°
, October 11, 2024 in
آخر الأخبار
الشــيخ صالح العلي

الوساطة الانكليزية بين الشيخ صالح العلي والفرنسيين عام 1919

عينت وزارة الحربية الفرنسية ” بولنجي ” قائداً عاماً لقوات الجيش الفرنسي بعد سلسلة من المعارك الخاسرة للفرنسيين وعدم القدرة على إخضاع الجبل مفوضة إياه بصلاحيات كاملة وباستخدام كافة الأساليب من أجل إخضاع الجبل ووقف الثورة بأي ثمن ومكّنته من طلب الفرق العسكرية التي يريد من خارج سوريا لمعاونته في مهمته .

في الربع الأول من عام 1919 حققت الثورة السورية الأولى انتصارات مهمة على القوات الفرنسية وكان أبرزها معركة ” وادي العيون ” حيث نجم عنها قتل عدد كبير من الجنود الفرنسيين , الأمر الذي دفع وزارة الحربية الفرنسية إلى استدعاء القائد ” بولنجي ” على جناح السرعة للمثول أمام المحكمة العسكرية العليا , ومن ثم طلبت رسمياً توسط الإنكليز لإنهاء النزاع , وإيجاد صلح يكفل لقواتهم بعض الأمن والاستقرار , وبناء عليه قام الجنرال ” اللنبي ” قائد قوات الحلفاء في الشرق بتوجيه كتابٍ خاصٍ إلى الشيخ صالح العلي في 5/1919 /25 جاء فيه : ” إن الحلفاء جاؤوا لتحرير سوريا من ظلم الدولة العثمانية وإعطائها الحرية والاستقلال . . . وإن موقف الشيخ صالح العلي ورجاله من القوات الفرنسية موضع استغراب الحلفاء جميعاً وهذا يدل على عدم تقدير المساعدات القيِّمة التي قدمتها الجيوش الحليفة لتحرير سوريا من الأتراك . “

réunion des chefs à Cheikh Bader
La fin du conflit et l’entrée de Pierre Bart dans l’administration du mandat français en Syrie et au Liban
Parcours en Syrie, août-décembre 1919

وطلب ” اللنبي ” – في الكتاب – من الشيخ صالح العلي الاجتماع بمندوبه في طرطوس , رفض الشيخ ذلك بالبداية لتوجسه من ذلك , وبعد التداول مع قيادة الثورة السورية الأولى ومستشاري الشيخ قَبِل الشيخ صالح العلي الاجتماع شرط تعديل مكان الاجتماع ليكون في بلدة الشيخ بدر, وبعد مداولات عدة تم قبول تعديل مكان الاجتماع , وحضر الجنرال الانكليزي ” سومرست ” ممثلاً عن الطرف الانكليزي والجنرال الكولونيل ” نيجر ” ممثلا عن الطرف الفرنسي ومعهما ضباط من الطرفين , فأشترط الشيخ إحضار الأسرى من المجاهدين التابعين للثورة حتى يقبل دخول المفاوضات في الاجتماع , تمنّع الطرف الفرنسي عن تلبية الطلب و بالمقابل طلب الطرف الفرنسي حضور حلفاء محليين له في الجبل والساحل – كانت هناك فعاليات عديدة ومن مختلف الشرائح والطوائف متحالفة مع الفرنسيين – الاجتماع والمفاوضات فيه , فرفض الشيخ  الشرط وترك الاجتماع في محلة ” الأندروسة ” داخل الشيخ بدر متجهاً إلى منزله في قرية الرسته المطل على مقام الشيخ بدر , ” حالياً هذه المزارع هي أحياء داخل بلدة الشيخ بدر ” معلناً قراره بمتابعة القتال , إلا أن الجنرال سومرست أرسل بعضاً من ضباطه ليطلبوا من الشيخ السماح له بزيارة الشيخ بدارته والتحدث إليه هناك ,وتم تكرار الطلب بإلحاح فقبل الشيخ واستقبل الجنرال الإنكليزي ” سومرست ” في دارته في قرية الرستي حيث عرض الجنرال ” سومرست ” أمر استئناف المفاوضات واعدا ً الشيخ صالح العلي بعمل ما في وسع انكلترا لتحقيق مطالب الثائرين في الوحدة والاستقلال , فقبل الشيخ صالح العلي الدخول في المفاوضات على شروط ثلاثة هي :

1الجلاء عن الساحل السوري , والموافقة على ضمه إلى حكومة الشام .

