°
, December 8, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

رواية ” الأرض ” الجزء الثاني ، الحلقة الأولى ل : د. محمد عبدالله الأحمد

الأرض/ الجزء الثاني

/في خمسينيات القرن العشرين، كانت سورية ( الدولة) تشبه فتاة شابة تحاول أن تجد لنفسها طريقاً و مكاناً صحيحين، بين الدول . إلا أن كل شيء كان يشي بالاضطراب و المستقبل المجهول/ .

-1-
كانت أمور ( توفيق) قد تحسنت نسبياً فلقد كان ينزل دورياً إلى حماة منذ بداية العقد، ليجلس إلى ملهمه الحزبي و الوطني ( أكرم الحوراني) العائد من حرب فلسطين، محبوباً ممجداً برغم الانكسار و الهزيمة ! و كان لمحمود أن يحصل على ( السرتفيكا) لاجتهاده و اصراره على التعلم ، لابل و تعليم أولاده، و كل من كان يلتقيه، حيث لسان حاله : ( مافي أحسن من العلم ) !
في أحد أيام الربيع ضاقت به الحال، فأراد بيع خاتم ذهبي قديم فيه حجر عقيق حصل عليه من جده المرحوم ( علي ) ، الذي لم يمنعه من بيعه إن ضاقت به الأحول، و كان يحتاج للمال لاستكمال تعليم الولدين .
كان يركب البوسطة إلى حماة، حيث قرر أن يزور مكتب حزب الشباب الذي صار فيما بعد ( الاشتراكي العربي)، و لكنه قبلها قرر أن يبيع الخاتم .
طوال الطريق كان يتذكر رفيقه الشهيد الطبقي ( شحادة) و يترحم عليه ، و هو يقول في نفسه : ( خسرناك يا سيد الرجال ) . نزل من البوسطة في منطقة قريبة من السوق و اتجه ماشياً إلى سوق الصياغ قرب الجامع الكبير الذي يؤمه الشيخ محمود الشقفة عالم حماة الجليل .
دخل إلى الصايغ الذي كان يضع المكبر على عينه اليسرى،و قال :
-السلام عليكم
-وعليكم السلام ( ببرود)
– بدي بيع هالخاتم
– هات لشوف شو معك
– تفضل
لم ينظر الصائغ للخاتم بل نظر إلى توفيق و لباسه الذي يميز أبناء القرى، عقاله الأسود و حطاطته البيضاء، لهجته ، كل شيء كان يدل على قرويته .
كان الدرج مفتوحاً و كان الصايغ الشاب يصيح من وقت لآخر على صبي القهوجي من أجل قهوته و نرجيلته شاتماً إياه على تأخره !
بحركة سريعة و أثناء نظره إلى خارج المحل و حين رأى أن توفيق لد أيضاً معه بالنظر للخارج لثانية، ألقى بخاتم توفيق في الدرج و أخرج آخراً رماه على الطاولة قائلاً بتهكم :
-خود خاتمك و حل ، هاد فالصو !!
– إي هاد مانو خاتمي
– شو !!
– إي خاتمي دهب و عقيق ليكو عندك بالدرج
– ولاااك عم تكذبني (و بدأ بالصياح الشديد ) فلاح الكلب !!
و تجمع السوق كله على صوتيهما ، حيث كان الصايغ يطلق عبارات طائفية
-انقلع يا نصيري النحس واحد كذاب
– عيب عليك ولاك
و خضم العركة وصل الشيخ محمود الشقفة إلى المكان و والد الصايغ في نفس الوقت ، و سألا عن الأمر، فقال الصايغ :
– يا شيخ محمود هالنصيري عم يكذبني
فقال الشيخ محمود بهدوء :
-لا تهين الرجل ! بإيش عم يكذبك
فقال الصايغ مضطرباً
-عم يدعي إنو عطاني خاتم دهب و هاد خاتمو
– حاسس إنك انت الكذاب
– ليش يا شيخي ؟
– لو كنت صادق مافي حاجة تصيح و تعمل طوشة قدام محلك، و ما كنت أهنت الرجل بدينه !
هنا تدخل والد الصايغ ( نجدت) و تقدم من ابنه فصفعه على وجهه قائلاً :
-إي طبعاً هاد الخاتم الفالصو مانو للفلاح
و دخل إلى المحل فاتحاً الدرج حيث أخرج خاتم ( توفيق) و خرج به أمام الناس، متوجهاً له قائلاً :
-عمو أنا بعتذر منك قدام الشيخ محمود و قدام كل السوق ، و هاي بوسة من راسك ، ابني أزعر أنا ما ربيته ، قديش بدك حق الخاتم، بتاخد و حبة مسك !
هنا دخل نجدت إلى المحل و أخذ طربوشه وضعه على رأسه ، و خرج غاضباً و في عينيه نظرة تحد .
أما الشيخ محمود فلقد أنتظر حتى أنهى توفيق بيع خاتمه، لأبي نجدت و عندما خرج أمسكه من يده ومشى معه إلى باب الجامع قائلاً :
-الاسم الكريم
– توفيق .. توفيق الأحمد
– أخ توفيق حان موعد صلاة الظهر تعال نصلي و بعدين منروح ع البيت
عندما فرغ الشيخ محمود من إمامة الصلاة، التفت إلى توفيق مبتسماً ثم قام إليه و أخذه للخارج قائلاً :
– انت جاي تبيع الخاتم بحماة ؟
– لا مو بس هيك، أنا جاي لعند الاستاذ أكرم
– اي و النعم منك و منو
ثم أخرج من جيبه عدداً من المفاتيح المتشابهة و أعطى واحداً منها لتوفيق ، و قال :
-عمو ، بحماة كلها مافي خان ! يعني مافي أوتيل لأن نحن الحموية عاداتنا الضيوف بيناموا عنا بي بيوتنا ، مو بالاوتيل ! هاد مفتاح باب منزول بيت الشقفة ، في منو شي خمسين نسخة ، صار عندك نسخة ! لما بتجي على حماة و بدك تاكل و تنام ، هاد بيت الشقفة ! و أشار إلى باب خشبي قرب الجامع .
-الله يعزك
– لا تستحي دايما رح تلاقي حدا بالمنزول ، حالو متل حالتك من كل سورية ، في فرش كتير ، بتمد فرشتك و بتنام ، و ما حدا بيسألك مين انت ! خود المفتاح
– يا شيخ !
– خود المفتاح
و أخذ توفيق مفتاح منزول آل الشقفة في حماة .

