°
, April 19, 2024 in
آخر الأخبار
دراسات اجتماعية

في نقد “قبول الرأي الآخر” – بقلم علا شيب الدين

و بهت زارا مجيلاً أنظاره في القوم ثم قال:

ما الإنسان إلا حبل منصوب بين الحيوان والإنسان المتفوق، فهو الحبل المشدود فوق الهاوية.

إنّ في العبور للجهة المقابلة مخاطرة، وفي البقاء في وسط الطريق خطراً، وفي الالتفات إلى الوراء، وفي كلّ تردّد وفي كلّ توقّف خطراً في خطر.(1)

في لحظات الحسم، يدرك أصحاب الحسّ السليم من البشر أنّ التردّد والحذر محض غباء وهباء؛ فـ”المخاطرة” التي تميّز العبور للجهة المقابلة غير مسموح بموازاتها و”الخطر” الذي يلفّ البقاء في وسط الطريق وفي الالتفات إلى الوراء؛ لأنّ في المخاطرة شجاعة وتوقا وتحريضا، لكنّ الخطر نكوص إلى الحيوان أو سقوط في الهاوية، ووحدها المخاطرة تقي الحيوانيّة والهاوية في آنٍ معاً!

أمام تسونامي التّغيير نكصت أنظمة الحكم في العالم العربي إلى بدائيّة حيوانيّة غرائزيّة؛ فيما لم تحذر الشّعوب المخاطرة فقرّرت العبور للجهة المقابلة حيث الإنسانيّة العليا المتفوّقة، ولم يعد التردّد بشأن البداية والوسط وارداً طالما أن الحُلم المقموع المؤجّل قد حانت لحظة حسمه. فطوبى لشعب يريد.. ويدرك أنّ الاستبداد خطر وأنّ الديمقراطية جهة مقابلة تستحقّ المخاطرة دونما وَجَلٍ ولا حذر!

بين الحيوان الذي نكصت إليه الأنظمة والإنسان المتفوّق الذي اختارت الشعوب العبور إليه توقاً وشوقاً؛ ثمّة من فضّل البقاء “المطلق” في الوسط جاهلاً أو متجاهلاً الهاوية، هؤلاء لم يؤيّدوا ولم يعارضوا، وأيّدوا وعارضوا طمعاً في الاستفادة من امتيازات التّأييد والمعارضة ففارقت النسبيّة معهم زمانها ومكانها وغدت “نسبية مطلقة”؛ احتمى هؤلاء بغطاء الاعتدال مدّعين سعة الصّدر والقدرة على استقطاب الأضداد دونما إدراك لانصهارهم فيها كلّها عبر مساومات تغيب فيها ملامح الذات لصالح المنافع الوضيعة. لا يدرك هؤلاء أن حياديّتهم تلك لا تمسّ الموضوعيّة في شيء كون نسبيّتهم مطلقة، ولا شكّ أن الخطورة ، كلّ الخطورة تكمن في النسبيّة وقد استحالت مطلقة، النسبيّة المفترض بها أن تكون نسبيّة وفقط.

وإذ تغدو النسبيّة مطلقة تستحيل مباشرة “حقيقة مطلقة” تُغيِِّب الحقائق، وإذ تغيَّب الحقائق يبدأ فرض الأنا عبر تقويض الآخر. وفي (الأنا) يلفت أحمد برقاوي لخطورة النسبيّة المطلقة مبيّناً تناقضها مع الموضوعيّة أولاً وأخيراً. فـهي “القول إنّ كلّ أحكامنا نسبيّة وبالتالي فجميع الأحكام لها حظّ متساوٍ من الحقيقة”، وعلى هذا فالنسبية المطلقة “ليست تعبيراً عن الحرية كما يُظن”.

وإن كان لا اختلاف في أنّ “زوايا المثلث تساوي قائمتين” لأن هذا التعريف يمتّ إلى العلم الذي يضيق حقل الاختلاف فيه”؛ فإنّ الاختلاف بشأن شخصيّة الدكتاتور مثلاً يدخلنا في معمعة النسبيّة المطلقة. يقول الدكتور برقاوي: “هب أن أحداً قال إن ستالين هو المنافح الأكبر عن الحرية، وآخر أكد أن ستالين أكبر دكتاتور شهده القرن العشرين وطاعن للحرية، وقائل يقول: إن كلا الحكمين يعبّران عن حرية الموقف من ستالين. فالأحكام حول من هو الدكتاتور بهذا المعنى نسبية، ولكن إذا كان الأمر كذلك فإن الحرية هنا قد غيّبت مفهوم الدكتاتور ولم يعد لدينا أي معيار نقيس فيه درجة الحاكم الدكتاتوري ولنميز على أساسه الدكتاتور من الديمقراطي”.(2).

