطرق يمكن لهذا المقترح أن يُخطئ؟ يبدو المجتمعيون وكأنهم يرون الحقوق على انها صناديق صغيرة : عندما يكون لديك المثير منها فإن الغرفة ستمتليء وحسب رأيي ، فأن لدينا حق واحد فقط – أو عدد لا محدود من الحقوق – أمّا الحق الإنساني الواحد فهو حقك في أن تعيش الحياة التي تختارها ما دمت لا تخالف الحقوق المتساوية للآخرين.
ولكن لهذا الحق الوحيد مضامين لا حصر لها. وكما قال جيمس ويلسون، وهو أحد الموقعين على الدستور[الأمريكي]، في استجابة لمقترح بإضافة لائحة حقوق للدستور: ”نعدد كل حقوق الإنسان؟! أنا متأكد أيها السادة، أن ليس هناك من رجل في المؤتمر السابق قد حاول القيام بمثل هذا الشيء“. وعلى العموم، من حق الإنسان أن يرتدي قبعة — أو لا يرتدي؛ أن يتزوج أو لا يتزوج، أن يزرع البازلاء أو التفاح؛ أن يفتح دكاناً لبيع لوازم الخياطة. من المستحيل حصر وتعداد جميع الحقوق التي لدينا، فعادة ما نتجشم عناء تحديد أو تعريف هذه الحقوق فقط عندما يقترح أحدٌ ما فرض قيود معينة على هذا الحق أو ذاك. إن معاملة الحقوق على أنها مزاعم ملموسة يجب تحديدها أو حصرها في رقم معين سيؤدي إلى إساءة فهم للمفهوم برمته.
إن كل حق من الحقوق يحمل مسؤولية مترابطة به. إن حقي في التكلم بحرية يدل ضمنياً على مسؤوليتك في عدم التلصص عليّ. كما أن حقك في المُلكيّة الخاصة يدل بشكل ضمني على مسؤوليتي بعدم سرقتها، أو أن أجبرك على استخدامها بالطريقة التي أريد. باختصار، إن حماية حقوقي تتضمن احترامي لحقوق الآخرين. لذلك لماذا أشعر بعدم الارتياح عندما أسمع المجتمعيين وهم يتحدثون عن ”الحقوق والمسؤوليات“؟ تكمن المشكلة في أن هناك ثلاثة معانٍ لمصطلح (لمسؤولية) وكثيراً ما يتم الخلط بينها.
أولاً، هنالك المسؤوليات أنفة الذكر، الالتزامات المرتبطة بحقوق الناس الآخرين.
ثانياً، هنالك ”المسؤوليات“ التي يصر البعض على أننا نمتلكها كمستلزمات أساسية لممارسة حقوقنا. ويستذكر هذا المعنى، الذي كثيراً ما نجده في كتابات المجتمعيين، الطريقة السياسية في فرنسا ما قبل الثورة والقائمة على الفكرة القائلة بأن الحقوق هي الامتيازات التي نحتفظ بها طالما كنا نستخدمها بمسؤولية. إن هذه الفكرة تحط من شأن التقاليد الفردانية الأمريكية. فهي تدل على أننا نمتلك حقوقنا فقط عندما يقوم شخص آخر – وهو الحكومة في الواقع– بتأييد الطريقة التي نستخدمها فيها والمصادقة عليها. في الحقيقة، وكما يخبرنا إعلان الاستقلال (الأمريكي)، أن لدى البشر حقوقاً قبل أن يدخلوا في الحكومات التي وجدت لأجل حماية تلك الحقوق.
في بعض الأحيان يقع المحافظون – كما هو حال المجتمعين – في هذه الطريقة من التفكير. فصديقنا ستيوارت بتلر، من مؤسسة التراث، يدافع عن التأمين الصحي الذي تتولاه الحكومة على أساس أن ”الحرية تتضمن المسؤولية أيضاً“. ولكن إذا استطاعت الحكومة أن تطلب منا أو تلزمنا بالتصرف بطريقة تعتبرها مسؤولة من خلال شراء التأمين الصحي، فأي نوع من الحرية نملك؟
نادراً ما يحاول الناس أن يأخذوا حقوقنا عندما يعتقدون أننا نستخدم هذه الحقوق بطريقة مسؤولة. لا يحاول أحد أن يراقب الكلام العام السائد، ولكن الكلام البذيء أو الراديكالي هو الذي يتعرض عادة للتهديد. علينا أن نحمي حتى الاستخدام غير المسؤول للحقوق والسبب أنها حقوق وليست امتيازات. لا تقدم الحكومة مطلقاً على الاستحواذ على حريات المواطنين العاديين ودافعي الضرائب. ولكن من خلال تأسيس السوابق القانونية عبر الهجمات على حقوق المجموعات الممتهَنة أو المحتقرة، تضع الحكومة حجر الأساس لعملية تضييق حقوق كل فرد من الأفراد.
