الحرية والمساواة مقولتان مختلفتان ومتضامنتان، تحيل الأولى منهما على ماهية الإنسان وجوهره متعيِّنين في الفرد الإنسانيّ، وتحيل الثانية على شروط وجوده، الطبيعية والاجتماعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية.
لكن اختلافهما لا ينفي أنّ الثانية، أي المساواة، محفورة في الأولى ومؤسّسة فيها وعليها ومشروطة بها، بقدر ما هي شروط الوجود الإنسانيّ محفورة في الماهية الإنسانية ومؤسسة فيها وعليها ومشروطة بها، لأنها من إنتاجها، وبعضُ تجلّياتها. أجل الإنسان أنتج عبودياته الفعلية والرمزية، وأنتج معبوديه، وسيظلّ يفعل ذلك ما دام روحه ضعيفاً وعقله معتماً وقلبه واهناً، ولا حول له ولا طول ولا قوّة.. إلا بالله. ولأنّه هو من أنتج عبودياته ومعبوديه فإنّه هو من ينتج حريته ويحسِّن شروط وجوده باطِّراد، وليس في حاجة إلى أي مبدأ مفارق أو حكمة أعلى.
الحرّيّة بالتعريف هي ماهية الإنسان، بوصفه كائناً عاقلاً وأخلاقياً، ومن ثمّ فإنّ شروط وجوده الموسومة بالتفاوت هي التي جعلته حرّاً و / أو عبداً، وهي التي تجعله اليوم أكثر حرّيّة أو أقّل، والأكثر والأقل هنا تعنيان أكثر إنسانية أو أقلّ إنسانية، ذلكم هو واقع الحال: تفاوت في ما لا تفاوت فيه، وتفاضل في ما لا تفاضل فيه. (أشرنا مراراً، وسنكرر، على سبيل التوكيد، أنّ الإنسانية والمواطنية صفتان لا تقبلان التفاوت والتفاضل أو تحديدان أو تعيينان لا يقبلان التفاوت والتفاضل، إذ ليس ثمّة فرد إنساني ّأكثر إنسانية أو أقلّ من غيره من أفراد النوع، وليس ثمّة مواطن أكثر مواطنية أو أقلّ من غيره من مواطني بلده ودولته، ذلكم في المبدأ والأساس، أمّا الواقع فليس كذلك بعد).
التفاوت! ذلكم هو العيب الظاهر للعيان في شروط الوجود الإنسانيّ، حتى يومنا، وإلى ما شاء الله. أعني بالعيب، هنا، التفاوت في ما لا تفاوت فيه فقط، وفي ما لا يجوز التفاوت فيه فحسب، أي التفاوت في الإنسانية والتفاوت في المواطنة، هذا النوع من التفاوت كان ولا يزال سمة النظم القائمة على الامتيازات، لا على الحقوق، وعلى تسلسل الولاءات، لا على حكم القانون، وعلى الغلبة والقهر، لا على التعاقد والتواثق، وعلى الاستغناء المتبادل، لا على الاحتياج المتبادل والاعتماد المتبادل، وعلى غطرسة القوّة لا على حقوق الإنسان، وعلى الاحتكار لا على التنافس، وعلى التطرّف والطغيان، لا على التسامح والاعتدال، وعلى التبعية لا على الحرية، وعلى الاستبداد لا على الديمقراطية. (سيرمينا بعض الأحاديين بالثنوية، فلا بأس، الثنوية هي الوجه الآخر للأحادية).
