°
, April 25, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

الشاعر محمد عضيمة : أراهن على الفرح شرطاً للشعر الجميل

لقد كان رهان الشاعر السوري “محمد عضيمة” منذ اللحظة الأولى لكتابة الشعر أن تكون اللغة المتحركة همّه في تطويره وإخراجه من قوالبه التقليدية، والبحث المستمر عن تفاصيل يومية مدهشة لالتقاط أكثر المشاهد شعرية وغرابة، يبرمجها بثيامته المتنوعة لتطلع علينا مجموعاته الشعرية

المنوعة كأساس مكرس لمشروع شعري متجدد و حداثي، أبرزها: (شكراً للموت – يد مليئة بالأصابع – لا لا لن أعود إلى البيت ) ، بالإضافة إلى عمله على الشعر الياباني وترجمته وإدخاله إلى الأدب المعاصر، حيث يتضح لنا ذاك المجهود الحقيقي المبذول لتقديم مشروع ناضج حقيقي متميز فقط من أجل الشعر والحياة والفرح، من ترجماته عن اللغة اليابانية :

( أنطولوجيا الشعر الياباني – كمشة من رمال ).

يقيم الشاعر محمد عضيمة في اليابان منذ تسعينيات القرن الماضي، ويعمل دكتور في الأدب العربي في جامعة طوكيو، يتسكع بمرح بين هنا وهناك، ضحكاته التي تنشر المرح في كل مكان تميز حضوره، حياته التي يعشها شعراً شاهد عيان على أهمية ما يقدمه للأدب العربي، شاعر يزيدنا تفاؤل وأمل بالكلمة ومقتنيات اللغة المتقلبة دائماً بحسب الزمن والحالة، في آخر زيارة له لمدينة دمشق كان لـ( تشرين الثقافي) اللقاء الآتي :

1) أنت شاعر حداثي بامتياز تختار تفاصيل غريبة وتحولها إلى شعر، كيف تقدم للقارئ نقلتك من التصوف الشعري إلى الحداثة اليومية ؟

ج ــ سأقول في مرّة أولى إنني انتقلتُ من خلال عملية انتحارية لا تزال مستمرة حتى الآن. أي قررتُ، عن سابق إصرار وتصميم، ترك منطقة مغرية جداً على الصعيد الشعري، حيث لا يحتاج العامل فيها إلى شهادة أحد كي يقال عنه ” شاعر “. يكفي أن تكون هناك وتستخدم مفردات وتعابير الصوفية، أو تهذي كما تريد، وتوحي ظاهرياً بالشفافية والتسامي والصعود، كي تصبغ عليك الألقاب الشعرية من جميع الأوزان والأصناف، وأنت لا تعرف واقعيا تزحيط سروال عجوز. هذه المنطقة، وأخريات غيرها، هي ما أدعوه بـ ” بالمناطق المكشوفة شعرياً “، أو الشعرية الجاهزة، شعرية الاستعارة والمجاز العجوزين، حيث لا تحتاج كتابة الشعر إلى جهدٍ يذكر. لذلك تجد غالبية الشباب تبدأ من هذه المنطقة وغالباً ما تنتهي فيها بعد عمر طويل ،بل أن التورط باللغة الصوفية يصعب الخروج منه، لاسيما أنها توفر سهولة الفوز بالألقاب وتوحي، زيفاً، بعمق مستخدمها الثقافي. هذا ما حاولت الابتعاد عنه بكل ما أستطيع ومهما كان الثمن. لا أعرف إلى أي حد نجحت. لم يكن الخروج سهلا. خروج، انتقال، انتحار، لا أعرف ما هي التسمية الملائمة، ولا أعرف إذا كنت قد خرجت وإلى أين. ليس سهلاً أن تغادر هذه ” الخصوبة الشعرية “، المغرية للاستهلاك، دون انهيارات وكسور نفسية شبيهة بالانتحار. وسأقول في مرة ثانية إنني انتقلت بشكل طبيعي من السهل إلى الصعب: أي من منطقة معروفة ومألوفة ومعلوكة تعبيرياً ولغوياً، إلى أخرى يبدو التحقق فيها صعباً، وإقناع الذات والآخرين بها أشد صعوبة.

