°
, March 28, 2024 in
آخر الأخبار
دراسات اجتماعية

يوم أصبح حذائي هويتي .. أروى جلبي

كتبت منذ فترة أنني أريد أن يقرأ أولادي القرآن من غير واسطة المفسرين والمشايخ فلاقى هذا التصريح الكثير من التساؤل وبعض الامتعاض. أكتب الآن لأشرح سبب هذا الاستنتاج الذي وصلت إليه. خلاصة تجربتي أنه من غير الممكن أن تكون إنساناً عملياً عقلانياً على صلة بالعصر وتقبل في

نفس الوقت بأن تسلم أهم علاقة في حياتك، وهي علاقتك مع خالقك، إلى مشايخ المسلمين الذين خلقوا دينا ضيقا حسب فهمهم، وقرروا أن أي فهم آخر أو رؤية جديدة أوسع ليست مرفوضة فحسب بل وتخرجك من دائرة الدين التي رسموها.
أتحدث عن تجربة شخصية فقد عشت في السعودية حيث القرآن الكريم هو دستور الدولة وحيث أن تطبيق الشريعة هو أهم شيء. كان والدي يأتي كل يوم ليأخذني من المدرسة الثانوية حيث كنت أدرس وينتظرني في السيارة حتى أركب معه ونذهب للبيت. في أحد الأيام فتحت باب السيارة وما أن هممت بالركوب فيها حتى قال بحدّة “توقفي أنت غلطانة بالسيارة!”
“بابا، هذه أنا!”
“أروى؟”
“أنا ولا أحد غيري!” ورفعت غطاء الوجه عن وجهي ليراني على السريع قبل أن أنزله.
“غيرت الحذاء الذي كنت تلبسين في الفترة الماضية” قال وهو يضحك. ضحكنا يومها وقررنا أن نركز أي حذاء أرتدي عندما يوصلني في الصباح وما زلنا نتندر بهذه القصة أنا وهو حتى اليوم. ولكن الأهم من القصة المضحكة أن هويتي كانت قد هوت حتى أصبحت حذائي!
أذكر أنه كان عندنا يوم في الشهر يأتي أحد المشايخ إلى مدرستنا الثانوية ليعظنا ويلقننا بعض الدروس في الدين. وكنا نقضي نصف النهار نستمع إلى صوت الشيخ على المكرفون وهو يعظ ثم وهو يجاوب على أسئلة البنات التي ترسل له على أوراق. كان معظم الوعظ وكذلك الأسئلة عن نجاسة المرأة. لا أبالغ هنا. بالفعل كانت عن كيف يجب ألا تلمس المصحف وهي حائض وعن مدى سمك المحرمة التي يمكن أن تلمس بها القرآن إذا اضطرت وهل يجوز أن تكتب آية وهي تكتب وظائف المدرسة إذا كانت حائض، وهل يجوز وهل يجوز وهل يجوز من التفاصيل التي كانت تشعر الفتيات أن فترة الحيض تجعلها كتلة من النجاسة بدل أن يكون حيضها دليلا على صحتها وقدرتها على إنجاب الحياة. 
كلما كان الحديث عن مكان المرأة في الحياة والمجتمع كان الموال نفسه في كل مناسبة. المرأة جوهرة يجب إخفاؤها. قطعة نفيسة ثمينة يجب حمايتها. وقصص كثيرة تُروى لتأكيد النظرية مثل الرجل الذي أراد أن يشرح أهمية أن تُلف المرأة جيدا ولا يظهر منها شيء بأن لف قطعة حلوى بمحرمة ورماها على الأرض وأخذ قطعة حلوى أخرى ورماها على الأرض من غير أن يلفها. ثم سأل محاوره “أي قطعة حلوى تفضل؟” فقال الشخص الآخر بأنه سيختار التي لم تتسخ طبعا. فأجاب صاحبنا بكل انتصار “والمرأة كذلك مثل الحلوى نفضل الملفوفة منها!” وهكذا في ثقافتنا الإسلامية عمليا تحولت المرأة إلى (شيء) سواء كانت جوهرة نفسية أم قطعة حلوى ملفوفة بمحرمة. ونعرفها من حذائها ونعرف أنها نجسة ربع الشهر. 
