°
, April 19, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

نقاش في المواطنة – 1 – 2 . جاد الكريم الجباعي

المواطن CITIZEN عضو في جماعة سياسية يتمتع بحقوق المواطنة ويؤدي واجباتها. والجماعة السياسية، هنا، هي “المجتمع المنظم” أو “الأمة المنظمة” أو الشعب، أي إن المواطن عضو في دولة حديثة

يتمتع بما تقرره المواطنة من حقوق مدنية وسياسية وما تعينه من واجبات مدنية والتزامات قانونية، وفق تعريف الدولة بأنها “مجتمع سياسي” (مقابل المجتمع المدني)، أو “مجتمع منظم” أو “أمة منظمة”، أو شكل الحياة السياسية والأخلاقية لشعب من الشعوب، بحسب ما يكون المدخل إلى التعريف اجتماعياً (سوسيولوجياً) أو ثقافياً وأخلاقياً أو سياسياً أو قانونياً. هذا التعريف العام الواسع نجده، مع قليل من التغيير والاختلاف في أعمال المؤلفين المعاصرين الذين يتخذونه مدخلاً لتحديد معنى المواطنة. ومع ذلك فإن نقطة البدء هذه مرجع جدير بالثقة، لأنها تحيل على تاريخ المفهوم وتغير دلالته من زمان إلى آخر ومن مكان إلى آخر ومن تجربة تاريخية إلى أخرى. (راجع معنى المواطنة عند أفلاطون ). لكن ما هو مؤكد اليوم اقتران مفهوم المواطنة ومفهوم الدولة الوطنية أو القومية الحديثة، على اختلاف الأنظمة السياسية. فلا يمكن الحديث عن المواطنة، في القرن الحادي والعشرين بمعزل عن المجتمع المدني والدولة الوطنية الحديثة، دولة الحق والقانون والمؤسسات، بما هي مقدمة ضرورية للدولة الديمقراطية. فإن المواطنة بركنيها الأساسيين: المساواة والحرية هي ما يجعل من الديمقراطية نظاماً تواصلياً مفتوحاً على أفق إنساني، بقدر ما هو مفتوح على النمو والتقدم. بل لا يمكن الحديث عن المواطنة التي تستحق اسمها إلا بالانطلاق من قاعدة إنسانية واعتماد معايير إنسانية.

 

المرجع الجدير بالثقة، في هذا المجال، هو الشرعة العالمية لحقوق الإنسان والعهود والمواثيق الملحقة بها، مضافاً إليها حقوق المواطن، كما أنضجتها التجارب السياسية الأكثر تقدماً والأقرب إلى الديمقراطية. ولعله من قبيل اللغو ومحاولة الالتفاف على هذا المرجع العالمي حديثُ بعضهم عن ميثاق عربي أو إسلامي لحقوق الإنسان، كأن العرب أو المسلمين جنس آخر غير الجنس البشري والجماعة الإنسانية، ومن ذلك ما يسمى “التحفظات” العربية والإسلامية على المعاهدات والمواثيق الخاصة بتمكين المرأة وحقوق الأقليات. المواطنة، وفق هذين المرجعين، حقوق الإنسان وحقوق المواطن، هي انعتاق سياسي من التبعية والاستبداد، ومقدمة ضرورية للانعتاق الإنساني من جميع الشروط التي تهين الكرامة الإنسانية.

لقد أشرنا في غير مكان وفي أكثر من مناسبة إلى أن الإنسانية أو الإنسية هي أساس الوطنية ورافعتها. فلا يمكن أن يعترف أحدنا بتساوي المواطنين في الحقوق والواجبات إذا لم يعترف أولاً بتساويهم في الكرامة الإنسانية. الإنسانية والمواطنة صفتان لا تقبلان التفاوت والتفاضل؛ فليس من فرد إنساني هو أكثر أو أقل إنسانية من الآخر، وليس من عضو في دولة معينة هو مواطن أكثر أو اقل من الآخر. تجدر الإشارة هنا إلى تقليد سياسي رديء عندنا حين نصف هذا الشخص أو ذاك أو نحكم عليه بأنه وطني، وعلى آخر بأنه غير وطني، أو حين نحكم على حزب أو اتجاه فكري وسياسي بأنه وطني وما عداه غير وطني، فإن نزع صفة الوطنية عن شخص أو حزب أو اتجاه سياسي هو هدم لمبدأ المواطنة، لا ينم على جهل بما هي المواطنة فقط، بل ينم على استبداد. الجهل والاستبداد صنوان، والمستبد هو أجهل الجاهلين، لأنه ليس في حاجة إلى أن يعرف، بل في حاجة إلى أن يريد فقط. لأن المواطنة غير معيشة في الواقع حولناها إلى حكم قيمة، وهكذا بقية المفاهيم الحديثة. ولا ينتبه من يطلقون هذا النوع من الأحكام أن أحكامهم ذات أصل ديني أو مذهبي، فالتخوين في الخطاب السياسي كالتكفير في الخطاب الديني سواء بسواء، ويعني في الحالين إخراج الآخر من الملة وإحلال دمه وماله وعرضه. فليس من قبيل المصادفة أن الأحزاب الأيديولوجية، القومية والاشتراكية والإسلامية كلها تحولت إلى ملل ونحل وطوائف جديدة معادية للحرية ومهينة للكرامة الإنسانية، مثلها مثل الملل والنحل والطوائف أو الأرثوذكسيات الدينية. الأحزاب الأيديولوجية هي عفن المجتمع التقليدي وقد صار أحزاباً “سياسية”، هي طائفية المجتمع التقليدي وهمجيته في إهاب “علماني” زائف. هذا العار يجب نشره على الملأ. ألا تكفي ممارسات الأحزاب القومية والاشتراكية والإسلامية التي اغتصبت السلطة في غير مكان دليلاً على ذلك؟