الناس متساوون في الحرية وجودياً (أونطولولوجياً)، لأنّهم متساوون في الإنسانية، ومتساوون في المواطنة سياسياً ليس غير، (ومعنى السياسة هنا مستمدّ من معنى المواطنة ومقترن به، ليس غير، وما عدا ذلك يقع في أبواب الحكم والولاية والتسّلط والأمر والتدبير وتداول السلطة والمال بمقتضى القوة والغلبة والقهر. تصوّروا مجتمعات يحكمها منطق الغلبة والقهر وتسمّي ذلك سياسة). الناس متساوون في الإنسانية وفي المواطنية، وليسوا متساوين في مقدار الملكية ولا في مقدار الثروة ولا في المقدرة والقوّة ولا في الذكاء، ولا في أيّ شيء آخر، سوى الإنسانية والمواطنة. اللهم إلا إذا كانت المساواة إلغاء للفروق وطمساً للحدود وذات مضمون أيديولوجيّ خالص، على نحو ما خبرنا في الديمقراطيات الشعبية وأنظمة الحكم “الشيوعية” و”الإسلامية”، التي لا تختلف مبادؤها، عملياً، في شيء عن مبدأ الامتيازات وتسلسل الولاءات، والتي طوّحت بمبادئ الجدارة والاستحقاق والتخصّص والكفاية الثقافية والمعرفية والعلمية والمهنية والأخلاقية وما يرتبط بها من قيم وأحلّت محلّها مبدأ الولاء التام. لذلك لا بدّ من مفهوم ثالث يتوسط الحرية والمساواة، هو تكافؤ الفرص أو تساوي الشروط. ومن ثمّ فإنّ الحرية والمساواة حدّان جدليّان يتوسّطهما تكافؤ الفرص أو تساوي الشروط، أي إنّ تكافؤ الفرص أو تساوي الشروط هو التركيب الجدليّ، الديالكتي، للحرّيّة والمساواة.
المواطنون، في هذه الدّولة (التي تستحق أن تسمّى كذلك) أو تلك، متساوون في الإنسانية، أي في الحرية، ومتساوون في المواطنة فحسب، وهذا يعني، بالمقابل، أنهم متساوون في المسؤولية، فلا حرية ولا مساواة بلا مسؤولية, المساواة في المواطنة، وهي مساواة سياسية، تعني المساواة في الحقوق، لا في مقاديرها، أي إنهم متساوون في جميع أنواع الحقوق، لا في مقاديرها أو كمومها (جمع كمّ)، المساواة في الحقوق هي مساواة في النوع، لا في الكم ّأو القدر. لكل مواطن حقّ في التملّك، على سبيل المثال، ولكن ليس لكل مواطن حقّ مطلق في تملك كل ما يستطيع أن يضع عليه يده أو يبسط عليه إرادته، فمقدار ملكيته محدود بملكية غيره. الملكية التي قامت عليها فلسفة الحقوق وفلسفة الأخلاق والفلسفة السياسية هي وحدة النوع والكم، ومن ثّم هي وحدة المساواة والتفاوت، وإذ لا نوع بلا كمّ، لا مساواة بلا تفاوت. ولمّا كان التفاوت تفاوتاً في الكمّ، لا في النوع، فإنّ الأمل يظلّ معقوداً على تقليص التفاوت، لأنّ الكم قابل للزيادة والنقصان، بخلاف النوع.
يلفت النظر حديث الكثيرين عندنا عن المساواة “التامة”، مع أنّ المساواة لا يمكن أن تكون ناقصة، لكي يطالب بعضنا بمساواة “تامة”، يريدون بذلك بنت عمّ المساواة، أي إلغاء الفروق وطمس الحدود والسيطرة على الاختلاف، كما هي حالنا في الأنظمة الشمولية والأحزاب الأيديولوجية، ولا سيما الاشتراكية منها. يتحدّث هؤلاء، كما أزعم، عن مساواة “تامة” بين الأفراد الطبيعيين في كل شيء، سوى المساواة السياسية، أي المساواة في الحقوق والحريات العامة، ويشرطون المساواة السياسية بما يسمونه المساواة الاجتماعية، بل تبدو لهم المساواة السياسية نافلة وتافهة وبورجوازية وليبرالية وضيعة قياساً بالمساواة الاجتماعية. ناهيكم عن الولع بالتمام والكمال،. تعويضاً “مثالياً” عن ولع محفور في صخرة وعينا بعدم المساواة، وعدم الحرية وبازدراء الكرامة الإنسانية والحياة الإنسانية، وتعبيراً وعن ولع بالقوة الوحشية وولع بالاستبداد وبالجرائم المعلنة من نوع القضاء على الأعداء، أعداء العروبة وأعداء الإسلام وأعداء الاشتراكية وأعداء الثورة وأعداء الحزب .. .
