°
, April 19, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

قراءة في حركات الإصلاح الديني “من محمد عبده إلى محمد شحرور” *علي عمران

 

· تنويه :

قبل أن أخوض في البحث، أحب أن أنوه إلى أنني أفصل فصلاً واضحاً بين الدين كعقيدة و منظومة من القيم و الأخلاق و الشرائع المتضمنة في

النصوص التأسيسية و بين الفكر الديني؛ المكون من الشروح و التفاسير والفتاوى و الآراء المختلفة لمجموعة من المجتهدين و المفكرين و الفقهاء الذين قد يصيبون و قد يخطئون ، إلا أنهم بالنتيجة بشرٌ مثلنا مهما أحاطوا نفوسهم بهالة من التبجيل و القداسة ، و أذكر في هذا المجال عبارة الإمام الشافعي ” رأيي صواب يحتمل الخطأ ، و رأيك خطأ يحتمل الصواب “.

 

عودة إلى الجذور :

· موضوع الإصلاح الديني قديم في تراثنا ، و ليس بجديد ، و يمكن أن نتلمس بداياته و جذوره عند المعتزلة و علماء الكلام ، و كذلك عند فلاسفة المسلمين الأوائل ، الذين حاولوا التوفيق بين العقل و الشريعة ، و كتاب ابن رشد /فصل المقال في ما بين الحكمة و الشريعة من اتصال / واضح الدلالة ؛ و كلنا يعرف ما آلت إليه تلك المحاولة و لكن ذلك لا يمنعنا من الإشارة إلى ما في تراثنا و تاريخنا من رموز غنية دفعت بالتفاسير و الفكر الديني إلى ما يخدم العقل و العدل و التقدم ، مقابل رموز ادعت أنها تمثل الحقيقة ، و تحتكر الصواب فشكّلت بؤرة للعنف ، وصارت كابحاً للتقدم.

 

· و في العصر الحديث ازداد الاهتمام المعرفي بالعامل الديني في أوساط النخب ، و أدرك كثير من المفكرين و رجال الدين الدور المحوري للفكر الديني في حياة البشر ، فهو المرجعية التي تحكم سلوك الناس في عملهم و علاقاتهم ، فالناس يأكلون و يشربون و يلبسون ، و ينامون و يصحون وفق تعاليم الفكر الديني و فتاوى الفقهاء . و من هنا كان الاهتمام المتزايد والمستمر موجة إثر موجة و المطالبة الملحة من أواخر القرن التاسعَ عشرَ و إلى اليوم بضرورة إصلاح الفكر الديني. لذلك يحسن بنا أن نتوقف عند الظروف التي بتأثيراتها و بالتفاعل معها نشأت حركة الإصلاح الديني ؟

o أبرز تلك العوامل و المؤثرات ، و في مقدمتها يأتي تفكك الدولة العثمانية ، و إعلان نهاية الخلافة الإسلامية ، و ما نجم عن ذلك من إحساس بالصدمة و الخيبة عند عامة المسلمين .

o العامل الثاني المؤثر تمثل في الاستعمار الأوروبي الذي حلّ محلّ الدولة العثمانية في البلاد العربية ، ثم الصدمة الكبرى التي أحدثتها نكبة فلسطين و ما تلاها من مواجهات مع العدو الصهيوني في الشعور العربي و الإسلامي، و أثر ذلك على الفكر العربي الذي وضع نفسه موضع المراجعة و السؤال .

o و يتمثل العامل الثالث في التجاذب و الصراع بين التيار الديني و التيار القومي في أكثر من بلد من الوطن العربي .

في ظل هذه الأجواء الملبدة بالحروب و النكبات و التناحر نشأت حركة الإصلاح الديني ، وكان سؤالها الأساسي : لماذا تقدم العرب و تأخر المسلمون ؟ و ما السبيل للنهوض و التقدم و الدخول إلى عالم الحداثة و الحضارة ؟

و لقد اختلفت الإجابة على السؤال باختلاف موقع من يجيب عنه و مصلحته ، فمنهم من رأى سبب تخلفنا في الجهل و الأمية و سيطرة العادات و التقاليد ، و جمود الفقهاء في فهم المسائل الدينية مثل الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية و شيخ الجامع الأزهر ، و منهم من رأى السبب في تغييب دور المرأة و منعها من التعلم و العمل و الحرية مثل قاسم أمين ، و منهم من أشار إلى الاستبداد و الظلم و نظم الحكم و علاقة الحكام بالشعب كسبب رئيس للتخلف ، و مانع أساسي من النهوض و الرقي كعبد الرحمن الكواكبي ، و علي عبد الرازق . و منهم من وجه التهمة إلى الاستعمار الغربي و دوره في تجزئة البلاد العربية ، وزرع الفتن بين أبنائها ، و نهبه خيراتها و ثرواتها كجمال الدين المعروف بالأفغاني . و جميعهم أجمعوا على ضرورة الإصلاح الديني و أهميته كمدخل و نقطة انطلاق ، أو كخطوة أولى على طريق النهضة و التقدم و الحداثة و ذلك للمكانة العالية التي يحتلها الفكر الديني في عمارتنا الفردية و المجتمعية ، فهو أحد مكونات بنياننا الثقافي و الشعوري و الأخلاقي ، و بتأثير التجربة الأوروبية حيث كان الإصلاح الديني مقدمة للثورة الصناعية و التنوير الثقافي ، ففي رأي الباحث المغربي / عبد الإله بلقزيز / ” لو قيض لفكرة الإصلاح الديني في القرن التاسع عشر النجاح لما وصلنا إلى ما نحن فيه الآن ، ونحن على يقين أن المخرج من هذه الأوضاع لن يكون بغير إصلاحٍ ديني “.

