- -9-
وضع توفيق الراديو على صخرة ملساء ، و بدأ يبحث عن محطة ليستمع إليها بينما اتخذ حسون مكاناً له بجانب توفيق، و هو يضع عصاه في حجره و ينتظر بشغف صوت الصندوق العجيب ( الراديو) .
كان راديو لندن يبث أغنية لمحمد عبدالوهاب، جهد توفيق لكي يحصل على أفضل صوت ممكن،و قد بدت على وجهه علامات الرضا و هو يسمع عبد الوهاب و شجو موسيقاه .. كانت الأغنية تقول :
أين من عيني هاتيك المجالي … ياعروس البحر ياحلم الخيال
اين عشاقك سمار الليالي … اين من واديك يامهد الجمال
موكب الغيد وعيد الكرنفال … وسرى الجندول في عرض القتال
بين كأس يتشهى الكرم خمره
وحبيب يتمنى الكأس ثغره
تدخل هنا ( حسون) ليسأل توفيق :
-هلق متفهم عليه كلشي ميقولو ؟؟
– سد بوزك لو سمحت … لو سمحت !
و تابع الاستماع و هو في قمة النشوة :
ذهبي الشعر , شرقي السمات … مرح الأعطاف , حلو اللفتات
كلما قلت له : خذ . قال : هات … ياحبيب الروح يا أنس الحياة
قلت والنشوة تسري في لساني … هاجت الذكرى فأين الهرمان؟
اين وادي السحرصداح المغاني؟
اين ماء النيل؟ اين الضفتان؟
آه لو كنت معي نختال عبره
بشراع تسبح الأنجم اثره
حيث يروي الموج في أرخم نبره
وقف توفيق على صخرة تشاهد البحر الأبيض المتوسط من عالي الجبل و هو يستمع، و كان في قمة سعادته مع عبد الوهاب ! .. و كم أسف أن صوت المذيع اللندني تدخل لينهي الأغنية .
-أوووف خليها ولووو و لك حتى عنزاتي مبسوطين ، و لك حسون شفت كيف من يوم جبت الراديو صار الدر أحسين ( صار الحليب أفضل ) .
-اي والله صار الدر أحسين لعنزاتي و عنزاتك
-لك و عنزات شحادة نسيت أنن معي أمانة هاني
– لا مانسيت بس رح طق
– لشو ؟
– أنا أبتامن يعني تيحط عنزاتو معك ؟
– اي روح روح يقطع عمرك و لك أنا و شحادة طول عمرنا سوا و درسنا القرآن سوا نسيت ؟
– لا ما نسيبت بس يحط معي نص و معك نص
و لم ينتهي حسون من كلامه حتى جاءته عصا توفيق على قفاه، بينما كان المذيع يتلو نشرة الأخبار، عن سيطرة قوات الحلفاء على فرنسا و تحريرها من قوات هتلر .. هنا صاح توفيق :
– روحت عينا الأخبار يا دب ليكو هتلر ما يتبهدل و ينتفو شويربو و رح يخسر الحرب .
-10-
تقدم سري إلى شحادة الذي توقف عن الحصاد عندما رآه ينزل عن حصانه، و يتجه نحوه .
-شو كيفك يا شحادة
– الحمدلله يابيك الحمدلله
– كم ولد عندك ؟
– أربعة بعيون الشيطان
– إي يا عمي محظوظ انتي أربع شغيلة و انتي و أمهن
– الحمدلله
و اقترب سري من ابنة شحادة التي رمقها بنظرة خاصة و بدأ ينظر إليها ثم اقترب بعينيه ينظر في عينيها ثم إلى صدرها ، فوقف الأب بينهما و قال :
– خير يا بيك هاد ابني محمد
– محمد قلتلي ؟
– إي
– محمد إلو شعر مرة و أنزل الطاقية عن رأس هيام بحركة خاطفة ثم بدأ يصيح
-انتي واحد كلب كذاب حرامي
– يا بيك مو هيك الموضوع اسمعني
– بتعرف أنو البنت بتاخد نص اجرة ليش الكذب ؟
– الله وكيلك بتشتغل أحسن من اخوتها و فيك تشوف
– اسكوت ولاك انت واحد واطي
هنا تدخلت نجاح النورية قائلة :
– يا بيك شحادة زلمة كويس
– شو كويس بدي آخدو ع الدرك اعمل محضر تزوير
– تزوير !! ( صاح شحادة )
– اي تزوير شخصية
– نحلها يا بيك و الي تريده أكيد شحادة حاضر
– منشوف
أومأت نجاح لشحادة و زوجته بأن ينزويا معها قليلاً و قالت :
-البيك زلمة زين و ممكن يسامحك بس هو محتاج بنية تخدمه بالبيت شو رأيك ؟
– معاذ الله أبقبل
– يعني أحسن يبلغ الدرك
– يبلغ مين ما بدو
و صاح شحادة بأولاده و زوجته لكي يلملموا أشياءهم للرحيل ! بينما تجمع كل الفلاحين حول شحادة و البيك، و بدأ الهرج و المرج .. في تلك الأثناء سدد رجل ملثم طعنة لسري في خاصرته ، و لاذ بالفرار ، فسقط مضرجاً بالدماء بينما بدأ عويل النساء و اضطراب الرجال من حوله و هو ساقط على الأرض مضرجاً بدمه ، بينما كانت نجاح تصيح :
– شحادة قتل البيك .. شحادة قتل البيك
خلال دقائق جمع شحادة حاجياته ، و أركب عائلته العربة و أنطلق بهم عائداً إلى حمص .