2- إطلاق سراح الأسرى من الطرفين .

3- دفع تعويضات من الأضرار التي ألحقها الجيش الفرنسي في القرى التي أحرقها أو مَرّ بها

وافق الطرف الفرنسي مبدئياً على هذه الشروط , وتعهد بتنفيذها بعد أن تأتيه الموافقة عليها من وزارة الحربية الفرنسية , وبعد ذلك ساد الهدوء وأعلنت الهدنة , ورفعت راية الثورة السورية الأولى في بلدة الشيخ بدر وفي الجبال والساحل ” الراية عبارة عن مستطيل أخضر فاتح طولها ضعفي عرضها في وسطها هلال بوضع طبيعي يعتني بنجمة ” .استبشر مواطني الجبل والساحل خيراً وبدؤوا في إعادة بناء بيوتهم وترميمها . عبر نظام ” العونة ” أي مساعدة بعضهم البعض وهو نظام كان سائداً في الجبل والساحل وشجعه الشيخ .

أثناء ذلك حاول العثمانيين الدخول على الخط . حيث حضر أربعة ضباط عثمانيين من طرف مصطفى كمال باشا يحملون رسالة خاصة ” أوردنا نصها وظروف إرسالها في مكان أخر من هذا الموقع ” مبدين التزام الدولة العثمانية بمساعدة الثورة و سرعان ما تحلل العثمانيون من هذا الالتزام فور بدء اتفاقهم المبدئي مع الفرنسيين للتخلي لهم عن مناطق سوريا الشمالية .

تطبيقاً لمقررات اتفاق الهدنة شكلت لجان مشتركة تضم مندوبين عن الطرف الانكليزي ومندوبين عن الطرف الفرنسي ومندوبين من طرف الثورة السورية الأولى , ثم قامت هذه اللجان المشتركة بزيارة القرى والأماكن التي أصيبت بأضرار من جراء الاحتلال وكانت هذه اللجان تصطحب معها الخبراء في كل قرية كبيرة وصغيرة وتحتفظ بوسائلها الخاصة بالوثائق التي تثبت الأضرار فتقدرها في سائر مناطق الجبل والساحل , غير أن حقيقة حجم الأضرار اللاحقة بالمواطنين أدهشت اللجان مما رأت : قرى محروقة , آلاف البيوت مهدمة على ما فيها من أثاث , قطعان كثيرة من المواشي أصبحت جثتها طعاماً للطيور الكاسرة , غابات , بساتين , حقول , محاصيل , كلها محروقة , أشجار مقطوعة , وارتفعت الأرقام شيئاً فشيئاً وإذا بها – هذه الأرقام – تذهل عقول الفرنسيين , مما جعلهم يبحثون عن ذريعة تنقض الهدنة الحاصلة بين طرفي النزاع للتهرب من الالتزامات المرتبة جرائها, فراح القائد الفرنسي المتمركز مع قطعته العسكرية في قرية ( عقر زيتي ) يتهجم ببذاءة على كرامة الدين الإسلامي و على الشيوخ ورجال الدين , فيسخر منهم على الملأ وأمام الجموع , مما أثار الشيخ  واستحثه على الانتقام , لكنه احترم الهدنة , فأرسل المجاهد حسن أبو النصر إلى القائد الفرنسي ينذره بالتوقف عند حدوده لكن ذاك القائد أمر بإعدام المجاهد حسن أبو النصر وهو يبلغه ذاك الإنذار  , ونفذ الأمر فوراً دون إبطاء وحُمّل المجاهد المعدوم على فرسه التي أتى عليها لتعود من حيث أتت , وعند علم الشيخ بما جرى للمجاهد حسن أبو النصر أدرك أنها خطة فرنسية للتحرش بالمجاهدين , لإجبارهم على القتال ومن ثم التحلل من التزامات الهدنة , إلا أنه لم يستطع أن يترك دماء المجاهد حسن أبو النصر تذهب هدراً . معتبراً ذلك تحدياً لكرامته الشخصية , وكرامة الثورة , وخرقاً صريحاً للهدنة الموقعة ولقواعد الحروب , فما كان منه إلا أن أرسل جماعة من المجاهدين كمنوا للقائد الفرنسي عند نهر ” الحصين ” قرب طرطوس حتى إذا ما مر أطلقوا عليه وعلى جنوده العشرة الرصاص فقتلوهم جميعاً . ” ما تزال أثار قبورهم معروفة لمواطني القرية هناك ” .