رواد حركة الإصلاح الديني و أبرز أعلامها :

من واقع المجتمع العربي أواخر القرن التاسع عشر ، الذي كان يتسم بالانحطاط و الجمود و التخلف انطلق تيار الإصلاح الديني من فكرة راسخة مفادها أنه لا يمكن تجاوز هذا الواقع المحنط إلا من خلال حركة إصلاح مجتمعي واسعة، رافعتها الأساسية إسلام عقلاني، منفتح على العلم ،

و متصالح مع الحداثة ، و في سبيل ذلك عمل جمال الدين المعروف بالأفغاني حيث اضطلع بدور ثقافي بارز , و جمع حوله عددا من المثقفين البارزين من مصر و بلاد الشام كان أبرزهم الشيخ “محمد عبده” .لقد سعى الأفغاني إلى تأكيد أن الإسلام هو دين العقل و النظر و المناقشة ، و أن الإيمان الحقيقي هو الإيمان المستند إلى الدليل و البرهان العقلي ، و عارض بحزم من يقول بإغلاق باب الاجتهاد في الدين ، و ينقل عنه أحد تلامذته /المخزومي/ قوله :

” بأي نص سدّ باب الاجتهاد ؟ و أي إمام قال ذلك ؟ “

أما عبد الرحمن الكواكبي الذي تعمق بحث الاستبداد، و رأى فيه سبباً للتخلف و الفساد حيث يرى : ” المستبد يضغط على العقل فيفسده ، و يلعب بالدين فيفسده ، و يحارب العلم فيفسده ” و مع ذلك فهو ينظر إلى المستقبل بتفاؤل ، يقول عن كتابه طبائع الاستبداد ” كلمات حق و صيحة في واد ، إن ذهبت اليوم مع الريح ، فقد تُذهِب غداً بالأوتاد” و قاسم أمين الذي يظن الكثيرون أنه يقصر اهتمامه على موضوع تحرر المرأة ، لكنه بالإضافة إلى ذلك يعمل على تحرير العقل من الأوهام ، و تحرير الحاضر من الماضي ، و تحرير الوطن من الظلم و الطغيان . يكتب قاسم أمين في كتابه / تحرير المرأة / : ” لا أظن أن عقلا يقبل أن تعتبر المرأة إنساناً كامل العقل و الحرية من حيث استحقاقها لعقوبة الإعدام إذا قتلت ، ثم يعتبرها ناقصة عقل بحيث تحرم من حريتها في شؤون الحياة العامة “

و من أبرز أصوات الإصلاح الديني و أكثرها جرأة صوت الشيخ الأزهري ” علي عبد الرازق” في كتابه “الإسلام و أصول الحكم” الذي أصدر في 1925 بعد عام واحد من إلغاء الخلافة العثمانية في 3 آذار 1924 و بعد أن أصدرت الحركة الكمالية في تركيا كتيباً بررت فيه قرار إلغاء الخلافة بمبررات مستمدة من الإسلام و نصوصه التأسيسية و كذلك كان كتاب عبد الرزاق يستند إلى السنة النبوية و تاريخ الإسلام ، وهو يرى أن ” الخلافة ليست من أصول الدين ، بل هي مجرد منصب سياسي زمني “، و هو بذلك كان يقف ضد محاولة إحياء الخلافة و نقل مركزها من تركيا إلى مصر في عهد الملك فؤاد ، بعد أن كانت انتقلت من مصر إلى تركيا بعد انتصار العثمانيين على المماليك في بلاد الشام و مصر 1516 ، مما أضاف إلى قضية عبد الرازق بعداً سياسياً إلى جانب البعد الديني مما عرضه إلى المحاكمة و تجريده من لقب الأستاذ و منعه من العمل في القضاء. و لكن هذه الإجراءات على تعسفها لم توقف حركة الإصلاح الناهضة فبعد ذلك بعام واحد أيضاً أصدر طه حسين كتابه الهام ” في الشعر الجاهلي ” 1926 الذي أحدث ضجة أكبر و تأثيراً أوسع، نظراً لأهمية صاحب الكتاب في عالم الفكر والثقافة فهو عميد الأدب العربي و موضع إعجاب الجميع و تقديرهم حتى لحظة صدور الكتاب ، و لما تضمنه كتابه أيضاً من أفكار جريئة فهو يعتمد منهج الشك الديكارتي في غربلة النصوص الشعرية و الدينية – و هنا تكمن خطورة الكتاب –

و ليس لمجرد تشكيكه في الشعر الجاهلي ، و لقد حوكم المؤلف و منع الكتاب من التداول و سحب من الأسواق.و لكن على أهمية من ذكرنا من الأعلام و الرموز يظل الشيخ محمد عبده شيخ الأزهر و مفتي الديار المصرية هو رائد حركة الإصلاح الديني و علمها الأبرز فهو داعية الإيمان العقلي ، الذي ظهر كاتجاه بارز في القرن الماضي ، وهو يؤمن بدور العقل في الاجتهاد و تغيير الأحكام، و لاسيما في كتابه “رسالة التوحيد ” الذي يقول عنه الراحل الدكتور / نصر حامد أبو زيد/ “إنها المحاولة الوحيدة في العصر الحديث لصياغة لاهوت إسلامي عصري”.

نعم إن الشيخ الإمام يمثل مرحلة الانتقال من الوعي العامي إلى الوعي الفلسفي , فإذا كان توصيف المؤرخ / صلاح الدين القاسمي/ لتلك المرحلة صحيحاً بقوله : ” العامي لا رأي له و لا مذهب ، وإنما مذهبه قول مفتيه و شيخه ” فإن محمد عبده يدعو أن يكون لكل إنسان رأيه بقوله :”لكل إنسان أن يفهم عن الله من كلام الله ، و عن رسوله من كلام الرسول بدون توسيط أحد من سلف أو خلف “.

و هو يلغي التحريم عن الفلسفة ، و يطالب بتدريسها ، كما يطالب بفتح باب الاجتهاد في الدين ، فهو يقر بالتعددية و التنوع و الاختلاف ، لا بل يشجع على ذلك بقوله : “تفسير النص ليس حكراً على شخص دون آخر و بإمكان أي منا أن يفسره وفقاً لأدواته المعرفية و لإمكاناته و بما يناسب عصره”

و هو بذلك يتفق مع مقولة الإمام علي في وصيته لابن عباس عندما أرسله لمفاوضة الخوارج : “لا تجادلهم بالقرآن فهو حمال أوجه ، و هو كتاب مسطور بين دفتين لا ينطق ، و إنما ينطق به الرجال”

و قد حارب كثيراً من الخرافات و البدع التي تلغي العقل و تكرس الحدس ، إذ يرى أن أصول الإسلام تقوم على جملة مبادئ ، أولها:

· النظر العقلي لتحصيل الإيمان ، فلا أهمية للخوارق سواء صح سندها أو اشتهر أو كان ضعيفاً.