ولكنني كنت محظوظة بأنني نشأت في عائلة لم تعاملني لا كجوهرة نفيسة ولا كشيء نجس وإنما كإنسان مع كامل القدرات العقلية التي منّ بها الله علي (ولو كان لجماعة “ناقصات عقل ودين” رأي مخالف). ولذلك كنت دائماً أشعر أنه مهما رأيت في المدرسة والمجتمع من أشياء منفرة من الإسلام فهناك فهم آخر ونموذج آخر أستطيع أن أحافظ على ديني من خلاله. ولكن حتى نموذج عائلتنا لم يكن متقبلا في الأوساط المتدينة حتى تلك التي تدعي الوسطية والانفتاح منها. في زياراتي إلى سوريا كان فهم الدين مختلفا عن السعودية على الأقل ظاهريا ولربما كان بعضهم أفضل من الشيخ الذي كان يأتي إلى المدرسة أو من الذين ضغطوا هوية الفتاة في حذائها. ولكنهم كانوا ما زالوا بعيدين عن أن يقبلوا بالنساء كشركاء متساويين معهم في الدين والحياة أو احترام العقل أو إعادة النظر في التدين التقليدي الذي تصالح مع الطغيان وتنافى مع القرآن والعقل والمنطق والإنسانية.
الأمثلة كثيرة. كلنا يعرف أناساً يدّعون التدين ويكذبون بسهولة وكأنها شربة ماء. الكثير من الأغنياء يدعون وصلا بالدين ولكن ما يهمهم هو أن يكون لهم صدر المجلس وأن يقف لهم الجميع احتراما وترحيبا، وفي مثل هذا المجتمع تُقيم المرأة بملابسها وليس بحسن أخلاقها. ومن هنا غيرنا الحديث الشريف الذي يقول “الدين المعاملة” فصار “الدين الملابس!” الجميع يحفظ كل الأحاديث التي تقص عقل ودين المرأة وتضعها مع الحمار والكلب الأسود ولكن لا نردد كفاية آية “من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن”. الجميع مستعد لليّ القرآن ليناسب تفكيرهم، فكلمة سائح في القرآن تفسر بأنها تعني سائح وكلمة سائحة في نفس الكتاب تفسر بصائمة.  كل التركيز على العبادات والاشكال الظاهرية للدين وليست لمساعدة الإنسان. ومشايخ الدين كثر منهم من تصالحوا مع الطاغوت وحاولوا إلباسه لباس الشرعية مقابل بعض المكاسب والمناصب. ولكن ما زال علينا أن نناديهم بشيخ وأن نسلمهم علاقتنا بالله وبرسوله وبكتابه بعد أن تخلى هؤلاء الشيوخ عن أهم شيء أمر به ديننا وهو حماية الإنسان نفسه من الظلم والقهر والجوع. معظمهم يعطي الفتاوى يمنة ويسرة عن كيف نمشي وكيف نتوضأ وكيف نحرك السبابة حين التشهد وكيف يجب أن تبقى المرأة مهمشة حتى لا ينهار المجتمع. ولا تجد منهم أحدا يعترف أننا أمة منهارة ولم تكن تجد أحدا منهم ينبس ببنت شفة عن الظلم والاعتقالات والسجون وسرقة البلاد وتقريبا كلهم يسكتون عن الجرائم التي تقترف بحق النساء بحجة الشرف.  