-2-
كانت طائرة الركاب المدنية قادمة من باريس إلى دمشق، و من بين ركابها كانت سيدة شابة تتوشح بالسواد، و تمسك بمنديل لا يترك يدها لتكفكف دمعاً، لا تستطيع منعه . سألتها السيدة التي جاورتها :
-خير مدام ، بقدر ساعدك ؟
-شكراً
– واضح انك حزينة و لابسة أسود ! مابعرف مين رحلك من أهلك بس الموت حق .
– صحيح
– انتي من الشام ؟
– اي
– أنا ليلى
– هيام
– تشرفنا
– تسلمي و الي الشرف
– خير مين توفى الله يرحمه
– زوجي ، و هو معي بالتابوت بالطيارة ، نزلت على الشام للدفن لأن وصيته يندفن بالشام
– من بيت مين
– أنا زوجة .. عفواً صرت أرملة الحج محمد شرباتي
– الله يرحمه ، انتو عيلة كريمة و معروفة
– الله يعز مقدارك
– أيوااا ..  كنت اسمع عنك
– ما فهمت ؟
– حضرتك مرت محمد شرباتي و كنتو عايشين بفرنسا ، و قصتك معروفة بالشام
– قصة الفلاحة
– ……….. ( تصمت و تنظر إليها بحيرة)
– إي صحيح أنا الفلاحة بنت الشهيد شحادة المظلوم و زوجة أنبل رجل بالشام ! الرجال الي ما شفت منه غير النبل و الاخلاق العالية .. و الكرم .
– اذا ما بيزعجك حكيلي حكايتك
– بعد ما شنقوا الفرنسيين أبي ظلم، أخدنا محمد الله يرحمه ( تدمع ) ع الضيعة و تركنا أنا ووالدتي و اخوتي، و رجع بعد كم شهر ، طلبني من أمي للزواج .. بعمري ما بنسى كلامه .. و تتذكر ( ام جبر أنا رجال أرمل توفت زوجتي من زمان و ما عندي ولاد ، و عم اكبر بالعمر ، بدي بنتك هيام على سنة الله و رسوله ، بس اذا هي قبلانة ، غير هيك بحمل حالي و بمشي و منضل أهل )
قبلت فيه و تزوجنا و رحنا ع الشام ، و بعدين ع باريس .. عشت معه أميرة تعلمت كتير على ايديه ، و دخلت مدارس، ما رضي إلا أدرس بأفضل معاهد فرنسا.. الله يرحمك .
-الله يرحمه عملة نادرة هدول الرجال
– هاد كان ملاك صدقيني ، أنقذني و أنقذ اخوتي تعلموا و صاروا كبار، الكبير استاذ مدرسة ، و التنين الباقيين ضباط بالجيش .
– صحي بدي اسألك ، انتو شو بيحببكن بالجيش كتير
– قصدك العلوية
– اي
– متل الشركس، بيحبو الشرطة ! .. و بالقديم المماليك حكموا مصر و غيرها
– اف شي بيخوف
– مظبوط و أنا خايفة
-3 –
في حارة الخضر كان الشابان البعثيان خيرالله الناعم و صالح الأحمد، ينتظران الخطاط المدعو صبري، الذي ما فتيء ينافق الرئيس أديب الشيشكلي، فيضع اليافطة تلو الأخرى ، بمناسبة أو بدونها، و يعلقها من طرف الحارة الشرقي ثم يوصلها عبر الحبل بالطرف الغربي، مستخدماً سلماً خشبياً ! مهنئاً رئيسه بكل عبارات التفخيم الممكنة، و في كل مرة بخط جديد ، فالكوفي و النسخ و الثلث … الخ ! و كان حتى لايسمح بأن يشاركه أحد في مجده هذا، لكي يصل الخبر للمكتب الثاني ( المخابرات) فيعلمون كم هو موال عاشق للزعيم .

و ما إن فرع صبري من يافطته التي كتب عليها، (يعيش الفريق أول الزعيم البطل المغوار أديب الشيشكلي)، حتى صعد صالح على كتفي خيرالله و رسم على كلمة ( صبري) الموقعة من تحت الكلام ساقاً ممدودة على الصاد لتصبح ( ط)
و نقطة أخرى تحت الباء ، و نقطة ثالثة فوق الراء، فصارت الكلمة ( طيزي).
في ذلك اليوم بالذات ترصد لهما صبري، و لحق بهما و جرت مطاردة لم يفلح، خلالها بالقبض على أي منهما، لأنه كان هرماً بالمقارنة مع شابين صغيرين في الخامسة عشرة ! إلا أنه عرف غريميه و أبلغ المخبرين .

يتبع

ملاحظة : أي تشابه  أو تطابق في الأسماء مع الواقع جاء بمحض الصدفة ، و الأحداث التي تجري صنعها الكاتب بناء على الواقع و محاكاة له ، إنما الأسماء لا تعني  أبداً  انها حقيقية .