· و ثانيها تقديم العقل على النقل عند التعارض : حيث يقول : “إذا تعارض العقل مع النقل أخذ بما دلّ عليه العقل” ، و بقي في النقل طريقان

I. التسليم بصحة المنقول مع الاعتراف بالعجز عن فهمه ، و تفويض الأمر إلى الله في علمه .

II. تأويل المنقول مع المحافظة على قواعد اللغة و قوانينها العامة

 

· الأصل الثالث : البعد عن التكفير : بقوله ” إذا صدر قول عن قائل يحتمل الكفر من مائة وجه و يحتمل الإيمان من وجه واحد ، يحمل على الإيمان و لا يجوز حمله على الكفر “

و لقد أصدر الشيخ محمد عبده مفتي الديار المصرية في أواخر حياته مجموعة من الفتاوى المهمة و المؤثرة في حياة الناس العامة ، ملخصها :

§ تحليل الفوائد المصرفية

§ إباحة أكل ذبائح غير المسلمين

§ إباحة لبس البرنيطة و اللباس الإفرنجي للمسلمين

كما ندد بتعدد الزوجات حتى كاد أن يحرمه – و القرآن ينص على ذلك – “فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة “

كذلك دعا إلى حرية المعتقد الديني ، ففي تفسيره للقرآن الموسوم “بالمنار” يقول في تفسير قوله تعالى ” من شاء فليؤمن ، و من شاء فليكفر ” ما نصه ” من شاء أن يدخل في الإسلام فليفعل ، و من شاء أن يخرج منه فله ذلك ” .و هو في حياته اليومية ، و في نشاطه الفكري و الثقافي كان يساهم في تحويل الثقافة و العلم و الأدب من خادم للسلطان ، يدور في فلكه ، و يتغنى بأمجاده ، إلى خدمة الشعب و المطالبة بحقوقه و دفع الظلم عنه ، و لكن أفكار هذا المصلح الكبير ذهبت أدراج الرياح ، و لم تترسخ في حياة الناس و لا في ثقافتهم و عقلهم الجمعي ؛ لدرجة أنه يوم وفاته اجتمع شيوخ الأزهر لمدة ثلاث ساعات يتشاورون ، هل تجوز الصلاة على مفتي الديار المصرية ، أم لا تجوز ؟!

و قبل أن أختم هذه المرحلة ، و لكي يكتمل البحث أجد من واجبي أن أشير إلى بعض دعاة الإصلاح الديني من بيئتنا المحلية – في الساحل السوري فثمّة رجال دين ، يقر الناس بفضلهم ، أمثال الشيخ – سليمان الأحمد – عضو المجمع العلمي اللغوي – و الشيخ عبد اللطيف سعود ، و الشيخ يعقوب الحسن ، و سأورد لكل منهم بعض الأبيات الشعرية في الدعوة إلى الإصلاح الديني و انتقاد العادات و التقاليد الخاطئة.

· يقول الشيخ سليمان الأحمد :

لا يفخرن أخو التنـــــــــسك بالعبادة و الزهاده

أنا في اعتقادي ، كل فعل الواجبات من العبادة

مثل الفقيه بدينه مســـــــــــــتنبطاً بذل اجتهاده

رجلٌ يسود قبيلة أدّى بها حق الســــــــــــيادة

و أمير جيـــــش باذل دمه ، يصون به بــلاده

و معلم الأولاد يــــكثر في رقيّــهم اجــتـــهاده

فكل ما يفعله الـــمرء بإتقان و صدق عبــــادة

و له في المعتقدات الخرافية :

كلما انحطت المدارك تربو بين أربابها فنون العرافة

إنما الجن و التوابع و التنجيم في مذهبي حديث خرافة

كما يسخر من التمائم و الأحراز ، و شعوذة بعض المحتالين من رجال الدين:

أبالأحراز تحفظني؟! رويداً فإن الله خـــــيرٌ منك حفظــا

طلاسم ما عرفتُ لهن معنى فكيف؟ ولا قرأتُ لهن لفظا

· و للشيخ عبد اللطيف سعود في انتقاده زيارة الأضرحة و تقديم النذور لها:

و تعمير المقامات العوالي على قمم الجبــال الشــــامخات

و تقديم النذور لهن حـــتى من العـقلاء منـــا و الـدهـاة

و ما عجب و إن أمسى عجيباً لنذر الشاة ، بل نذر البنات

و ما للأنبياء هنا قبور.. تزار ، و ترتجى للنائبــــات

و لكن أهل أطماع بنوها مصائد للدراهم ، و الهبـــــات

· و كذلك كان الشيخ يعقوب الحسن صوتاً يدعو إلى نبذ التعصب و الفرقة ، فالدين لله و الوطن للجميع. حيث يقول :

إن التعصب للأديان موبقةٌ أليس بالحق ؛ لا نكراً أتى موسى؟

فالدين لله ، و الأعمال تثبته و العدل يشمل مسعوداً و منحوسا

أدين لله بالدين الحنيف ، و قد آمنت حقاً بما وافى به عيـــسى

و في ظني أن هناك الكثير من أمثال هذه الشواهد في تراثنا و لكننا نهمل ذلك ، أو نكتفي بترداده و ذكره في المناسبات دون أن نتخذ منه دليلاً و نبراساً نهتدي به في سلوكنا و حياتنا العملية. فما السبب ؟ و لماذا ضاعت تلك الدعوات و ظل الناس على عاداتهم – على الرغم من الاحترام الذي يكنونه لأصحابها كأنما كان أولئك المصلحون الأفاضل ينفخون في رماد ، أو يضربون على حديد بارد ، و كما نلاحظ جميعاً ، لا زال الناس يزورون الأضرحة بكثرة ، و يقدمون النذور بسخاء ، و يعلقون التمائم و الأحراز على صدورهم أو في سياراتهم . ولقد ساءني منذ أيام فقط ، أن أحد الجيران قد اشترى مضخة لرفع الماء /دينامو/ و ربطها بشريطة خضراء حماية لها من أعين الحاسدين !!!

بعد الموجة الأولى من الإصلاحيين ، حدث انقطاع أو توقف في الأربعينيات و الخمسينيات من القرن الماضي ، ربما بتأثير استقلال الدول العربية عن الاستعمار ، و انشغال الناس بلحظة الحرية ، و ربما بتأثير المد القومي و اليساري عموما في تلك الفترة ، و لكن لم يطل الوقت كثيراً حتى عاد الاهتمام إلى التراث و إعادة النظر فيه برؤية جديدة ، و لكن هذه المرة من التيار العلماني و الليبرالي ، و ليس من رجال دين متنورين أو خريجي المؤسسة الدينية – كما كان الحال في النصف الأول من القرن العشرين –

و يمكننا أن نشير إلى أعمال مهمة مثل /من هنا نبدأ/ لخالد محمد خالد ، إلى /نقد الفكر الديني/ لصادق جلال العظم ، إلى /الثالوث المحرم/ لبوعلي ياسين – إلى مشاريع ثقافية ضخمة كبحث أدونيس / الثابت و المتحول / أو عمل حسين مروة / النزعات المادية في الفكر الإسلامي / أو مشروع د.طيب تيزيني / من التراث إلى الثورة / أو مشروع محمد عابد الجابري / تكوين العقل العربي / و أعمال محمد أركون و حسن حنفي و خليل عبد الكريم – سيد محمود القمني و نصر حامد أبو زيد و سواهم ..