أرسلنا والدي أنا وأخواتي إلى الغرب للدراسة ووجدت أن الحياة مريحة جداً هنا لي كفتاة لأسباب كثيرة منها أنه لا يوجد تحرش أبداً ولا حتى بالكلام. أمشي في الشارع ولا أخاف أن يضايقني أحد بكلمة أو غمزة أو دفشة (كلها أشياء تعرضت لها كل الفتيات في مدننا العربية الاسلامية) مع أن هذه هي البلاد التي يصفها الشيوخ باللاأخلاقية.  الكل يحترم الكل مهما كان مختلفا. يوجد جو من التقبل مع أن هناك اختلافات كثيرة بين الناس في الدين والثقافة واللون واللغة ولكن كلها لا تؤثر على جو التقبل المتفشي هنا. وتأتي لترى آية “وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا” بتجليها في الحياة مباشرة. استطعت أن أدرس الأديان في الجامعة بكل احترام ولكن من دون هالة المقدس التي تمنع أي نقد أو إعادة نظر أو تحليل عقلي أو تاريخي. بعدها شعرت أنني لن أستطيع أن أسمع صوت شيخ يلقي موعظة أو أن أكون في مكان يقال لي فيه ارجعي إلى الوراء يا امرأة.  بصراحة وصلت إلى مفرق طريق. أستطيع أن أعيش هنا باحترام لعقلي وتقدير لجهودي وقدراتي ولست بحاجة لأن أكون جزءا من الثقافة التي تريدني أن أعترف أنني إنسان أقل. لم أقبل يوما، ولن أقبل مستقبلا، بأن أي إنسان يولد لسبب ما في منزلة أقل من غيره.
كما قلت سابقاً اشعر أنني محظوظة بعائلتي التي تقبلت كل تساؤلاتنا أنا وأخواتي وفتحت أمامنا الطريق لنفهم ما نحاول فهمه بأنفسنا. منذ صغري كان القرآن جزءاً لا يتجزأ من حياتنا. من صباحيات العطل في السعودية عندما كان والدي يضع أسطوانة عبد الباسط مع قهوته الصباحية إلى درس القرآن الذي كان خالي جودت سعيد يعطينا إياه كل يوم بعد صلاة المغرب في إجازاتنا في سوريا. أعترف أنني لم أكن افهم كل ما يقال في تلك الدروس ولكن ما فهمته وبقي معي دائما أننا يجب أن نبني صلة شخصية مع القرآن إن أردنا أن نفهمه.  ورغم اعجابي بحياتي الجديدة في الغرب لم اشعر أنني أريد أن اتخلص من ديني ومن القرآن ومن الرسول الكريم. أعتقد أن تلك الثقافة الذكورية العنجهية التي استولت على الدين هي ما كنت أحاول أن أبتعد عنه قدر استطاعتي. كان خالي جودت مرة في زيارتنا وكنا في نقاش حامي الوطيس عن وضع المرأة في الإسلام وهو يستمع لنا أنا وأخواتي ونحن نأتي بأدلتنا. قال “أريد أن أقول لكم شيئا”، وقرأ الآية “هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون”. أذكر أن الهدوء عم الغرفة لوهلة. سمعت الآية يومها في ذلك السياق بالتحديد وكأنني اسمعها أول مرة وبقي الدرس معي بكل وضوح حاضرا حتى اليوم. ألم أقل إنني محظوظة.
وبقيت اشعر أنني أنتمي لعائلتي وأرتاح مع أفكارها ولكن ما أن تكبر الدائرة وتخرج عن العائلة حتى أشعر باللاانتماء. وكنت في الجامعة قد بدأت بدراسة الأديان فغيرت اختصاصي إلى الأدب لأنني وجدت أنني أبحث وأكتب عن إسلام جميل ولكن في نفس الوقت لا مكان لي فيه كإنسان كامل.  
