°
, April 16, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

الوَفْد . لـ خطيب بدله

قال يوسف :

صراعنا مع الانفصاليين , أعداء الله والوطن والأمة , طويل ومرير . ولكننا سوف ننتصر عليهم طال الزمن أم قصر , وبإذنه تعالى .

نحن ناضلنا – كما تعلم – من أجل الوحدة . كنا نصل الليل بالنهار . حناجرنا بحت , أقدامنا تخت , كفوفنا تهرأت . نمشي ونهتف وننشد ونصفق , حتى رفعنا لها الراية , وهم حفروا , نصبوا الأحابيل , تآمروا , كذبوا , نافقوا , حتى تم لهم ما أرادوا : الانفصال اللعين .

فهل نسكت ؟

خرجنا لنملأ عليهم السهل والوعر .

من ساحة الخضرة : تركنا البسطات والعربات والدكاكين والموازين , شمالاً عبر ” أرض الحارة ” .

من سوق القندرجية : عبر شارع الجلاء . أصحاب الدكاكين على الصفين انضموا إلينا .

الحميماتية : من كل حدب وصوب عمال معاصر السمسم والزيتون , صناع الزنابيل والقواديس والصرامي الحمر .

عمال ” معمل الغزال ” . . النساء المتزوجات والأرامل والعوانس . الأولاد الصغار والفتية اليافعون .

يا لها مظاهرة تجتمع فيها فئات الشعب كلها !

بدنا الوحدة باكر باكر

التجمع في ساحة هنانو , أمام شرفة دار الحكومة .

أصبحنا مربكين لأولئك الانفصاليين الأوغاد . كانوا عاجزين حتى عن مواجهتنا . رأيناهم رأي العين : المترددَ الرعديدَ يدفع المتهور المقدام إلى المنصة . يقف هذا لحظة , يحرك يديه , ينقر بأصابعه على الميكروفون , يصيح :

أيها الأخوة المواطنون .

ولكن , لا يسمع نداءه أحد . يبتلع خيبته وبتراجع يأتي آخر :

أيها الأخوة المواطنون .

لا يصغي إليه أحد . يتراجع .

والأمر طال .

أخيراً أطل واحد منهم . لم يكن هو المحافظ ولا قائد الشرطة , و لا حتى رئيس البلدية . كان رجلاً غامضاً وصبوراً وعنيداً . لم يقل شيئاً . وقف ينتظر حتى هدأت ثورتنا . بدا غير مستعجل من أمره .هدؤوه أثار جموعنا أكثر . كنا نكتفي بتعييش الوحدة , ونكاية به شرعنا نسقط :

سقطنا القوى الاستعمارية المتآمرة علينا .

سقطنا الانفصاليين المراوغين .

سقطنا الرجعية وأذناب الاستعمار وحلف شمال الأطلسي .

والرجل صامد ,بل ومبتسم بمكر وثبات .

أخيراً قال أبو عمر , وهو أكثرنا , نحن الوحدويين , حماساً :

يا شباب , اتركوه لي , فأنا أتفاهم أعرف كيف أتفاهم معه .

وقال له : ( ولاك ) , أنت انفصالي حقير , سكوتك هذا لا يؤثر على ” صرمايتي “!

بقي الرجل مبتسماً . أما نحن فملأنا الجو هتفاً وتعييشاً وتسقيطاً .

قال أبو عمر : تكلم , بسرعة ( ولاك ) .

قال : فليأت منكم وفد مصغر إلى دار الحكومة , نتفاوض على الوحدة , فإما أن تقنعونا فنعيدها , أو نقنعكم فتتراجعون .

هتفنا هتفة الرجل الواحد :

بدنا الوحدة باكر باكر !!

حصلت فوضى عظيمة . ولكن الرجل لم يكترث بها , دخل وأغلق باب المنصة من الداخل .

قال يوسف :

بقينا أكثر من ثلاثة ساعات حتى اتفقنا على تسمية أعضاء الوفد . كان وفداً كبيراً ضم ممثلين عن فئات الشعب كلها , وكان فيه ثلاث نساء , وسبعة وأربعون رجلاً .

دخلنا دار والحكومة , ففوجئنا بما يجري في داخلها . كان ثمة سفرة كبيرة ممدودة في البهو الكبير الذي تعقد فيه الاجتماعات . سفرة فاخرة بنيتها الأساسية اللحوم والرز والفريكة والصنوبر والبهارات اللذيذة . لم يكن حولها أحد , وهذا ما جعلنا نستغرب : يا ترى لمن ؟

نقرنا على الباب بالأصابع , وانتظرنا الجواب . لا أحد . قام أحد أعضاء الوفد وتقدم من السفرة الممدودة وقال :

بصراحة ؟ أنا جائع .