و الجامع المشترك بين هذه البحوث و الدراسات هو التركيز على دور العقل و أولويته في فهم النص الديني ، دون ادعاء احتكار الحقيقة أو الصواب ، وإعادة النظر بالتراث و محاولة قراءته قراءة جديدة و نقدية على ضوء العلم الحديث . و لكن لماذا ؟ فليست هذه هي المرة الأولى التي يسأل فيها المثقف العربي ماضيه و تراثه ، فقيل ذلك في ثلاثينيات القرن العشرين ، ظهرت كتابات أحمد أمين و أعمال العقاد و محمد حسين هيكل و طه حسين و معروف الرصافي ، و كلها تبحث في التراث ، فما الجديد الذي أوجب إعادة المساءلة ؟ هل لأن الماضي مستمر في نسغ الحاضر ؟ أو بعبارة صادق جلال العظم : ” هل لأن الماضي عندنا لا يمضي ؛ على الأقل معرفياً ؟ ” أو كما يسأل محمد كامل الخطيب : ” من يستطيع الادعاء أن الغزالي ميت ؛ أو عديم التأثير في حاضرنا ؟ “و مهما كانت الأسباب الكامنة وراء هذه الأعمال و المراجعات المستمرة ،

– و يقدر بعض الباحثين العرب أنها ستستمر إلى نهاية هذا القرن – يجدر بنا أن نتوقف عن عمل أثار ضجة إعلامية كبرى ، و عاصفة من ردود الفعل هو / الكتاب و القرآن – دراسة معاصرة / للباحث الدكتور “محمد شحرور” الذي كتب في الرد عليه ثلاثة عشر كتاباً ، و مئات من المقالات و السجالات الفكرية ، و بيع منه حسب تصريح دار النشر التي أصدرته مائة و خمسين ألف نسخة ، وهو رقم كبير في عالمنا العربي .الفكرة الرئيسة التي ينطلق منها الباحث في كتابه هي إنكار الترادف في اللغة العربية عامة ، و في القرآن على وجه الخصوص ، لما يتمتع به القرآن من إعجاز بلاغي ، و هو يعتمد في بحثه على الدراسات الألسنية الحديثة على الرغم من تخصصه العلمي في الهندسة ، فهو أستاذ في كلية الهندسة في جامعة دمشق ، و يستعين الدكتور محمد شحرور في فهم أصول اللسان العربي بأعمال أبي علي الفارسي و ابن جني و الجرجاني ، و دارسو اللغة العربية أو المهتمون بدراستها يعرفون أهمية هؤلاء الأعلام ، و مكانتهم اللغوية الرفيعة ، و من العصر الحديث يستعين ببحوث صديقه الدكتور جعفر دك الباب ، الذي كتب له مقدمة كتابه ، و جاء فيها :

” إن عدداً من التأويلات السائدة خاطئ ، و يرجع ذلك بالدرجة الأولى إلى قلة معرفة الفقهاء باللسان العربي ، ففي مسألة ترتيل القرآن مثلاً ؛فهمها الفقهاء خطأ، بمعنى (التأنق في التلاوة) قي حين أن الفعل / رتل/ يدل على الجمع و الترتيب ، و منه كلمة /الرتل/ بمعنى الصف . و انطلاقا من هذه الفكرة المحورية في الكتاب ، يرى أن مفردات / القرآن – الكتاب – الفرقان – الذكر – المصحف/ ليست مترادفات لمعنى واحد ، بل هي أسماء دقيقة ، و لا يجوز استبدال بعضها ببعض ، و كذلك يميز بين النبي و الرسول ، و في رأيه الكلمة تعبر عن فكرة ، و في نظره أن انحطاط المجتمع العربي رافقه ضعف و انحطاط في فهم اللغة العربية ، مما أنتج تفسيرات خاطئة شاعت بين الناس.”

و الكتاب بحق يطرح أفكاراً جريئة ، فهو مثلاً يدعو إلى قراءة النص الديني بعين الحاضر ، و ليس بعين القرن السابع الميلادي ، و في رأيه هذه القراءة النقدية ضرورية لكشف التراث و غربلته على ضوء العلم الحديث ، فهو يعلن ” لا أقبل أن يكون عبد الله بن عباس – حبر الأمة – أكثر فهماً من ألف

و ثلاثمائة مليون مسلم على قيد الحياة الآن ، و الأمة التي تقبل بذلك ، لا تستحق أن يكون لها مكانة تحت الشمس”.و عندما سئل : هل أنت أكثر فهماً من الإمام الشافعي ؟

قال : ” نعم ، و يجب أن يكون ذلك ، فرجال الدين يحيطون أنفسهم بهالة من التبجيل ، و يحاولون قمعك بشخصيات يعطونها طابع القداسة . “و هو يدعو إلى إصلاح ديني يقوم على إدخال علم الأديان المقارن إلى كليات الشريعة ، و إلى مناهج تعليم التربية الدينية في المدارس . و من الآراء اللافتة عنده أنه يعتبر دارون و نيوتن و أينشتاين ، من الراسخين في العلم ، و هو يصفهم بالعلماء الربانيين.

هذه الأفكار الجريئة و الجديدة ، دفعت باحثاً مهماً مثل صادق جلال العظم للقول : ” إن هذه البحوث ظاهرة صحية و يجب أن تستمر “.

و بعد ماذا كانت نتيجة هذه الجهود الكبيرة والتضحيات المبذولة لمئات من المفكرين و الباحثين العرب خلال القرن المنصرم؟ هل تغيرت قناعات الناس و أفكارهم أم أنهم لا زالوا على عاداتهم و معتقداتهم القديمة؟

لا شك أنه من الصعوبة بمكان تغيير عادات الناس و أفكارهم ، و المسألة أكثر تعقيداً مما نتصور ، لأن الفعل الثقافي ليس له مردود آني ، و نتائجه لا تظهر إلا بعد وقت طويل من التراكم و التفاعل الحضاري، لذلك يشبهون عمل المثقف في المجتمع بزارع النخيل ، ثم إن الإقرار بالخطأ و التراجع عنه يتطلب الكثير من الحكمة و التواضع ،

و يقوم أساساً على محبة الحقيقة و التمسك بها ، و هذه لا تتوفر إلا عند قلة من البشر ، و كما نلاحظ جميعاً لازال الناس على سابق عهدهم و لازالت فوائد المصارف محرمة بنظر البعض لأنها ربا ، و لا زالوا يمتنعون عن أكل ذبائح غير المسلمين مع أن النص القرآني يبيح ذلك ؛ فلقد جاء في الآية الخامسة من سورة المائدة ((و طعام الذين أوتوا الكتاب حِلّ لكم ، و طعامكم حِل لهم )) ، كما لا زالوا يقدمون النذور و يؤمنون بالخوارق . و الدليل الأوضح على أن حركة الإصلاح لم تؤت أكلها ، و لم تثمر في مجتمعاتنا انتشار الحركات السلفية ، و العودة إلى التعصب و التكفير و الإقصاء في التعامل مع الآخرين ، فما هي الأسباب الحقيقية لذلك؟