الفرق بين نقاشات فلاسفة القرن الثامن عشر ونقاشات المعاصرين، في موضوع المواطنة، ذو دلالة مهمة، إذ كانت فكرة المواطن لا تزال ملتبسة بفكرة الرعية حتى لتبدو هي ذاتها في النظام الملكي (المونارشي)، أي إن فكرة المواطن لم تكن قد تحررت بعد من ماضيها الرعوي (نسبة إلى الرعية)، (كما أشار هوبز)، أو إن بينهما علاقة تناقض (كما في قراءة بعضهم لاقتراح أرسطو ). هذه المسألة أقل مركزية اليوم حين نميل إلى افتراض أن الديمقراطية الليبرالية هي نقطة الانطلاق في تفكيرنا. ولكن هذا لا يعني في جميع الأحوال أن المفهوم بات غير خلافي. فبعد عصر طويل من الهدوء النسبي تزايد الاهتمام بالمواطنة على نحو دراماتيكي منذ أوائل تسعينات القرن العشرين.

ثمة تحديان يواجهان المنظرين ويوجهان عملهم في إعادة فحص المفهوم وتعيين حدوده وتحريره من ماضيه: الأول هو تقدير ما أنجزه الديمقراطيون الليبراليون، وفق اختلاف النظم السياسية وتعدد النماذج الديمقراطية واختلاف مبادئها وقوانينها. والثاني هو ضغط العولمة الشديد على كل ما هو محلي، وبروز مفهوم “المواطن العالمي”. فلا يزال الناس يتحدثون، في اللغة السياسية والدبلوماسية، عن “رعايا الدولة”، وعن “دولة الرعاية”، التي ترعى مصالح مواطنيها، وتدافع عن حقوقهم، لا في إقليمها فقط، بل أينما يكونون، عن طريق سفاراتها وقنصلياتها.

لا بد أن نذكِّر هنا بالتشابه بين رعايا الدولة ورعايا أبرشية معينة أو رعايا الكنيسة للكشف عن الدلالات الأعمق غوراً لمفهوم الرعية. أما في اللغة والتراث العربيين فلا بد من الذهاب إلى مفهومي الراعي والرعية. والرعية في جميع الأحوال هو التابع الخاضع الذي لا إرادة له ولا حول ولا طول. ولا تزال هذه الدلالة تبطن مفهوم المواطن في الفكر الإسلامي وأيديولوجية الجماعات الإسلامية والجماعات القومية أيضاً، ولا سيما تلك التي تتماهى لديها العروبة بالإسلام السني خاصة. المواطن، في الفكر الإسلامي، وفي “الدولة الإسلامية” المفترضة، ماضياً ومستقبلاً” هو المسلم ومن عداه ذمي أو كافر أو مشرك؛ وفي الفكر القومي العربي، وفي “الدولة القومية” المفترضة، ماضياً ومستقبلاً، هو العربي، ومن عداه مولى تابع أو أعجمي مستبعد؛ والمعنيان بعيدان كل البعد عن المعنى الذي أنضجه الفكر الإنساني وتجارب الدول الوطنية أو القومية الحديثة.

يجمع الباحثون اليوم على أن للمواطنة ثلاثة أبعاد أساسية أو ثلاثة مجالات: أولها أن المواطنة حالة قانونية، أو وضع قانوني، فهي، بهذا المعنى، ترادف “الجنسية” التي يكتسبها الفرد من عضوية الدولة. يتحدد هذا البعد بالحقوق الاجتماعية، المدنية والسياسية، التي تترتب على علاقاته الاجتماعية والإنسانية بالآخرين، المادية منها والمعنوية، إذ كل علاقة بين طرفين ترتب حقوقاً وواجبات. فالمواطِنة أو المواطِن هنا “شخص قانوني” حر، في أن يعمل ما يريد وفق القوانين النافذة. وله الحق في أن يطالب بحماية الدولة، أي حماية القانون، لحياته وكفالة حقوقه وصون حريته وكرامته، إزاء أي اعتداء عليها أو تهديد لها.