ثم جرت معي حادثة غيرتني منذ عدة سنوات عندما كان والدي في زيارتنا في كندا. دعته مجموعة من الشباب المسلمين لإعطاء محاضرة عن أفكاره التي تدور كلها حول علاقة الدين والعلم والسلم في أحد مساجد المدينة بعد صلاة العشاء. أخذته إلى العنوان المتفق عليه ووصلنا المسجد على وقت صلاة العشاء ورحب به الشباب على مدخل المسجد وسحبوه بسرعة إلى الداخل وكنت اتمهل في المشي خلفه حتى لا اصطدم بأحد الشباب المحيطين به. وعندما هممت بالدخول إلى المسجد وقف أحدهم على الباب وقال لا يوجد مكان للنساء هنا. قلت له أنني مع والدي الذي سيلقي المحاضرة بعد الصلاة وقلت له بلطف لا شك أنه من المسموح أن تصلي النساء في الخلف. أشار إلى خلف المسجد وقال يوجد مدخل ومصلى للنساء هناك في الخلف. اتجهت إلى خلف المسجد حيث مكان صف السيارات. كان المكان موحشا في الليل ولا يوجد إضاءة جيدة. شعرت بالانزعاج لأنني يجب أن أمشي في هذا المكان ولكن ضغطت على نفسي ووجدت الباب الذي يأخذ إلى مطبخ مهجور وممر مظلم توجد به غرف أخرى مظلمة ووصلت أخيرا إلى غرفة كتب عليها مصلى النساء. دخلتها فوجدت غرفة صغيرة باردة ولا يوجد فيها سجاد حتى. وقفت فيها لبرهة أفكر فيما يجب عمله ثم عدت أدراجي وأنا أقرأ آية الكرسي والمعوذات من وحشة المكان وإحساسي بعدم الأمان في هذا المكان الغريب المظلم. كانت الصلاة قد بدأت فحمدت الله أنهم لن يكونوا على الباب لمنعي مرة أخرى من دخول المسجد. لم يكن عدد المصلين كبيراً وكان والدي يؤم بهم. وقفت في الخلف بعيدا عن صفوف الرجال وصليت معهم وأنا استأنس بصوت والدي. انتهت الصلاة وتحلق الشباب حول والدي وبقيت جالسة في مكاني انتظر ما كنت أعرف أنه سيحدث لا محالة. لم يخب ظني فنظرات بعض الرجال الشزر بدأت بالاتجاه نحوي وتبرع أكثر من واحد لأن يقول أختي هناك مصلى للنساء. لم أرد عليهم بشيء وبقيت في مكاني لأنه لن يعيدني شيء لذلك الممر المظلم وتلك الغرفة التعيسة بعد أن خرجت منها سالمة. أحدهم لم يتحمل فقام من مكانه ومشى باتجاهي ووقف أمامي يحملق بي وقال بصوت عالي “النساء في مصلى النساء”. مرت في ذهني الكثير من الأشياء بداية بـ “ربما كان يجب أن انتظر في السيارة” وليس نهاية بـ “اشتهي أن اضرب هذا الرجل”. ولكن فجأة حدثت معي لحظة يوريكا. كان شعوري قبل تلك اللحظة شعورا مزعجا بعدم الانتماء لهذا المكان وهذه الثقافة التي تصمم على أن تراني كشيء وكإنسان درجة ثانية مع أنني متأكدة من إنسانيتي المتكاملة. أدركت لحظتها أنني أنا التي أنتمي لدين الله الواسع الجميل لأنني على يقين أن الله الذي أؤمن به أعطانا مساحة واسعة لأن نفكر ونختلف ونتحاور وأن هذا المسجد الواسع يتسع لي ولغيري وأن هذا الرجل الذي يقف أمامي هو الذي لا ينتمي لهذه المساحة. هو الذي لا يستطيع أن يتحمل مكاناً يتسع للآخرين. بما أنه كان يقف أمامي وقفت أنا أيضا وقلت له أن وجوده في المسجد لا يزعجني لذلك أنا اسمح له أن يبقى ولكن إن كان وجودي يزعجه فيستطيع أن يذهب للمدخل الخلفي للمسجد حيث توجد غرفة خلف المطبخ المهجور لا يوجد فيها أحد يستطيع أن يذهب إليها ويسمع الدرس من هناك ولكن عليه أن يأخذ معه سجادة صلاة لأنه ليس فيها سجاد. ثم طلبت منه الهدوء حتى نستطيع متابعة الدرس وجلست مكاني. شعرت بتردده ولكنه صمت وعاد لمكانه. في هذه الأثناء كان الدرس في المسجد مستمراً عن كيف ستنهض الأمة الإسلامية من عهود الظلام التي هي فيها!