قال أخر : ما هذا الكلام ؟ أجئت لتطالب بالوحدة أم لتملآ بطنك ؟

قال ثالث : لماذا فهمتنا على هذا النحو يا أخي ؟ الوحدة شيء والطعام شيء أخر ! بصراحة إن منظر هذا الطعام الفاخر لا يقاوم , ناهيك عن روائحه الزكية .

ومد يده وباشر .

بضع ملاعق خجولة امتدت نحو الطعام , لم تلق مقاومة تذكر , وسرعان ما انخرطنا جميعاً فيه . أكلنا ببسالة واجتهاد . أنا نفسي لم أجد نفسي مفتوحة إلى الطعام كما وجدتها في ذلك اليوم .

قال يوسف :

طوال ما كنا نأكل لم يدخل علينا أحد . ولم نصادف أية مشكلة سوى مشكلة الماء . كانت على الطاولة مجموعة من زجاجات البيرة , ولكن أحد لم يلمسها , وذلك لسبب بسيط , وهو أنه كان في الوفد ثلاثة من رجال الدين , وقد نبهونا منذ البداية إلى أن النظر إليها حرام , فما بالك بتعاطيها !

اتجهنا إلى الباب وشرعنا بخبط عليه بالأكف والقبضات والأرجل . ونصيح : يا ناس , يا جماعة الانفصال الحقير , ردوا علينا . افتحوا الباب لم يرد أحد .

قال لي الرجل الجالس على يساري :

أكاد أموت من العطش , وأنا لست متعمقاً في ديننا الحنيف ولكنني مرة سمعت بقاعدة تقول الضرورات تبيح المحظورات , وعلى كل حال سأشرب .فتح زجاجة ووضعها على فمه وشرع يشرب , والسائل الأصفر الفوار يسيل من جانبي فمه .

قلت له : ( يدي في زنارك ) أعطني غبة .

وشربت .

حصلت فوضى عظيمة بين أعضاء الوفد , ولغط لم أفهم منه سوى كلمات تدخل في باب الفتاوى بالسماح بشرب البيرة في الأوقات العصيبة , وما هي إلا لحظات حتى التصقت فوهات الزجاجات العطشى .

قال يوسف :

لقد أمضيت عمري بالنضال , ويا ما قبض علي رجال الشرطة وأنا أكتب على الحيطان أو أوزع المناشير , واقتادوني إلى المخفر وربطوا قدمي بنطاق البندقية وجلدوني بالكرباج . . ولكن نضالاً كهذا لم أمر به , ولم أسمع بمثيله . أنت لا تستطيع أن تتخيل ما جرى لمثانات أعضاء الوفد بعد ساعة من تناول البيرة المنعشة . يا رجل , من دون مبالغة كدنا نتمزق . تابعنا الخبط على الباب و الصياح . صياحنا بالخارج كان لبقاً مدروساً تحول هنا إلى سباب ( بالقلم العريض ) . لم نخجل من زميلاتنا السيدات لأنهن أقذعنا بالسباب أكثر منا .

أخيراً فتح الباب , ودخل الرجل الغامض الذي واجهنا على المنصة بهدوئه المُفلِِق :

أهلاً وسهلاً بكم يا أبناء شعبنا الكريم المعطاء . أنا آسف جداً , كان حرياً بي أن أترككم تنعمون بواجبات الضيافة على أكمل روجه , ولكن وعدي لكم باللقاء أجبرني على الحضور بهذه السرعة .

الآن أنا جاهز للاستماع إلى مطاليبكم , ولسوف تأخذها حكومتنا بعين الاعتبار بالتأكيد . تفضلوا , استريحوا واعرضوا علي مطاليبكم بالتفصيل .

قال يوسف : مَن منا كان قادراً على الجلوس وما يشبه أسياخ النار تعتمل بين فخذيه ؟!

تحدثنا على نحو متداخل , وغير مترابط , قلنا :

نريد أن . .

نشخّ . .

نتبول . .

قال عفواً ؟ أفهم من أنكم لا تريدون المطالبة بالوحدة ؟

قال يوسف :

كان الباب موارباً ,فاندفعنا فيه نبحث عن أقرب دورة مياه , بينما كانت ترتسم على وجه الرجل الغامض ابتسامة صفراء , حقيرة جداً !

قصة قصيرة للقاص السوري خطيب بدلة . من مجموعة قصصية له بعنوان : ” حادث مرور ” الناشر الدار الوطنية الجديدة . سوريا – دمشق .