°
, December 7, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

النخبة والثورة. لـ الدكتور يوسف سلامة .

لو دققنا النظر في تجربة الثورتين التونسية والمصرية من حيث هما ثورتان نجحتا في القضاء على الحاكم المستبد، لتبين لنا أن ما تبقى عليهما إنجازه

أكثر بكثير مما أنجزتاه حتى الآن. وهذا الأمر يتكشف كل يوم ولدى كل محاولة يقوم بها الثوار لاستكشاف ما تم إنجازه فعلاً من ناحية، وما تبقى عليهم أن ينجزوه من ناحية أخرى.

نجحت الثورتان في القضاء على رأس النظام، ولكنهما لم تنجحا حتى الآن إلا بقدر محدود في القضاء على النظام السياسي الذي كان حاكماً في البلدين. فالفاسدون والمرتشون واللصوص والذين فتكوا بأبناء الشعب وضيقوا عليه أسباب عيشه وسلبوه كرامته وحريته، والذين دافعوا عن الاستبداد والفساد والرشوة في أجهزة الإعلام التي كانت تضلل الناس في البلدين الشقيقين، كل أولئك مازالوا يشغلون مناصبهم وبالتالي فهم عقبة في وجه الثورة لأنهم ليسوا شبحاً للنظام السياسي السابق، بل هم قواعد هذا النظام المتينة وأياديه الباطشة والفاعلة.

وقد يسأل سائل: ما الذي يمنع الثورتين التونسية والمصرية من تطهير المواقع الأساسية من رجال النظام السياسي السابق، أي من الفاسدين والمرتشين ومن رجال الأمن الذين اعتدوا على كرامة الملايين من غير أن تطولهم أيدي العدالة حتى الآن؟.

الجواب على هذا السؤال نستمده من طريقة الدكتاتور في حكم البلاد والعباد. فأول ما يقوم به الدكتاتور هو تدمير نخبة البلاد وتخريب المؤسسات التي آلت إليه ملكيتها نتيجة انقلابه على الشرعية، ومن ثم الشروع في مؤسسات ضعيفة مهلهلة. وبعد ذلك يشرع في بناء نخبة خاصة به أهم ما تمتاز به هو أنها ليست نخبة حقيقية، بل كل ما تفعله، وكل ما يريده الحاكم الدكتاتور منها هو أن تلعب دوراً شبيهاً بدور النخبة.

ولأن حكم الديكتاتور في العالم العربي قد يمتد إلى خمسين عاماً فإن هذه النخبة الضعيفة التي بناها الدكتاتور لحسابه الخاص وضد مصالح المجتمع الذي يحكمه، فإنها هي ذاتها تترهل وتفسد بدرجة تفوق ما يريد الحاكم لها أن تبلغه من فساد. ثم لاتلبث هذه النخبة التي كانت ضعيفة ثم صارت قوية ومستأثرة بكل مراكز السلطة والقرار أن تصبح القدر الذي لا يستطيع الحاكم المستبد أن يحكم البلاد دون الاعتماد عليه. وعند هذا الحد لا تصبح المشكلة متمثلة في الحاكم المستبد وإنما في النخبة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والخيرية التي ستظل لفترة طويلة تعوق الثورة وتعيد إنتاج النظام الفاسد والمستبد حتى بعد القضاء على رأس النظام والتخلص منه كما هو الحال في مصر وتونس.

وإذاً فالدرس المستفاد في كل ثورة عربية ممكنة هو التفكير في جملة الأساليب التي تسمح للثوار بالقيام بدور النخبة الفاسدة التي كان النظام السابق يعتمد عليها في حكم البلاد والعباد. ولعل الكارثة الكبرى التي يسببها النظام المستبد لأي بلد يحكمه هي القضاء على النخبة التي كانت قائمة قبل دخول البلاد تحت حكم الدكتاتور المستبد أولاً، وثانياً: خلق جميع الظروف والشروط التي تعوق وتمنع المجتمع من إنتاج النخبة الحقيقية، النخبة المطابقة والمتطابقة مع حاجات المجتمع الفعلية وتوجهاته الحقيقية.

على أن كل ما قيل لا يعني بحال من الأحوال أن يكون معنى الثورة منحصراً في استبدال نخبة بنخبة، نخبة حاكمة بنخبة جديدة تقفز على الحكم لتعيد إنتاج المجتمع بصورة جديدة من الفساد والاستعباد.

إن ما نريد قوله هو أن النخبة التي يتسلح بها الدكتاتور المستبد لابد أن تكون نخبة فاسدة لأنه لابد لها أن تتكيف مع متطلبات شخص واحد. وبمرور الوقت يجد الشخص الواحد نفسه مضطراً للتكيف مع متطلبات النخبة الفاسدة حتى وإن كان الحاكم لايريد ذلك. وهكذا تتعمق عملية الفساد لأنه يتحول إلى آلية رئيسية للسلطة.

إن ما نعنيه بالنخبة التي من واجب الثورة أن تعتمد عليها- ومن المؤكد أن الثورة ستفعل ذلك- هو أن هذه النخبة لابد أن تكون مسكونة بفكرة المصلحة العامة ومهمومة بالديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان والكرامة الشخصية والفردية لكل واحد من أبناء الوطن، لابد أن تكون هذه النخبة محكومة بالقيم الأخلاقية الرفيعة التي تسلم بأن الوطن للجميع والاقتصاد للجميع والسياسة للجميع والكرامة للجميع.

كل ما نتمناه أن تكون الثورة المصرية والتونسية وغيرها من الثورات العربية المشتعلة في اليمن وليبيا. قادرة على السير في هذا الاتجاه على الرغم من كل الأحمال الثقيلة التي يتركها الحكام المستبدون عادة للثوار من بعدهم.

الكاتب : د. يوسف سلامة / رقم العدد : 534. جريدة النهضة 21/3/2011