هذا الإدراك كان حريتي. لا يستطيع آخرون أن يقولوا أنت لا مكان لك في ديننا فهو ديني أيضا وأنا من أقرر أين مكاني. والشيء الأجمل أنني سامحت الرجل ولم أعد أشتهي ضربه لأنني لم أعد أرى فيه من يحاول التحكم بي بل رأيت فيه شخصا عالقاً في مكان صغير لا يسع معه الكثير في تلك الدائرة الصغيرة التي رسمها له غيره بعد أن سلم لهم التحكم في دينه. في الواقع الكثير من الإسلاميين يشعرون براحة أكبر إن قلت أنا ومن يشبهونني في التفكير أننا لا ننتمي وأننا ننفض أيدينا من محاولة إيجاد مكان لنا هنا ويتمنون أن يغلقوا الباب خلفنا وهم يقولون مع ألف سلامة. الأصعب عليهم هو عندما لا نترك لهم الله ورسوله وقرآنه لأننا كمسلمين لنا الحق أن نؤمن بالله ونتبع رسوله ونقرأ القرآن ونتدبره مثل أي شخص آخر مهما كانت القناعات مختلفة. غريب كيف يحتكر البعض فهم دين عمره 1400 سنة ومر في بلاد وثقافات عديدة ويدين به مليار ونصف من البشر. ولكن الأغرب من ذلك هو من يقبل أن يسلم عقله وقلبه وأيضا آخرته لشيخ ليفكر عنه ويعطيه الخلاصة. قرأت تعليقا لأحد الشباب الذي كان يسأل على صفحة أختي عفراء على الفيسبوك عن حكم ما. فأجابته بأن يتحرى بنفسه في القرآن عن معنى ما يسأل عنه. وبما أننا نعيش والحمد لله في عصر تساعدنا وسائله الحديثة بشكل رائع فالبحث عن كلمة ما في القرآن أو مفهوم ما أصبح عملية سهلة جدا على الانترنيت. أجابها الشاب بأنه لو كان سيبحث لوحده عن معنى شيء في القرآن لكان ذهب لسؤال شيخ! كيف أصبح عندنا طبقة كهنوت تتحدث باسم الله وكأننا بحاجة لواسطة بيننا وبين خالقنا وكيف أصبحت اطاعة هذه الطبقة هي الشيء الصحيح؟
الكثير من المشايخ الذين يريدون ان يفكروا عنا لا يمثلونني في أي شيء. رأيت مقابلة مع شيخ من شيوخ الأزهر المشاهير منذ سنوات وفي المقابلة أراد أن يؤكد على أن مكان المرأة في البيت فقال “من مليون” ولكنه شعر أن الرقم لم يشف غليله فتوقف واستدرك ثم تابع “من ملايين السنين كان الرجال يعملون في الحقل والنساء تعمل في البيت!” هل يجب أن نشرح كم من الأخطاء التاريخية يوجد في هذه الجملة أم أنها واضحة؟ ولكنني أبتسم عندما أحاول أن أتخيل الأرقام التي يتحدث عنها فأرى الرجال يزرعون ويحصدون والنساء تعمل في بيوتها بسلام والديناصورات تتمشى حولهم بكل ظرافة. هذا الشخص الذي لا أثق بأي معلومة يقولها يجب أن أسلمه ديني وفهمي للقرآن وعلاقتي مع خالقي؟
إن ظهور داعش وأمثالها ما هي إلا النتيجة الحتمية لأمة سلمت عقلها إلى عدة اشخاص وريحت نفسها. لا شك أن ذات الشيخ الذي كان يأتي لوعظنا في المدرسة عن مدى نجاستنا كان يذهب لمدارس الأولاد ويخبرهم عن فضائل الجهاد وعن السبايا إن هم نفدوا وعاشوا وعن الحوريات إن لم ينفدوا. داعش واخواتها لم تأت من فراغ. تقصدهم احتقار النساء واخفائهن لم يأت من فراغ. كله نتيجة للوعظ المنتشر في كل مكان ونتيجة أننا سلمنا ديننا لشيوخ تعتقد أنه كان هناك بشر عندما كانت الديناصورات تجوب الأرض. لا شك أنهم ليسوا كلهم على نفس المستوى ولكن الشيء الذي يشتركون فيه هو احتكارهم لفهم الإسلام واعتقادهم أن مفاتيح النار والجنة في أيديهم ليوزعوها كما يرون مناسباً. ولا يعني رفض مشايخ المسلمين للعقل والتاريخ أنهم يدعمون الروحانية والقرب من الله. على العكس، أصبح الدين سلسلة من القوانين الباردة وصارت الصلة مع الله عن طريق وكيل يخبرنا ما يريد الله منا.
