°
, April 19, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

أقرأ تاريخ الحاضر – أدونيس .

…..أقرأ تاريخ الحاضر , أراه , كما أقرأ سفينة تغرق وأراها . وربما لا أستطيع , في هذا اللحظة من قراءتي ورؤيتي , أن أفعل شيئا إلا أن ألاحظ أخطاء القيادة . أقول : هذه القيادة دون منهج , على مستوى بناء الدولة . ودون رؤية على مستوى التخطيط للمستقبل . ذلك أنها تعلن عن نفسها , بدئيا , أنها الكاملة المعصومة , وبدئيا , تمارس هذه السلطوية من أجل تحقيق ما تزعم انه الوحدة – التقدم , في بلاد يقوم تاريخها كله على تثبيت التناقضات ونفي التقدم .

وأقول : لا يمكن , في النهاية , إلا أن تنقلب هذه الممارسة المعصومة على هذه القيادة – السلطة . وتصبح هذه في اتجاه , والشعب في اتجاه آخر , ثم يجيء التتابع المنطقي : تحتل القوة المادية , قوة السلطة , الساحات كلها : السياسة , الإدارة , الثقافة , الاقتصاد , التربية , العمل , الحقل , والمصنع والمعمل والشارع .

وأقول : لا يمكن أن تكون العصمة السلطوية , في هذا التتابع , إلا اسما أخر للعبودية . وحيث تقوم السلطة على العبودية , لا يتحقق غير العقم : عقم النظر وعقم العمل . وندخل في ما يشبه الفاجعة , بالمعنى التراجيدي اليوناني : العبث , الفتك والقدر العمى . وكل عصمة على هذا المستوى , انحسار وتفتّت . وكل معصوم على هذا المستوى , منحسر ومتفتّت .

وأقول : منطق هذه العصمة هو أن تفرض نفسها , وأن تفكّر وتعمل وكأن الشعب ليس أكثر من دُمىً وواجهات . ويجد هذا المنطق أقلاما كثيرة تتبارى لتوكيد العصمة وتعميمها وتحويلها إلى مناخ وحيد . ومناخ عصمة كهذه لا فعل له إلا أن يوهم ويضلّل : نتحدث , مثلا عن بناء الدولة المدنية , ونحن لا نزال في طور القبيلة والعشيرة والعائلة والطائفة . ونتحدث , مثلا , عن العمل فنرى إليه بعدا جوهريا من أبعاد الإنسان ( كل إنسان لا يعمل ناقص الوجود , أو هو غير موجود إلا جزئيا أو شكليا أو مجازيا ً) ولا نزال خارج مفهوم العمل – لأن العمل لا يزال منحةً من فوق .

وأقول : ندخل في لعبة لا يعرف فيها أحد مكانه ,ولا اتّجاهه . ثم نكتشف , بعد فوات الأوان دائماً , أننا نكرر خطواتنا ونحسب هذا التكرار سير إلى الأمام .

وأننا لم نكن نعمل لكي نتجاوز التناقضات بل لكي نقبل بها ونستسلم لها . وأننا , بالأحرى , كنا نعمل لكي نحافظ عليها , ونحافظ على قبولنا واستسلامنا .

وأقول : تصبح البلاد فردا , وتصبح مؤسساتها أفرادا , وتصبح السلطة سلطة الفرد لا سلطة الشعب . وأقول هكذا يجيء السقوط , شاملاً وحتمياً .

أقرأ تاريخنا الحاضر , وأراه , كما أقرأ شمساً أو ميلاداً وأراهما . وبما لا أستطيع , في هذه اللحظة من قراءتي ورؤيتي , إلا أن أقول : الحرية للشعب , قبل كل شيء . أعني الحرية المشخصة المباشرة للإنسان لكي يصرخ : نعم , أو يصرخ : لا , في وجه أي شيء , كما يشاء , حينما يشاء .

مقطع مجتزأ لــ: أدونيس في كتابه ” فاتحة لنهايات القرن ” الصادر عن دار التكوين في دمشق . الطبعة الثالثة 2010 .