-2- ثيمات شعرية حديثة وخاصة تفردها في كل مجموعة شعرية، ترى هل حققت جزءاً مقنعاً من مشروعك الشعري في قلب الموازين التقليدية لقصيدة الشعر في سوريا ؟

ج ــ أتمنى ذلك. والأمر يبدو كذلك بين الأصدقاء وبيني، يعني عندما نجلس مع بعضنا على الطاولة نشعر أننا نزلزل الأرض شعرياً، لكن لا شيء يتحرك، حتى الغبار الذي فوق طاولتنا يرفض أن يطير ولو بذلنا له أكمام الجاكيت والقميص. أنت محاط بتقاليد شعرية عمرها حوالي ألفين سنة، فلا تنتظر أن يتخلى الآكلون على موائدها عن ذرة فيها من دون ثمن. قد تحدث حروب وتصفيات من العيار الثقيل في سبيل صورة شعرية زاحت عن الخط، أو حتى في سبيل زحاف عروضي واحد يسهو عنه الشاعر، أي شاعر. الآكلون على موائد الوزن مثلاً، ” دقوا ” أخيراً بمحمود درويش، ليس دفاعا عن زحافات عروضية أخطأ فيها المسكين، وليس من أجل أن يكون الديوان أجمل، بمقدار ما هو دفاع عن خطٍ تفعيلي عام يضمن لهم المكانة الاعتبارية وغيرها، ويخافون من أي خرق بسيط في صفوفهم، فكيف إذا جاء هذا الخرق عن طريق أهم شاعر تفعيلي بينهم. كادت هذه المناوشة العروضية أن تتحول إلى معركة ظاهرها جمالي، وباطنها عقائدي، هذا إذا نظرنا إلى مرجعيات المشاركين في المناوشة وطريقة هجومهم أو دفاعهم. والنتيجة هي أن جميع الأطراف دافعت عن الوزن كقيمة تقليدية لا ينبغي التحرش بها كي لا تُخدش الذائقة السائدة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن المنافحين عن القيم التقليدية في الشعر، كالعروض وغيره، ينتمون على الصعيد السياسي إلى منطق الثورة والتغيير، أي إلى اليسار، ولبعضهم تاريخ طويل أو قصير في السجون: هم ضد التقاليد السياسية القديمة السائدة، ويغامرون بحياتهم في سبيل تغييرها، لكنهم مع التقاليد الشعرية بكامل طاقمها القديم، ويكرسون حياتهم لتكريسها ومحاربتك على أساسها، وإلغائك من الوجود كشاعر في سبيل الحفاظ على حركة عروضية واحدة لا غير. لكننا، نحن أولاد الحداثة الجديدة، سائرون قافلة تلو أخرى، وهم يصححون العروض تارة ، وتارة يرتلون أوزانهم على جانب الطريق.

3 -ترتب حياتك على أنها للشعر، هل يكتمل محمد عُضيمة شاعراً إذا عاش حياته شعراً لم يدونه؟