جميع الأفراد الطبيعيين مختلفون في كلّ شي، ومتشابهون في أشياء، (والتشابه لا يعني المساواة) ومتماثلون في الإنسانية. الأفراد الطبيعيون متساوون في الإنسانية فحسب، أما في ما عدا ذلك فليسوا متساوين، ولا يمكن أن يكونوا متساوين، فلا مساواة مع الاختلاف. وجميع مواطني دولة معينة مختلفون في كلّ شيء ومتشابهون في أشياء (والتشابه لا يعني المساواة)، ومتماثلون في المواطنية. المواطنون متساوون في المواطنية فحسب، أما في ما عدا ذلك فليسوا متساوين ولا يمكن أن يكونوا متساوين، حتى لو افترضنا نظرياً إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج (مرة أخرى نذكر بالفارق النوعي، الواقعي والمفهومي، بين الفرد الطبيعي، والمواطن). آية ذلك أنّ الإنسانية هي تجريد، إلى النهاية، لجميع الأفراد الطبيعيين، والمواطنية تجريد، إلى النهاية أيضاً، لجميع أعضاء المجتمع المدنيّ المعنيّ وأعضاء الدولة المعنية. لعلّه من الأجدر بنا أن نتحدّث، كلما هبطنا من ذرى التجريد، عن تكافؤ الفرص أو تساوي الشروط، لا عن المساواة بين الأفراد. الاختلاف ينفي المساواة، على وجه الإطلاق. هنا يتعيَّن مستويان: مستوى الماهية ومستوى الوجود. المساواة هي مساواة في الماهية فحسب. جميع الأفراد الطبيعيين متساوون في الإنسانية، لأنها ماهيتهم، ومتساوون في الحرية، لأنها ماهيتهم وجوهرهم أيضاً. وجميع مواطني دولة معينة متساوون في المواطنية، لأنها ماهيتهم السياسية والأخلاقية. وقد أشرنا في غير مكان إلى أن المواطن شخص قانوني وسياسي وأخلاقي من ماهية الدولة، بوصفها كائناً حقوقياً أو قانونياً وسياسياً وأخلاقياً.
لاحظ أليكسي دو توكفيل، الذي أطلق عليه المتأخرّون لقب مونتسكيو القرن التاسع عشر، أنّ “تساوي الشروط أو الأحوال هو مفتاح كل شيء” (فرانسوا شاتلييه، المؤلفات السياسية الكبرى، من ماكيافل إلى أيامنا، ص226) . تحدث توكفيل عن ميل تاريخيّ، عن اتجاه سير “العالم المسيحيّ” نحو الديمقراطية، انطلاقاً من نقطة واحدة هي التي تحدّد الاتجاه، مبدأ واحد هو القاسم المشترك بين هذه المجتمعات التي تغذّ السير نحو الديمقراطية، هذا المبدأ هو المساواة ضدّ مبدأ امتياز الولادة، وضدّ كل امتياز. المساواة هي السمة الأساسية للديمقراطية، لا الحرية. الحرية هي “السمّ المضادّ الضروريّ للتطرّف في المساواة، السمّ المضاد الضروري للمساواة القصوى”. ومن المؤكّد أنّ المساواة هنا هي مساواة سياسية، مساواة أمام القانون. أما الحرية فهي “المبدأ الأول للكينونة الأخلاقية، والنبع الذي تتدفّق منه بالكفاح كلّ قوة وكل فضيلة”. الحرية ، بوصفها كذلك، وبوصفها أساس الكرامة الإنسانية، هي الدواء الناجع لجميع أدواء الديمقراطية، بل لجميع الأدواء الاجتماعية والثقافية والسياسية والأخلاقية.
التساوي في عضوية المجتمع المدنيّ والدّولة السياسية، أي في الانتماء إلى الأمة، يقود إلى المساواة السياسية، أي إلى التساوي في الحقوق والحريات العامة، ويفتح آفاقاً رحبة للكفاح الإنساني لتقليص التفاوت، وتقليص العدم: عدم المساواة وعدم الحرية وعدم الكفاية وعدم الرفاهية وعدم الحب وعدم السعادة. المتساوون في الحقوق وفي الحريات العامة ليسوا كذلك، أي ليسوا متساوين، إلا بوصفهم مواطنين، لا بوصفهم أفراداً طبيعيين. الترجمة العملية لهذه المساواة هي تساوي الشروط والأحوال، بتعبير توكفيل، أو تكافؤ الفرص، ثم لكل مجتهد نصيب، ولكل خامل نصيب مختلف، فلا يتساوى خامل ومجتهد، ولا يتساوى مختلفان.
بقلم : جاد الكريم الجباعي . مفكر سوري . نقلا عن موقع www.alawan.org