والبعد الثاني، بعد اجتماعي / سياسي، بالمعنى الواسع للكلمة، قوامه النظر إلى المواطنين بصفتهم قوة اجتماعية / سياسية يشاركون بنشاط في الشؤون العامة وفي حياة الدولة من خلال مؤسسات المجتمع المدني، كالجمعيات والنقابات وجماعات الضغط والأحزاب السياسية. وتعد الانتخابات المحلية والتشريعية من أهم أوجه النشاط التي تعبر عن حيوية المجتمع، وهذه لا تقتصر على أوقات الاقتراع، كما في المجتمعات الراكدة، بل هي نشاط دائم موضوعه الحقوق والحريات الخاصة والعامة وقضايا التنمية البشرية والاقتصادية، وتحسين نوعية الحياة العامة وشروطها المادية والمعنوية، فضلاً عن مراقبة عمل السلطات المحلية والمركزية والحيلولة دون تجاوزها على حقوق الأفراد والجماعات وحرياتهم.

أما البعد الثالث فيتعلق بالهوية الوطنية التي يستمدها الفرد من عضويته في “جماعة سياسية” ، ويعرِّف نفسه بها لغير مواطنيه، كأن يعرف أحدنا نفسه بأنه سوري، عندما يكون خارج سورية؛ فالجماعة السياسية، أي “المجتمع المنظم” أو “الأمة المنظمة” أو “المجتمع السياسي”، هي المصدر الوحيد للهوية بأبعادها الاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية. ما يعيِّن فارقاً جوهرياً بين الأصل والهوية من جهة، وينفي أن يكون العرق أو الدين أو المذهب أو الطبقة الاجتماعية أساساً للهوية الوطنية، أو أن تكون الهوية الوطنية تعيُّناً للعرق أو الدين أو المذهب أو الطبقة الاجتماعية، أو امتداداً لأي منها، أو نتيجة من نتائج انتماء الفرد إلى أي منها. لذلك نتحدث عن عرب سوريين وكورد أو آثوريين أو أرمن .. سوريين، وعن مسلمين سوريين ومسيحيين سورين وطبقة عاملة سورية .. إلخ. السورية، هنا، هي الانتماء إلى جماعة سياسية، وهذا الانتماء التعاقدي، أو التشاركي، الطوعي الحر هو أساس الهوية الوطنية.

وفي جميع الأحوال إن معنى الهوية هو الأقل وضوحاً، مع أنه يتصل اتصالاً مباشراً بالبعدين القانوني والاجتماعي السياسي، بصفته مؤسساً عليهما معاً وناتجاً منهما معا؛ إذ يضع الباحثون والمفكرون تحت عنوان الهوية عناصر شتى، منها العمل والإنتاج والإبداع، فهوية الفرد، وفق هذا المعطى، هي ما ينتجه الفرد أو ما يصنعه على الصعيدين المادي والروحي، في زمان ومكان معينين، بوصفه عضواً في مجتمع. أي إن هوية الفرد هي ما هو بالفعل، هنا والآن، وما يريد أن يكونه، في شروط اجتماعية اقتصادية وثقافية وسياسية وأخلاقية معطاة، وكذلك هوية الأمة .

ولا بد من الإشارة هنا إلى العلاقة الوثيقة بين الهوية والانتماء، والتفريق القطعي بين الانتماء إلى مجتمع مدني حديث وجماعة سياسية حديثة، وبين الانتماء إلى جماعة / جماعات غير سياسية وما قبل مدنية، كالانتماء إلى العائلة الممتدة والعشيرة أو القبيلة والجماعة الإثنية أو الدينية أو المذهبية. هذا التفريق يعيِّن فروقاً وحدوداً واضحة بين هوية وهوية، أو بين رؤيتين لما هي الهوية: رؤية تقوم على الرعوية، أي على التبعية، وأخرى تقوم على المواطنة، أي على الحرية.

يتبع ……….

[1] – فرق أفلاطون بين الفرد الطبيعي المسوق بسائق حاجاته ورغباته وأهوائه .. وبين المواطن، بما هو عضو في المدينة / الدولة، يتمتع بالحقوق ويلتزم الواجبات، ويتعلق بالقيم الاجتماعية والإنسانية العامة، قيم الخير والحق والجمال .