°
, April 18, 2024 in
آخر الأخبار
دراسات اجتماعية

مصادر الحصر الكبرى – لـ بير داكو

أولاً – الولادة والأعمار الكبرى

إننا نمسُّ هنا مُحركاً من المُحركات الرئيسة للحياة الإنسانية , فكل إنسان , وهذا أمر يعرفه الجميع , يبحث عن سعادته أو , على الأقل , عن وجود

يتضمن أقل الصعوبات الممكنة . وأي إنسان , في الحالة المثالية , ليست لديه الرغبة الحنينية في جنة كل ما فيها من دفء وعذوبة وسلام ؟ ومن جهة أخرى , ما أكثر الناس الذين يلاحقهم الخوف من الحياة مع كل ما يفترضه من انطواء على الذات , كما لو أن الإنسان يستعيد على نحو نفسي وضعية الجنين المنثنية , أو يلاحقهم الخوف من الموت مع النشاطات العديدة البارزة لكي يفلتوا منه !

وأساس المشكل بسيط . يظل مشكل الراشد هو مشكل الطفل الصغير : إما ” العودة إلى حضن ماما “إذا كانت الحياة قاسية , وإما ” الانقطاع ” و” الانفصال “ عن ماما لإنجاز حياة شخصية , حرة ومستقلة , شريطة أن يكون هذا الاستقلال أصيلاً وأن لا تصبح الحياة المغالية في الفردية هروباً أمام الحصر .

رأينا حصر الولادة في الفصل الثاني عشر . إنني أذكّر به على نحو سريع : إن الجنين , الذي يتصف بأن له حياة نفسية لا شعورية , يسبح في بطن الأم وتسبح عضوية الجنين في السعادة البالغة . ثم تحين لحظة الولادة : فتلقي عضوية الوليد بصورة عنيفة في عالم ذي وقائع هائلة .وذلك هو الخروج من رحم الأم . إن رحم الأم كان الجنة , والولادة هي الجنة المفقودة . ويظهر بصورة مباشرة ضرب من الحنين العميق إلى الأم , وإلى اللاشعور , وإلى الموت , وإلى الظلام الدافئ العذب الذي كل شيء ممنوحاً فيه , دون أن يكون ثمة شيء مطلوباً . وذلك يسم إلى الأبد حياة الإنسان النفسية .

والمرء , بصورة مباشرة , يرى الأهمية الرئيسة لـ رمز الأم الذي يمكن إسقاطه على كل ما هو خفيّ , وعلى كل ما يمنح العذوبة والسلام : المرأة , والأرض الأم , والوطن , والكنيسة , وبعض البلدان البعيدة , وبعض المدن الحفيّة , والموت المريح , والنوم , الخ .

ويمكن القول إن كل شيء يبدأ بداية حسنة منذ الدخول في الحياة , ما دام ذلك يُستهلُّ بـ ” صدمة الولادة ” !

وتتلقى إذن عضوية الوليد , التي لا دفاع لديها , صدمة عنيفة عند الولادة . إنها , في رأي رانك

, التجربة الإنسانية الأشد اتصافاً بإثارة الحصر . وذلك أمر مفهوم أحسن الفهم , إذ أن عضوية الوليد تنتقل من وضع في منتهى السعادة إلى وضع مؤلم . فثمة إذن انقطاع في التوازن وألم نفسي وحصر . والاستعداد للحصر لدى الأطفال معروف . ومصدره , في رأي رانك , هم أولئك الذين ما استطاعوا إنجاز هذا العمل بنجاح , والذي ظلّوا يغوصون في طفالات هي , في الحقيقة , الحاجة الدائمة لـ ” العودة إلى الأم ” .

إليكم حلم أحد المرضى :

تخاصمت مع زوجتي , فغادرت المنزل , ودخلت كنيسة كان فيها سرير واسع . وكانت قبة . واضطجعت في السرير ونمت …

والحلم يعني , في الوضع الراهن , وبناء على تداعيات الأفكار لدى هذا المريض :

كان هذا المريض في مواجهة مع وقائع سن الرشد ومسؤولياته ( تخاصم مع زوجته ) ,

هرب المريض من هذه الوقائع , وقائع سن الرشد (غادر المنزل ) ,

دخل مكاناً مغلقاًً حفيّاً ذا قباب مظلمة , وعاد إلى ” أمنا “ الكنيسة التي استقبلته في ” حجرها ” ( ودخل كنيسة ) ,

وكان رحم الأم حفيّاً , دافئاً , ذا حشوة ( سرير واسع , قبة السرير من المخمل الأرجواني الدافئ ) ,

وجد في الكنيسة طفولته مجدّداً , ووجد فيها كذلك الحفاوة غير المشروطة , حفاوة الأم التي أضحت هنا ضرباً من ” مريم العذراء ” ( الزنبق ) ,

احتمى برحم الأم , ونام في حضن الأم , وعاد فأصبح وكأنه جنين سعيد بغبطة بالغة ( اضطجعت في السرير ونمت . . . ) .

 

المصدر : كتاب “انتصارات التحليل النفسي ” تأليف بير داكر . ترجمة وجيه أسعد . عن الشركة المتحدة للتوزيع . سوريا . دمشق . شارع مسلم البرودي . بناء خولي وصلاحي رقم 37 الطبعة الثانية 1986 مطبعة الرسالة .