الباحث التونسي / العفيف الأخضر / يرى أن السبب الرئيس لفشل الإصلاح الديني يعود إلى أن تلك الإصلاحات المحدودة لم تدرج في مناهج التعليم ، وظلت الأجيال الجديدة تلقن الفقه التقليدي القروسطي و تربى عليه ، وكأن أحداً لم يقل شيئاً ؛ أو كأن محمد عبدو و الأفغاني و علي عبد الرازق و طه حسين و سواهم نكرات ، لا وزن لهم و لا قيمة. بينما يرى بعض الباحثين أن سبب هذا الإخفاق – إخفاق مشروع النهضة عموماً- يتمثل في ضعف الحامل الاجتماعي لهذا المشروع ، فعدد المتعلمين حتى بعد منتصف القرن العشرين كان محدوداً، و القوى التقليدية هي المهيمنة على المجتمع ، والإصلاح الديني ليس مجرد أفكار و نظريات ، وإنما هو فعل و عمل في المجتمع ، بحيث ينتقل المجتمع إلى وضع جديد ، و عندما لا يتوفر الحامل الاجتماعي للنهضة يصبح الإصلاح عبئاً و صراخاً في برية.

بينما يشير المفكر الجزائري الراحل / محمد أركون/ إلى دور الخارج متمثلاً في الصراع بين العالم العربي و الإسلامي من جهة و بين قوى الاستعمار الغربي و الصهيونية من جهة ثانية مؤكداً أننا أعطينا الأولوية لمواجهة الخارج و كان ذلك على حساب بناء الداخل و إصلاحه .

و كذلك يمكننا أن نشير إلى ضعف المنهج الإصلاحي ، و حذر المصلحين

و ارتباكهم ، و عجزهم عن خلق بنية عقلانية في أذهان الناس و طرائق تفكيرهم ، فلم يقتنع الناس بأهمية العلم و نتائجة وآثاره ، بل بقي برانياً خارج نفوسهم ، لأنه لا يترسخ في نفوس البشر إلا ما يفعلونه بأيديهم .

كما يمكن الإشارة إلى ازدواجية العلمانيين و نفلقهم ، حيث نرى الكثيرين يبدون علمانيين في المظهر و تقليديين محافظين في العمق ، فهم ثوريون في الموقف السياسي و محافظون في الموقف من القضايا الاجتماعية – و ربما دون أن يعوا ذلك – هذه الازدواجية التي كثيراً ما تتجلى في التوفيق أو التلفيق أضرت كثيراً بحركة الإصلاح و أربكتها . و قد يتخذ الأمر شكلاً من أشكال التطرف و التعصب للعلمانية مثلما يلاحظ الباحث اللبناني /علي حرب/ في كتابه ” نقد النص ” بقوله : ” المثقف الحداثي هو الوجه الآخر للداعية التراثي ، من حيث العجز عن الخلق و الابتكار ، فهو يتعامل مع المفاهيم بعقلية التبشير و الترويج ، و يمارس طقوس التقديس للشعارات و الأسماء و النصوص بحيث تتحول الفكرة إلى وثن مقدس “.

فموقف العلماني من الحداثة كموقف التقليدي من التراث ، و بذلك تصبح العلمانية مرفوضة بدل أن يتقبلها الناس و من المآخذ على العلمانيين أيضاً ، أن كثيراً منهم انزلقوا إلى عدم تقدير الدين حق قدره في تشكيل الوعي الاجتماعي ، و في التربية الأخلاقية ، و لم يكتشفوا أن فكرة “سموا الله ” تعزز فكرة “سمو القانون” فبدت العلمانية كأنها دعوة إلى تهميش الدين ، أو عدم الاكتراث به في حين أنها تعني :

حياد الدولة الإيجابي تجاه أديان مواطنيها و معتقداتهم“.

و كذلك يمكن الإشارة إلى سبب لا يقل أهمية عما سبق أشار إليه الباحث المصري إسماعيل حسني و يتلخص تحت عنوان ” وهم تفوقنا الأخلاقي ” حيث يرى أن من أهم العوائق التي يمنعنا من إعادة النظر في منظومة قيمنا الدينية و الأخلاقية ، و كشف ما فيها من قصور و نواقص وهم تفوقنا الأخلاقي على الآخرين ، ذلك الوهم الذي عمل الخطاب الديني على تعزيزه في نفوسنا لمجرد أننا نؤدي الشعائر الدينية ، و نمنع النساء من الاختلاط بالرجال ، أو نفرض الحجاب على المرأة ، و ينكر هؤلاء أن تكون الحضارة الغربية و ما أنتجته من تكنولوجيا و فكر و فلسفة و علم تستند إلى منظومة من القيم الأخلاقية و الإنسانية ، متجاهلين أن الصدق ، و الأمانة العلمية ،

و البحث العلمي الدؤوب ، و الإرادة والصبر و التعاون، و احترام حقوق الإنسان، و غيرها من القيم التي يمتلكها الغرب و نفتقدها نحن في كثير من جوانب حياتنا ، أن تكون من القيم و الأخلاق الفاضلة .

و يضيف الأستاذ / عبد الوهاب المؤدب / الباحث التونسي و أستاذ الأدب المقارن في جامعة باريس العاشرة إلى ما ذكر تأثير أموال البترودولار التي تدفقت بغزارة لدعم الحركات السلفية و دعاتها و رموزها ، و محاربة ممثلي التنوير الفكري و الديني إلى درجة أنك لا تعثر على اسم طه حسين في بعض الدوريات إلا متبوعاً بصفات السلب، كما يشير إلى تأثير النمو الديموغرافي الهائل للسكان و ما يتطلبه من تأمين الحاجات الضرورية ، و أثر ذلك على زيادة الفقر و البطالة و لجم محاولات الإصلاح و ترسيخ الثقافة التقليدية في العقل الجمعي للشعب. و يرى بعض الباحثين أن دعوات الإصلاح و التنوير لم تغادر العواصم ، و لم تنتشر في أوساط الشعب في الريف و القرى و المدن الصغيرة و الحارات الشعبية حيث يتجمع أكثرية السكان.