ثالثاً، هنالك مسؤوليات أخلاقية تقع خارج مملكة الحقوق. كثيراً ما يزعم البعض –وأشهرهم في هذا الخصوص الفيلسوفة المجتمعية ماري آن غليندون– إن ”لغة الحقوق هي لغة غير كاملة في العادة“. إنها كذلك بالطبع؛ فالحقوق لا ترتبط سوى بنطاق محدود من الأخلاقيات، وهو في الواقع نطاق ضيق وليست متعلقة بكافة الأخلاق. تؤسس الحقوق بعض معايير الحد الأدنى لمعاملة بعضنا البعض. علينا أن لا نقتل، أو نغتصب أو نسرق أو نبادر إلى استخدام القوة ضد بعضنا البعض. وهذا يترك الكثير من الاختيارات الأخرى لتتم معالجتها من قبل نظريات الأخلاق الأخرى. إلا أن هذه الحقيقة لا تعني أن فكرة الحقوق ليست بغير الصالحة أو الناقصة في المجال الذي يمكن تطبيقها فيه، بل تعني فقط أن معظم القرارات التي نتخذها كل يوم تتضمن اختيارات محاطة أو مقيدة بشكل واسع فضفاض ببعض الالتزامات لاحترام حقوق بعضنا البعض.
عادة ما يُتَّهم مؤيدو مبادئ الحرية بإغفال أو إهمال أو حتى رفض المسؤوليات الأخلاقية. قد تكون هناك بعض الحقيقة في التهمة الأولى، فمؤيدو مبادئ الحرية يقضون جل أوقاتهم في الدفاع عن الحرية وبهذا فهُم كثيراً ما ينتقدون الحكومة. ويتركون الأمر للآخرين ليكتشفوا الالتزامات الأخلاقية ويحثوا الناس على افتراضها. لِمَ ذلك؟ أرى لذلك سببين: الأول هنالك قضية التخصص. فنحن لا نطالب الباحث في مرض الايدز:- لماذا لا تبحث عن علاج للسرطان أيضاً؟ وبوجود حكومة بمثل هذا الحجم الكبير الذي هي عليه، يجد مؤيدو مبادئ الحرية أن مهمة تحديد حجمها تستهلك الوقت. والثاني، هو أن مؤيدي مبادئ الحرية قد لاحظوا أن العديد من غير المؤيدين لمبادئ الحرية يريدون تفعيل وتنفيذ كل فضيلة من الفضائل الأخلاقية بشكل قانوني. وكما قال وليام نيسكانين، لقد فشل ليبراليو دولة الرفاه في التمييز بين الفضيلة وبين المطلب الضروري، بينما فشل المحافظون المعاصرون في التمييز بين الإثم وبين الجريمة. (إن الإسهام الأوحد الذي تقدم به المجتمعيون للجدل الحالي هو أنهم جعلوا من هذين خطأين فادحين).
عندما يحذف مؤيدو مبادئ الحرية القيم الأخلاقية من تحليلهم الاجتماعي، فإنهم على كل حال يتجاهلون الدروس التي قام جميع عقلائهم بتدريسها. فقد كتب آدم سميث كتابه ”نظرية العواطف الأخلاقية“، وركز فريدريك هايك على أهمية التقاليد والأخلاق. أما إين راند فقد وضعت منظومة صارمة للأخلاقيات الشخصية. وكان عمل توماس ساز يتحدى السلوكيين والتخفيضيين بالتزام الأفكار القديمة التقليدية حول الخطأ والصواب، والحق والباطل، ومسؤولية الفرد عن اختياراته. ويؤكد تشارلس موري على قيمة وضرورة المجتمع والمسؤولية. على مؤيدي مبادئ الحرية أن يفعلوا المزيد لإيضاح دور المسؤولية الأخلاقية في فلسفتهم. وعلى كل حال، سيواصلون الإصرار على أن الحكومة تستطيع تقويض القيم الضرورية للمجتمع الحر – الشرف، الاعتماد على الذات، التعقل، التوفير، التعليم، التحمل، الانضباط، المُلكيّة، العقد، والأسرة، ولكنها لا تستطيع غرسها.
* نائب الرئيس التنفيذي لمعهد كيتو ومؤلف كتاب ”تمهيد في مذهب مؤيدي مبادئ الحرية“. عن تقرير كيتو للسياسات العامة، كانون الثاني-شباط، 1994.
عن موقع : http://www.assuaal.net