ج ــ تبدو الحياة شعراً ومن تدوين أهم، وأكثر شاعرية من النص المكتوب. لأن اللغة، أية لغة، محدودة بمفاهيم ودلالات تاريخية أقدم منك ككائن لغوي، وأنت خاضع بالقوة وبالفعل لتاريخ لغتك الأم بكل حمولاتها. يمكن أن تعيش شاعراً خارج شبكات اللغة، لكن لوحدك وبدون مشاركة الآخرين، يعني بصمت وعزلة وكأنك غير موجود في نظر الآخرين إلا بصفتك كائناً غير ناطق. غير أن الكائن لا يتحقق إلا بالنطق، وكذلك الشاعر لا يتحقق كشاعر إلا من خلال اللغة. بتعبير آخر، وبشيء من اللغة الفلسفية، لابد من التجلي والظهور كي يتعين وجود الموجود. لا تستطيع الادعاء أنك شاعر لأنك فقط تعيش، بينك وبين نفسك، كشاعر: لابدّ من حضورك على شكل كتابة كي تصدق نفسك أولاً وقبل الآخرين، يعني تحتاج إلى شيء من الملموس الممسوس كي تكتمل ويكتمل بك إيمان الآخرين: لكي تشعر بالأبوة تحتاج إلى أولاد، ولكي تفهم أنك شاعر تحتاج إلى كتابة الشعر.

4 – تحمل أكثر أعمالك الشعرية عناوين مدهشة ومضمون مميز، هل تصرّ على حربك الدائمة مع اللغة لتجعل منها منصاعة لمشيئة شعرك؟

ج ــ لست أول من يخوض هذه الحرب. فهي مستمرة منذ بدء الخليقة ومنذ البدء بتسمية الأشياء. منذ أن يولد الطفل تبدأ حربه الفردية مع الكلمات. لكل كائن، حتى وإن كان أمياً، حربه الخاصة مع المفردات. كلٌّ يريد من اللغة أن تعبر عما يريد، ويلجأ إلى اختراعات جانبية في سبيل ذلك. خذ الطفل مثلاً كيف يخترع كلماته الخاصة جداً في طلب ما يرغب به من الأشياء: سوف تجد، على لسانه، للماء اسما آخر، وللخبز اسما آخر، ويعطي أسماءً أخرى لمن يحيط به من الكبار، لكنه مع مرور الزمن، وللأسف الشديد، ينسى هذه الكلمات ــ الأصوات، الواقعة في مناطق الشعر بكل المقاييس، ويدخل حظيرة اللغة والمفردات المدجنة. ليس هناك شاعر حقيقي خارج هذه الحرب، وليس هناك شاعر حقيقي لا يتألم لعجزه عن العودة إلى ذلك الطفل، أي العودة إلى ما قبل اللغة، أو إلى أول اللغة كما هي في البداية، بسيطة وعارية من أية استعارة أو مجاز. الطفولة هي الحرية المفقودة في التعامل مع اللغة. وعلى هذا الأساس بالتحديد، وليس على أي أساس آخر، وبوعي أو بدون وعي للموضوع، يطبلُ الشعراء ويزمرون للطفولة، ويقضون حياتهم بالكامل كالأطفال. عندي عناوين وعبارات كثيرة التقطتها من أفواه الأطفال، لذلك أبدو على السطح في نظر “البالغين”، وأنا فعلاً، هناك، على السطح أحارب اللغة مع الأولاد الصغار

5- هناك الكثير من المرح في شعرك والضحك سمة أساسية يتفق عليها نصك، ما سبب هذا التفاؤل على عكس أكثر الشعراء الذين يفضلون السواد؟