لقد أطلنا الحديث في أسباب الإخفاق و الفشل لحركات الإصلاح الديني لأننا نريد تجاوز ذلك في المرحلة القادمة . فحركة الإصلاح لم تتوقف و ستستمر لأجيال و أجيال (ربما لقرن من الزمن ) ، فما هي المسائل الملحة التي تتركز عليها دعوة الإصلاح في اللحظة الراهنة؟

o وضع حد للتكفير : سواء تكفير المسلمين لأتباع الديانات الأخرى و تقسيم العالم إلى فسطاطين ، دار الإيمان و السلم ؛ و دار الكفر و الحرب أو تكفير الفرق الإسلامية لبعضها البعض “حديث الفرقة الناجية” ، أو تكفير المفكرين العلمانيين و المطالبة بمحاكمتهم و منع كتبهم من النشر و التوزيع فمحاكم التفتيش العربية تطالعنا كل يوم بخبر جديد عن محاكمة كاتب أو منع كتاب ، و المثير للاستغراب منع كتاب ألف ليلة و ليلة من معرض الكتاب في القاهرة بعد أكثر من خمسين عاماً على تداوله في المكتبات العامة و الخاصة .

و يذكر الأستاذ هاشم صالح أن الصحف التونسية نشرت تهديداً لثلاثة و عشرين مثقفاً بينهم تسع نساء من قبل جماعة تسمي نفسها ” لجنة تقصي زنادقة العصر” مما يذكر بديوان الزنادقة أيام الخليفة العباسي المهدي ، الذي أمر بجلد الشاعر بشار بن برد حتى الموت . و كذلك تنشر صحيفة الحياة اللندنية مقالاً للدكتور هاني السباعي ، و هو إسلامي مصري يقيم في لندن و يعمل مديراً لمركز المقريزي للدراسات التاريخية يوجه فيه التهم و التهديد لمجموعة من كبار المثقفين العرب ، أقتطف منه ” لقد ابتلي هذا العصر بمجموعة من الزنادقة ، الذين انتشروا في كثير من مناحي الحياة ، و لهم صوت مسموع في وسائل الإعلام ، و الأخطر من ذلك أنهم يعملون في التربية و التعليم و تشكيل العقول من أمثال محمد أركون و عزيز العظمة و هو سوري لا يؤمن بأي دين ، و بلند الحيدري و هو ملحد زنديق ، و أدونيس و اسمه علي أحمد سعيد اسبر و هو من كبار الزنادقة و حسن حنفي و عادل الضاهر و يزعم هؤلاء أنهم مسلمون ، و أنهم يفهمون الإسلام أكثر من غيرهم و أكثر من السلف الصالح . “

لغة الاتهام والتحريض واضحة في النص السابق ، فهو لا يناقش أفكار هؤلاء أو ينتقدها و يثبت بطلانها ، بل يتهم و يحرض على العقوبة ، و هو وحده يحق له تأويل الإسلام و يحتكر الحقيقة .

o القضية الثانية التي يطالب الإصلاحيون بإعادة النظر فيها هي الفصل بين البحث العلمي و بين الفكر الديني فهما حقلان معرفيان مختلفان حيث يقوم العلم على الفرضية و التجربة و البرهان أما الدين فعماده الإيمان و التسليم ، و العلم يقدم كل يوم كشفاً جديداً ، و بعض الكشوف العلمية تطرح على الفكر الديني أسئلة محرجة ، فمثلا بعد صعود الإنسان إلى القمر أواخر ستينات القرن الماضي ، شهد العالم الإسلامي جدلاً واسعاً ، و صدرت بحوث و دراسات بين مؤيد و معارض .و غداة استنساخ النعجة /دوللي/ أصيب عدد من رجال الدين بالذهول ، ثم انقسموا إلى فريقين متخاصمين ، فالمؤرخ التونسي / محمد الطالبي / يؤكد أن الاستنساخ جاء به القرآن ، ولا بأس إذن من استنساخ الحيوان و الإنسان ، بينما رئيس هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية / هيثم العثيمين/ فيرى فيه تحدياً لإعجاز القرآن ، و يفتي بتطبيق حد / الحرابة / أي قطع الأيدي و الأرجل من خلاف على من يقوم به .

و أعتقد كلنا سمع باللغط الذي دار حول إعجاز الرقم /19/ في القرآن الكريم ، في سبعينات القرن الماضي ثم صمت الجميع عن ذلك . فمن الأفضل و الأسلم أن لا نزج الفكر الديني في البحث العلمي .و ربما الجانب المهم الذي يسعى الإصلاحيون إلى تحقيقه هو فصل الدين عن السياسة و ألاعيبها و قصره على القيم و الأخلاق تطبيقاً للحديث النبوي ” إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق ” فهو مسألة شخصية و ليس عاماً فالدولة لا دين لها و هي تعامل جميع مواطنيها بالتساوي بغض النظر عن معتقدهم الديني .

 

و قبل أن ننهي هذا الجزء من البحث ما هي الوسائل الإجرائية و الخطوات العملية أو الحلول المقترحة لتحقيق الإصلاح الديني ؟ سوف نتوقف عند ثلاث تجارب عملية لاستخلاص الدروس.

1. التجربة المصرية : في خمسينات القرن العشرين في عهد عبد الناصر و المدّ القومي العربي أنشئت في مصر لجنة للتقريب بين المذاهب ، وصدر بعد ذلك بفترة كتاب / إسلام بلا مذاهب / للدكتور مصطفى الشكعه ، لا شك أن هؤلاء كانوا ينطلقون من نوايا طيبة و هم يتطلعون إلى وحدة المسلمين و نبذ الفرقة و التعصب ، و لكن عملهم كان خطابياً نظرياً يفتقر إلى المعالجة الحقيقية للمشكلات فلم يدركوا أن الوحدة الحقيقية الممكنة هي وحدة التعدد و التنوع و الاعتراف بحق الاختلاف ، لا وحدة التماثل و التشابه، و إذا كنا نريد وحدة المسلمين ، و وحدتهم مع غير المسلمين فعلينا أن نعترف بأن الحقيقة ليست ملكاً لأحد ،

و أنها موزعة لدى الجميع – فالعلم كله في العالم كله – مثلما علينا أن نتحرر من أوهام التمامية و الكمال .

2. تجربة باكستان : منذ حوالي عشر سنوات ، طلب من مجموعة من الباحثين و رجال الدين في باكستان اقتراح حلول عملية للتخفيف من التوتر المذهبي ، و تحقيق اندماج اجتماعي أعمق بين الطوائف فكانت المقترحات التالية :

§ تبادل الزيارات في المساجد و المعابد بين الأمة و الفقهاء.

§ دعوة الأطراف لبعضهم البعض إلى العشاء في المعابد.

§ تجنب اللغة العنيفة في الحوار حول الموضوعات الخلافية.