إن لغَط النسبيّة المطلقة اللازم عن غياب المعيار عبر خلط الأوراق ومزج الحقائق، وعبر ادعاء كل فريق لحريّة امتلاكه للحقيقة، يجعل من الحقيقة ملكيّة خاصّة وبالتالي حقيقة مطلقة. وإن التّمييع الحاصل في بنية النسبيّة المطلقة للحقائق لا يُميتها فحسب، بل يدفع للظلم؛ فيقع الجور والطغيان وتحدث “التّعمية” السياسية والاجتماعية لتبرز تالياً ضرورة الردّ عليها عبر فضح ممارساتها وتبيان الحقائق التي ميّعتها النسبيّة المطلقة.

عادت السياسة إلى الشارع العربي، فاندلع الرأي والرأي الآخر، وتواجهت الـ”لا” مع الـ”نعم” للمرّة الأولى بعد سواد الأخيرة لعقود طويلة، و”طرأ” قول حقّ يُراد به باطل عبر التّأسيس لوعي زائف يبرّر الـ”نعم” ويكرّسها؛ قول مفاده إن لكلّ الحقَّ في الاختلاف وفي أن يصرّح بما يشاء وما علينا إلا أن نحترم الرأي الآخر وأن نقبله.

والسؤال: هل علينا بالفعل قبول كلّ رأي آخر لمجرّد أنه رأي آخر؟! يبدو الحسم صعباً من دون التّعاطي النّقدي ومفاهيم اقترنت أيّما اقتران بالحداثة عبر الانطلاق من الحداثة نفسها كتجاوز مستمرّ للذّات. فمفهوم “حقّ الاختلاف” يبدو أنه يسمح بتجاوزه من خلال قراءات غير محدودة قد تكشف فضاءات غير محدودة، فانتفاء القيود – مثلاً- على حقّ المرء في الاختلاف في حياته الشخصيّة أو فيما يتعلق بإبداعاته الخاصّة كالأدب؛ لا بدّ وأن ينتهي متى قارب حقّ الاختلاف الشّأن العام ليُقنَّن بضوابط ومعايير تمنع إطلاقه، فحقّ الاختلاف ليس بحق مطلق.

وتبدو مسألة قبول الرّأي الآخر أعقد مما يُظن متى أدركنا أن الرّأي لا بدّ وأن ينمو في سياق كلّي حرّ. إنّ قبولنا لرأي آخر هنا يشترط أن يكون هذا الرّأي حراً. بمعنى، ألا يكون قد تجلّى عن سلطة ما مفروضة على صاحبه من حيث يدري أو لا يدري.

كي أكون حرّاً يجب أن يكون الآخر حرّاً أيضاً، إذ لم تكن الحرية لتقوم من وجهة نظر فيلسوف وجودي مثل “يسبرز” لو لم يكن ثمّة اتصال بين الحريّات حتى يكون لكلّ منها أن تحدّد موقفها بالنسبة إلى ما عداها من الحريّات؛ فالحرية لا تقوم في الخلاء، ومعنى هذا أنه لا قيام للحريّة إلا بصراعها ضدّ القهر أو الضّرورة أو الإلزام، لأنه لو اختفت العوائق تماماً، أو لو هُزِمَت الضّرورة نهائيّاً؛ لكان في هذا موت محقَّق للحرية نفسها، فالرّأي المستقل لا يعود له معنى إن لم يأتِ وسط مناخ كلّي حرّ ومستقل، وحين لا يعود للرّأي المستقلّ معنى؛ تطفو الحاجة لإعادة النّظر في مسألة قبول الرأي الآخر.

وتحت ذريعة حقّ الاختلاف وقبول الرّأي الآخر قد يعترض البعض بالقول: إن تأييد حاكم ما وموالاته رأي، وإن النسبيّة، أي إثبات ونفي التّأييد والمعارَضة رأي أيضاً. حقاً إنها آراء، ولكن الرأي كما ذكرنا يشترط الحرية والاستقلال في مجتمع يكون كلّ أفراده أحراراً وهذا ما يوفّره نظام ديمقراطي، حينها يمكن الاعتداد برأي يؤيِّد نظاماً قائماً أصلاً على الرأي والرأي الآخر، ولكن مع نظام حكم استبدادي يمثّل قمع الرّأي أحد مرتكزاته؛ لا يمكن الوثوق برأي مؤيّد ولا بنسبيّ حتى، من هنا تتفشّى ظاهرة الأبواق في كلّ مكان وتستشري طالما أن الرّأي لا يكون من دون أوامر تُعطى لصاحبه قبلاً وبشكل متواتر وممنهج.