آخر يوم لي في الماجستير في دراسة الأديان كان دفاعي الأخير وتناقشت مع البروفيسور المسؤول عن قسم المسيحية في بعض النقاط التي كتبتها وشكرني على جهودي وشكرته على جهوده وانتهى أول قسم من الدفاع بكل ود واحترام ولكن عندما جاء دور البروفيسور المسؤول عن الإسلام علا صوت الأستاذ المستشرق خريج هارفرد حتى وصل إلى الطابق الثالث وهو يصرخ ويضرب الطاولة بيده ليشرح كيف تم تصنيع الإسلام بعد وقت محمد بمئتي سنة وأن القرآن لم يُحفظ كما يزعم المسلمون. طبعا مشكلة الحديث التي نعاني منها كانت ما يشير إليه. الشاهد من القصة أن هذا الأستاذ المستشرق يذهب إلى المؤتمرات والمحافل الدولية والمحلية ويتحدث بكل ثقة ومعرفة وكراهية عن الإسلام في ذات الوقت الذي نجد شيوخنا مشغولين بإثبات دونية المرأة وسوء أخلاق المجتمع الغربي. برأيي الاثنان أسوأ من بعض. الأول يحاول اثبات أن الإسلام ليس ديناً قوياً مبنياً على قواعد ثابتة والثاني يعطيه كل الأدلة التي هو بحاجة لها لإثبات ذلك. حان الوقت لفتح المجال أمام أصوات أخرى غير أصوات المشايخ والمستشرقين المعادين لتقديم أراء وأفكار جديدة يمكن أن تساعد على أن نفهم الإسلام بشكل أفضل. يوجد الكثير من الأشخاص المحبين للإسلام الذين يتحدثون بعدة لغات وتعايشوا مع ثقافات مختلفة وعندهم إحساس بانتمائهم الإنساني ويستطيعون فتح الشباك بعد الانغلاق الرهيب الذي حبسنا أنفسنا داخله فلعل بعض الهواء النقي من أفكار جديدة يعيد إلينا بعض الحياة. وأن يكون مثل هؤلاء من نساء ورجال على الخطوط الأمامية في لقاء الإسلام مع الأخرين بدل الشيخ الذي يصرخ بنا أن نرجع إلى الخلف ليصنع منا أضحوكة أمام العالم.
أعود في النهاية هنا إلى البداية وهم أطفالي الذين أتمنى أن يعتزوا بدينهم كما أعتز أنا ولكن لا أستطيع أن أتخيل أن تقبل ابنتي ما لم أقبله أنا التي أنتمي لجيل قبلها ولا أعتقد أن ابني على استعداد لأن يسلم عقله عندما يكبر. لذلك ليس أمامنا إلا أن نعمل يوما بعد يوم على أن نعيش المعاني الجميلة التي في الإسلام وفي كل الأديان الأخرى من عدل وإحسان للجميع وسنركز على المعاني الكبيرة الإنسانية التي جاء بها الإسلام مثل “لا إكراه في الدين”. وأن يعملوا على تحسين أنفسهم “قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها” وأن “الله نور السماوات والأرض” وأن قلب المؤمن مرآته كما علمنا جلال الدين الرومي.
علينا العناية بهذا القلب ليعكس نور الله. وأدعوا الله ألا تصبح هوية أي من ابنائنا أو بناتنا في حذائهم يوما بل أن يُعرفوا دائما بابتساماتهم الرائعة وقلوبهم المُحبة وعلمهم وابداعهم.

المصدر :http://www.elaph.com