-11-
على الطريق إلى حمص كان عقل شحادة القلق يعمل و هو ينظر بين الحين و الآخر إلى أولاده المذعورين الجالسين في العربة و يصيح بهم :
-بيي لا تخافو … لا تخافو يا بيي
– شو بدنا نسوي ( قالت زوجته )
– والله أبعريف بس عم فكر .. و ع الضيعة أفينا نروح بيمسكونا
– لكان شو
– رح نروح ع الشام
كانت العربة منطلقة بأقصى سرعتها باتجاه الغرب حيث لاحت بيوت المدينة التي تحيط بها الحقول . توقف شحادة قرب حقل وجد فيه مجموعة من الرجال و النساء، ليطلب الماء . و بعد أن شرب و سقى عائلته سأل :
– يا جماعة حدا بيشتري هالبغل و العرباية
– بدك تبيع ؟ ( سأل أحدهم )
– اي والله بدي بيع
– بعطيك ليرتين
– بس هدول حقن خمسة
– هاد الي معي
– ( فكر قليلاً ) ماشي بعتك .. و صاح بزوجته و أولاده أن يترجلوا من العربة-12 –
وصلت سيارة الجيب العسكرية إلى حامية تلكلخ على متنها ضابطين أحدهما فرنسي تبدو عليه ملامح شمس الشرق ، و الآخر أسمر البشرة ذو عينين خضراوين . كان الفرنسي برتبة كولونيل و الثاني كابيتان ، ما إن دخلا إلى الحامية حتى اصطف الجنود على أهبة الاستعداد لتقديم الصف و السلاح !
و بعد تقديم السلاح وقف الكولونيل الفرنسي ( فيليب) متحدثاً بالعسكر بالغة الفرنسية بينا تولى الترجمة سرجانت الحامية .
-جئت إليكم اليوم بخبر سعيد ، من الآن فصاعداً سيكون الكابيتان ( محمد) قائداً للحامية ، و سأذهب أنا إلى دمشق لتسلم مهام أخرى . النقيب محمد من أمهر ضباط جيش الشرق و هو ابن هذه المنطقة ، و سيكون أفضل قائد لهذه الحامية، أوصيكم بطاعته كجنود حقيقيين، و صف ضباط مطيعين و ( متوجهاً للملازم السينغالي الأسمر بانو ) و للضابط بانو نائبه الذي يعرف واجبه جيداً أن يطيعه طاعة مطلقه . عاشت فرنسا
انهى فيليب كلمته و ركب سيارته و انطلق من الحامية بعد أن أديت له التحية العسكرية .
-13 –
في مساء ذلك اليوم انطلقت البوسطة ( الحافلة) بعائلة شحادة الهاربة إلى الشام ، دون أن يعلم أي من الوالدين إلى أين المسير ، و أين سيبيتوا ليلتهم .
نام الأولاد خلال الطريق بعد أن أعطت لهم أمهم لقيمات خبز بقيت في زوادتها ، و اكتفى شحادة بشرب الماء ،و كان عقله لا يتوقف أبداً عن التفكير .
بعد ساعتين من مسير الحافلة و قبل الوصول إلى دمشق قالت الأم :
-ليك الدنيا صيف و لا تخاف ع النومة فينا النام وين ما كان
– ولك كيف وين ما كان رح انفجر أنا
– لا تعصب .. أبينفع التعصيب ! قدر الله هايا كلو .. بدك تلاقي شغل مشان تطعمي الولاد أهم شي
– انتي بتعرفي اني ما قتلتو .. أنا ما ضربتو أبعرف مين ضربو بالسكين
– والله بعرف
– يمكن كان لازم سلم حالي للدرك
– ماسمعتا لبنت الحرام نجاح متصيح انك طعنتو .. رح يظلموك
– آآآخ .. شو بعمول و هالولاد وين بروح فيين
في السادسة مساء من ليل حزيران عام 1945م وصلت الحافلة التي تقل شحادة محمد علي و أسرته المؤلفة من الأم و ابنتها الكبيرة و اخوتها الصغار إلى دمشق ، حيث ناموا ليلتهم تلك قرب سور محطة الباصات في منطقة الحلبوني ، في قلب دمشق .يتبع