أن أقبل الرّأي الآخر أو لا أقبله يعني أنه عليّ أن أكون حراً. بمعنى، أن يكون لي “الحق” في أن أقبل أو لا أقبل، ومن الضروري تحديد “الحق” أولاً كي لا تنزلق الأمور إلى النسبيّة المطلقة أعلاه. فالحق حكم، وإن كانت البداهة أو الوضوح معيارا للحقّ؛ فإن الحكم الصادق هو الحكم الواضح بذاته، أو بما ينطوي عليه من بداهة بنفسه. فإن كان لا يمكن لأحد أن يشكّك في أنّ الكلّ أكبر من أحد أجزائه؛ فالصحيح أيضاً أنه لا يمكن لأحد أن يتنكّر أو ينكر أن احترام حقوق الإنسان حقّ، وشرط للمواطنة. وفي المقابل، على الآخر أن يكون حراً أيضاً. بمعنى، أن يكون رأيه طرحاً خاصاً به وأن يكون قادراً على التّدليل والبرهنة بحرية، أوقد يكون الرّأي تبنّياً – ليست بمشكلة- لكن لا بدّ وأن يلزم التبنّي عن إرادة حرّة، فالحرية تقتضي الخلاص من نزعات السلطة والتسلّط، ومن الأنانيّات المرتبطة بالغايات المحلّيّة الضيّقة التي لا تعترف بحقّ الآخر في الوجود والانتفاع (المواطنة). تبرز هاهنا الحاجة للتفكّر النّقدي المشكِّك والممتحِن لما يُعرض على العقل من روايات متعدّدة ومختلفة ليفكِّك أوصالها ويكشف تالياً تماسك بنيانها المنطقي أو عدمه – خصوصاً في عصر أقلّ ما يُقال فيه إنه عصر التكنولوجيا والإعلام- فثمة “إقناع” مُسنَد بذكاء خبيث إلى حجج منطقيّة وعقلانيّة متماسكة في ظاهرها، متواطئة في جوهرها. نذكر في هذا الصّدد أن الإمام الغزالي كان قد تعمّق في منهج الفلاسفة وآليّات تفكّرهم، وأتقن منطق الجدل والحجّة، حتى أن كتابه (تهافت الفلاسفة) يكاد يكون الكتاب الفلسفي الوحيد ربما في التراث الإسلامي، ومع ذلك لا يمكن القول إن الغزالي فيلسوف طالما أنه إمام يمثّل حجّة للإسلام، كما لا يمكن الإنكار أنّ الكتاب إيّاه إنْ هو إلا كتاب ضدّ الفلاسفة.

إن من لا يؤمن بالديمقراطية ونهجها قد يتبنّى رؤاها شكلاً طالما أنها رؤى تلقى قبولاً ورواجاً في عالم بات مفتوحاً وكلّ ما فيه مفضوح، ولا بأس حينها في مغازلة الآخر(الديمقراطي، أو المتبنّي للديمقراطية) عبر اختطاف وتسييس مفاهيم الديمقراطية والحداثة والعلمانيّة وإطراب أذن المدافعين عن الإنسان وحقوقه؛ أو المتوجّسين من الجماعات الإسلاميّة المتطرِّفة و من الإرهاب. ولكن في عالم مفتوح وكلّ ما فيه مفضوح؛ من السّذاجة والتهافت بمكان أن يظنّ صاحبنا أن آلة القتل والبطش التي خلفه غير مرئيّة، وأن علمانيّته وديمقراطيّته وحداثويّته محلّ ثقة واحترام.

أيّاً يكن، لَهُوَ الانحدار الأخلاقي والإنساني بعينه قبول رأي مدعوم بأدلة “انتقائيّة” تبرّر القتل والاغتصاب والاعتقال والتّعذيب والإذلال والتجويع والترويع والمقابر الجماعيّة… إمعاناً في خدمة هدف أوحد ونهائيّ يجعل من سلطة ما منتفعة سياسيّاً واقتصاديّاً، سلطة أبديّة.

لا، لا يمكن حتى تصوّر قبول رأي – يقصد أو لا يقصد، وكائن من كان صاحبه- يصبّ أخيراً في بقاء الاستبداد لمجرّد أنه رأي آخر؛ لأنّ في هذا نكوصا إلى الحيوان، أو سّقوطا في الهاوية حيث البؤس المطلق.

الهوامش:

 

1- فريدريك نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ترجمة: فليكس فارس، دار القلم، بيروت-لبنان. ص35

2- أحمد برقاوي، الأنا، دار التكوين. ص191-192

المصدر : . . موقع الأوان