ج ــ هم يراهنون على الألم كمصدر للشعر العظيم كما يقولون، وأنا أراهن على الفرح شرطاً للشعر الجميل. لن يكون الألم جميلاً مهما أنتج من نصوص. سوف تخرج من نصوصي والابتسامة على الشفاه، ثم تنطلق في الحياة اليومية كأنك مولود للتو. لن تشعر بالاختناق وأنت تقرأ. أكتب لأنني سعيد. لماذا يخاف الناس من السعداء والفرحانين. أنا سعيد وأريد القول إنني سعيد فقط، أنا سعيد وأريد أن يشاركني الآخرون في هذه السعادة. أنا سعيد وعليه أنا حرّ، أنا حرّ وإذن أنا سعيد: السعادة والحرية صنوان. انظر إلى السعداء كيف يعيشون في مزارع الضحك والقهقهات. بهذا الفرح، أواجه ثقافة العبوس والحزن والخوف والحسد والكآبة، أعني ثقافتنا السوداء الميتافيزيقية. كل ميتافيزيقيا هي مخزن لتوليد الطغيان والطغاة، لتوليد الكآبة والمكتئبين، لتوليد العبودية وكل ما يعارض الحرية والفرح. هكذا سوف تجد الكثير من اليساريين يتبنون لغة الطغاة من خلال تبنيهم اللغة الميتافيزيقية في الشعر والكتابة: الحزن والعبودية صنوان. الثقافة الميتافيزيقية تكرس الحزن والكآبة منهجا في الحياة، وتكرس العبودية مبدأ لأولادها. انظر، انظر كيف يخافون منك عندما تبتسم أو تضحك، وكيف يشتمونك لأنك فرحان. انظر، انظر كيف يتجهم وجهه ويعبس لكي يوحي بأنه جديّ وهام في وجوده. انظر، انظر كيف يريد أن يجد للضحك والسعادة سبباً وإلا فأنت بلا أدب. ثم انظر، انظر كيف يملأ نصه بمفاهيم ومقولات فلسفية وغيبية فقط كي يقال عنه عميقٌ عميق، مع أن الهواء النظيف هناك على السطح. انظر، انظر كيف يبدو حزينا في نصه ويكاد يقع من البكاء فقط كي تتعاطف معه وتقول له يا لحزنك الشفاف الجميل. منذ زمن طويل ليس عندي وقت إلا للفرح والحب.

-6-ما تقييمك الشخصي للمشهد الراهن في الشعر بشكل عام وخصوصاً على صعيد قصيدة النثر وتحولاتها؟ هل سيتوقف الشعر بفعل التكنولوجيا وصور الديجتال والبلوتوث والانترنت … ؟

ج ـ حتى هذا التعبير” قصيدة النثر” شارف على النهاية. لم يعد لدى السائقين وقت للتفكير بهكذا تعابير. الركاب على الطريق ويريدون الذهاب إلى مقاهي الانتريت. في قصائد النثر اليوم كثير من البلاغة، كثير من الصور، كثير من الفائض اللغوي. الشعر الحقيقي يكمن اليوم في الديجتال والبلوتوث. ذائقة جنونية السرعة تصرخ بالجرجاني والفراهيدي وأبو تمام والبحتري وغيرهم، من الأحفاد المعاصرين، أن اذهبوا يا إخوان إلى حيث تريدون فلن تفهموا بعد اليوم شيئاً مما يقال ومما سوف يقال ولن يبحث اليوم عنكم أحد في لسان المحيط كي يعرف ما تقولون. قصيدة النثر اليوم أصبحت في خبر كان، لأنها اطمأنت بسرعة إلى أدواتٍ ليست لها، بل هي للتراث البلاغي قولاً واحداً، ثم لأنها استقتلت في البحث عن أبوة التراث. لذلك يستوطي حائطها اليوم ويهاجمها شعراء المجارير السياسية واللغوية الذين أفرزتهم بالقوة الثقافة الميتافيزيقية الطاغية. قصيدة النثر تعاني من افتقار إلى دم جديد، وتحتاج إلى حقن كثيرة من البلوتوث والديجتال. لكن السؤال الأهم هو كيف تستفيد من هذه الحقن وكيف توظفها في إقناع البشر بالرقص والغناء، عوض التكشير والبكاء. لا أشك أن نظام البلوتوث أجمل علاج لأمراض التدخين وفوران الدم، والصلع النفسي وأجمل علاجٍ للتوتر العصابي الإيديولوجي الذي تنتجه الروايات التاريخية، والقصائد المسكونة بهموم كونية. قصيدة النثر اليوم، كمثل قصيدة التفعيلة، واقعة في مأزق التضخم البلاغي وعقدة السلامة البيانية والمجازية.

حاوره : عمر الشيخ

omaralshaikh-sam@hotmail.com