ورغم مضي أشهر على الهدنة لم يتم تنفيذ أياً من البنود المتفق عليها بوساطة وضمانة الإنكليز , بل قام الطرف الفرنسي بمحاولة تطويق الثورة فأغارت قواّته على قرى ( حبسو , وخربة الريح , والحقبانية ) واحرقوها وكثرت بعد هاتين الحادثتين تحرشات الفرنسيين بالمجاهدين , واعتراضهم لذويهم ومن يمتّ إليهم بصلة , وأخذوا يكثرون من بث الإشاعات المغرضة والدسائس التي تستهدف الثورة وقائدها , وهو أمر – حرب الشائعات – كان يلقى اهتماماً خاصاً من قبل الفرنسيين ضد الشيخ صالح العلي وثورته .

من الملفت هنا أن ” اللنبي ” يستحضر الحجة الأبرز لدى الحلفاء والفرنسيين في تسويغ انتداب فرنسا على سوريا . ” رفع الظلم الواقع من الأتراك على الشعب السوري مع تلميح مقصود إلى ما لحق الأقليات المذهبية والطائفية والدينية والأثنية جراء الاحتلال العثماني لسوريا في أربعة قرون خلت من قتل وظلم , خاصة أن حوادث كثيرة من الفتن نشأت جراء صراع العثمانيين والغرب عامة , و فرنسا خاصة , قي القرن التاسع عشر ومن أبرزها حوادث 1840 و1860 حيث حصدت أرواح سوريين من كل الطوائف والأثنيات جراء صراع مصالح الأمم على سوريا , وقد عاني الشيخ صالح كثيرا – بسبب ثقل الظلم السابق ووحشية القتل الممارسة وثباته بذهن الناس – من إقناع مواطنيه بأن – كما كان يقول – ” من يستجير بالفرنسيين من ظلم العثمانيين كالمستجير من الرمضاء بالنار ” .

ومن المفيد التذكير أن فرنسا صدّرت نفسها للسوريين وخاصة لتلك الأقليات بأنها ” الأم الحنون” .

لمعرفة المزيد عن تلك الفترة من تاريخ سوريا يمكن مراجعة كتاب ” تاريخ بلاد الشام في القرن التاسع ” والذي نوهنا عنه بشكل مقتضب في مقالة منشورة في هذا الموقع .

المصدر : مصادر عدة متقاطعة مع بعضها ومع ما هو متداول بين الناس من معاصري تلك المرحلة واعتمدنا بالدرجة الأولى وبشكل شبه مطابق في سرد الأحداث على كتاب : ” صالح العلي . ثورة وعقيدة ” لـ أيمن أحمد شعبان . وبدرجات متفاوتة على كتاب : ” الراية الثالثة ” لـ عبد الرحمن الباشا . وكتاب ” ثورة الشيخ صالح العلي ” لـ عبد اللطيف اليونس .ومصادر أخرى . من بينها ذاكرة والدتي حفيظة الشيخ صالح العلي ووالدي الشيخ محمد عيسى آل الشيخ إبراهيم و” ستي ” فضة أحمد حسين زوجة الشيخ صالح العلي بخصوص كيفية قتل المجاهد حسن أبو النصر والكمين الذي حصل بعدها وبعض التفاصيل الأخرى .