§ التأكيد على المواطنة كجامع للأطراف – و احترام حق الاختلاف.

§ القيام بنشاطات استجمامية مشتركة بين الشباب.

§ تنظيم محاضرات و ندوات في الجامعات و المراكز الثقافية حول قضايا مشتركة.

و لم تتضمن المقترحات السابقة الدعوة إلى الزواج بين أبناء الطوائف و المذاهب المختلفة ، على أهمية ذلك في تحقيق الاندماج الاجتماعي ، و في ظني أن كلمة “الصهر” أو المصاهرة تدل على قرابة بين طرفين متباعديَن بالصَهر و المزج بين الطرفين .

3. درس من التجربة التركية :

تركيا دولة قريبة منا جغرافياً ، وهي تمر بمرحلة قريبة من مراحل تطورنا ، و تواجه مشكلات تشبه مشكلاتنا ، و لذلك يمكن أن نتأثر بها و نفيد من تجربتها ، و هي رد عملي على الذين يعترضون على الإصلاح بأنه نسخ للتجربة الأوروبية ، لا يراعي اختلاف الظروف و الأحوال الاجتماعية ففي تركيا تتعايش حضارة غربية و نظام علماني في ظل دولة يقودها حزب ذو عقيدة إسلامية ، وهي بذلك تتجاوز علاقة التضاد بين الإسلام و العلمانية ، و السبب في ذلك كما يرى الدكتور عادل الضاهر في كتابه “الأسس الفلسفية للعلمانية ” حيث يرى أن الإسلام التركي لين و مرن و دستوري و ليس مثلَ الإسلام في العالم العربي متصلبٌ و قاس ، و يرفض الحوار ، و يعتبر نفسه ديناً و دولة و قانوناً و علماً و أخلاقاً كما يعبر عن ذلك الشيخ /يوسف القرضاوي/ في كتابه “الدين والسياسة” بقوله : “الإسلام دين و دنيا ، عقيدة وشريعة ، عبادة و معاملة ، دعوة و دولة .”

و كذلك الأمر بشأن العلمانية في تركيا فهي لينة مرنة و ليست متصلبة مثل الكثير من العلمانيين العرب الذين يطالبون المتدينين بالتسامح و ينسون أنفسهم متجاهلين أن طريق التسامح يجب أن يكون باتجاهين ، و ليس من طرف واحد ، لأن العلاقة بين علمانية صلبة و إسلام صلب لن ينتج عنها غيرُ الصراع أو الصدام، و نحن لا نريد ذلك، و يكفينا ما لدينا من تراث الندم، و لذلك علينا أن نسعى إلى المصالحة بين إسلام مرن و علمانية لينة لنخرج من عنق الزجاجة الذي طال مكوثنا فيه.

 

أما المقترحات و التوصيات ذات الطابع النظري فكثيرة ، و لكنني سأشير إلى بعضها :

o لابدَّ أن نتجاوز ثقافة اليقين و التلقين ، و إشاعة ثقافة السؤال و النقد والشك ، التي لا تعترف بجواب نهائي و حاسم و كم هي جميلة عبارة نيتشه / اليقين سجن/، كما يجب الخروج من صورة الماضي المثالية كزمن جميل يخلو من العيوب و النواقص و النظر إلى عظمائه بموضوعية ، و ذلك بالتمييز بين القداسة و الريادة ، فمثلاً ابن سينا يحظى باحترام الجميع ، و لكن أي طبيب معاصر أكثر علماً منه ، و هذا ليس انتقاصاً أو تقليلاً من شأنه ، فنحن نقرّ له بشرف الريادة ، إذ ليس معقولاً أن يبقى الطب كما كان في الماضي أيام ابن سينا، و هذا الأمر يصح في جميع مجالات الحياة ، فللقدماء المؤسسين شرف الريادة و ليسوا بحاجة إلى هالة القداسة التي تمنعنا من رؤيتهم بموضوعية.

o و في قضية الموقف من الماضي و التراث أذكر عبارة هزتني من الأعماق وضعها الصحفي / محمد حسنين هيكل / كإهداء على الصفحة الأولى من كتابه “زيارة جديدة إلى التاريخ ” : “إلى الذين يملكون الجرأة على مراجعة المألوف و المعروف و أنفسهم أهدي هذا الكتاب”.

فهل نمتلك الجرأة على إعادة النظر في تراثنا و غربلته و فحصه بعين ناقدة مع اعترافنا بأن التراث صنعه بشر أمثالنا يصيبون و يخطئون ؟

يجيب الأستاذ عدنان سالم صاحب دار الفكر عن هذا السؤال بشكل لافت : “نعم ، نحن لا نغير عاداتنا و مواقفنا لأننا جبناء و لا نتخلى عن أفكارنا و مفاهيمنا الخاطئة لأننا لا نملك الشجاعة على فعل ذلك ، و لا نعرف كيف نقول : / لا / للخرافة و الوهم و الآباء التقليديين “.

إذن لابدّ من قطيعة معرفية مع كل ما يشدنا إلى الوراء ؛ قطيعة مع الموروثات السلبية ، مع اللاعقل و الخرافة و إن تسترت بنصوص دينية ، و لا بدّ أن نكف عن مجاملة القديم ، و عن اللف و الدوران ، و أن نسمي الأشياء بأسمائها فنقول للخرافة إنها خرافة و إن زعمت أنها صحيحة السند إلى السلف الصالح. و لكن المشكلة أن الثقافة عند بعضنا مجرد “إكسسوار ” لتزيين الشخصية – مثل الكثير من مكتباتنا المنزلية – و هي ليست للاستخدام و ليست للسلوك و الممارسة اليومية ، متناسين أن الثقافة نظرية في السلوك مثلما هي نظرية في المعرفة .

o أما في مسألة مراجعة الذات ، و الاعتراف بالخطأ و التراجع عنه فيمثلها الشيخ “سلمان العودة” و هو مفكر بارز في المدرسة السلفية المعاصرة تحول إلى مثقف نقدي يمارس القطيعة مع نفسه بقوله :

“دعونا نعترف أننا نمارس تسلطاً و استبداداً في الرأي ، و نمارس ترفعاً على النقد و المراجعة و التصحيح و الاعتراف بالخطأ ، و إعجاباً بالرأي و أحادية في الفكر ، و مصادرة لآراء الآخرين ، و أصبح من العسير أن نتفق على عمل مشترك ، و اختلط الأمر لدينا بين الثبات على الحق و بين الجمود في الرأي “.

هذا النقد الذاتي الجريء من شيخ سلفي من المملكة العربية السعودية ينعش الأمل قليلاً ، و يدفعنا إلى التساؤل : هل الشجاعة في الثبات على الرأي حتى النهاية ، أم في إعادة النظر و المراجعة و الاعتراف بالخطأ ، و الإقرار بأن القويَّ القوي هو من يتزحزح عن موقفه قليلاً؟.

o و يتفق الباحثون على أن نشر ثقافة الاعتدال و التسامح و احترام الآخرين و الاعتراف بحقهم في حرية الاعتقاد ، من الشروط الضرورية للإصلاح الديني ، فإشاعة مثل هذه الأفكار و المعاني التي تنص عليها بعض الآيات القرآنية من مثل / لا إكراه في الدين –

و جادلهم بالتي هي أحسن – ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة – يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا./ و غيرها من الآيات و الأحاديث التي تعزز حرية المعتقد الديني و تعترف للآخر بحق الاختلاف ، مما يساعد على إبراز صورة الإسلام العقلاني المتسامح و المنفتح على العصر ، و هذا يؤكد على أن التعارض بين الإسلام و العلمانية مشكلة مفتعلة و هو ما يقره العلّامة / محمد حسن الأمين / فهو يقول : ” يؤكد كثير من علماء المسلمين أن التكفير منهج مرفوض في الشرع الإسلامي ، فلا يجوز أن نحكم على المجتمع بالكفر و الجاهلية ، و لا يجوز إطلاق كلمة الكفر جزافاً”.و في سبيل نشر ثقافة الاعتدال و التسامح و التنوير ، لا بد من إفساح المجال للمفكرين المتنورين و الجادين في وسائل الإعلام المرئي و المسموع و المقروء ، و عدم قصرها على استضافة المنجمين و العرافين أو أولئك الذين يتحدثون عن الجن ، أو عن عذاب القبر ، أو الذين يثيرون مشاعر الحقد والكراهية المكبوتة ، لأن الواقع و التجربة أثبتا أن لا تقدم و لا حداثة و لا تنوير من دون إصلاح الفكر الديني و من دون الارتقاء بمستوى العقلانية لدى المؤمنين البسطاء الذين يشكلون غالبية مجتمعنا – مع اعترافنا بأهمية التنمية ، و ضرورة إصلاح التعليم كذلك – و من هنا كانت دعوة المفكر الجزائري الراحل / محمد أركون / إلى الاهتمام بالعقلانية و الدراسات الإنسانية في الجامعات العربية و السعي من أجل بلورة لاهوت جديد بمعنى تفسير جديد للدين يساعدنا على تجاوز الحساسيات – و هو يرى أننا تأخرنا في ذلك ، وأعطيناالأولوية لمواجهة الخارج – و على الرغم من مشروعية ذلك – إلا أنه ساهم في تأخير التطور و التقدم . و لذلك نحن بحاجة إلى جهد جماعي ثقافي و فكري من أجل إنهاء الوصاية على فهم الناس لتعاليم دينهم مباشرة ، فلا رهبانية في الإسلام . و ما لم يتصدَ المثقفون ، و مؤسسات المجتمع المدني ، و القوى الحية في المجتمع لمهمة الإصلاح الديني ، ستظل مجتمعاتنا تعيد إنتاج بناها التقليدية المتخلفة ، و نظل نراوح بالمكان ،و من لا يتعلم من دروس التاريخ يحكم عليه بتكرارها مرة ثانية ، و مع أن التاريخ معلم صبور لا يملّ من أخطاء البشر، إلا أنه لا ينتظر أحداً .و لأننا ندرك دور الدين و أهميته في التأهيل الاجتماعي فإن من شأن التركيز على الإيمان الشخصي و هو في الحقيقة مسألة ذاتية، و النص القرآني يؤكد ذلك بقوله ” قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون، و لا أنتم عابدون ما أعبد، و لا أنا عابد ما عبدتم. لكم دينكم و لي دينِ ” من شأن ذلك أن يمثل قفزة ثقافية و اجتماعية واسعة نحو التقدم و الحداثة .

 

خاتمة : هل الإسلام هو الحل ؟

هناك من ينادي بصوت مرتفع أن الإسلام هو الحل، بمعنى أن لدى الإسلام علاجاً لجميع المشكلات التي تعترض مجتمعنا ، و هو مفتاح سحري لجميع الأبواب المغلقة في و جهنا .

و هناك من يرد – و لكن بصوت خفيض – لا ، الإسلام جزء من المشكلة ، بمعنى أنه كما يمارسه الإسلاميون المتعصبون في الواقع – يشكل عائقاً – يمنعنا من التقدم .و ثمة من يرى أن هناك مشكلة في مجتمعنا العربي ، و لكن الإسلام ليس سببها ، كما أنه ليس هو الحل أيضاً ، و نحن نميل إلى هذا الرأي ، لأن المشكلة معقدة لها أسباب عديدة ، كما أن الإسلام وحده لن يحلها ، فهو لم يستطع حلها خلال أربعةَ عشرَ قرناً خلت ، كان الإسلام خلالها حاكماً و سيّداً بلا منازع ، فهل حلت مشكلة العدالة و الحرية و التنمية ؟

و ماذا حل بابن رشد و أبي بكر الرازي و الحلاج و غيلان الدمشقي

و تطول قائمة الأسماء لنصل إلى فَرَج فودة و حسين مروة و نجيب محفوظ و سواهم …إذن لا بد من العلمانية و القانون المدني الوضعي والتأكيد على المواطنة و لاشك أن الفهم المستنير للدين هو الذي يشكل بداية الانطلاقة الحضارية ، و هو الذي يحرر الطاقات المكبّلة و يفتح أفق الإبداع لأنه و كما يقول / ماكس فيبر / :” عقلنة الدين ساعدت على عقلنة جميع التصرفات الاجتماعية ” ، نعم نحن بحاجة إلى إسلام مستنير ، فلقد مللنا دعوات الحقد و فقه الإقصاء و التكفير ، و علينا أن نسعى جميعاً لفتح الباب للمستقبل ، لأن بقاءه مغلقاً يمنع الماضي من الانصراف أيضاً و علينا أن نهتدي بضوء العقل ، لأنه يجمع و يوحد ، إذ لا يوجد إلا عقل واحد ، فالمنهج العقلي المتبع في جامعة هارفارد الأمريكية هو نفسه المستخدم في جامعات بكين و طوكيو و طهران .

و لنسمع قول شاعرنا الكبير أبو العلاء المعري :

أيها الغرّ إن خصصت بعقل فاســـــــألنه ، فــكل عقل نبيّ

كذب الظن لا إمام سو العقل مشيراً في صبحه و المساء

 

و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته.

 

محاضرة ألقيت في فرع جمعية العاديات . جبله

 

*علي عمران : مدرس لغة عربية . مهتم بالشأن العام . جبله . سوريا .