بعد انتصاره في معركة الجمل عام 36 للهجرة قال الإمام علي بن أبي طالب للسيدة عائشة بنت أبي بكر التي كانـــت في الجانب الآخر، الكلمات التالية: «أي أمة، يغفر الله لنا ولكم» («تاريخ الطبري»، دار التراث، بيروت 1967، ج4 ص27). وقد أقــام الصلاة على قتلى الطرفين ودفنهم في مدفن واحد قائلاً عن خصومه في المعركة: «إنهم مسلمون وما زالوا مسلمين» (هشام جعيط: «الفتنة»، دار الطليعة، بيروت2005، ط 5، ص195-196).
لم يكن هذا الرأي شاملاً لكل معسكر المنتصرين في معركة الجمل، وبخاصة أولئك الذين اشتركوا قبل فترة قصيرة في قتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان، وبالذات فئة «القرَاء» الذين كانوا أصحاب فهم حرفي للقرآن. وقد نجحوا في إحراج الإمام علي في معركة صفين (37 للهجرة) للقبول بالتحكيم حين رفعت المصاحف في ذروة غبار المعركة، ولكن عندما سمّي الحكمان من قبل الطرفين اعترض «القرَاء» رافعين شعار: «لا حكم إلا للَه»، وهو ماعنى فهماً بأن القرآن يمثل حضور الله وحكمه وحاكميته، وبالتالي ليس بشراً يتلقونه بفهمهم البشري في زمان ومكان معينين. وأعطى سلوكهم الذي خرج ضد طرفي التحكيم بأن فهمهم الخاص للقرآن هو الاسلام ومن كان في غير نطاق هذا الفهم سواء عند معسكري عليّ ومعاوية أوعند القعدة عن المعسكرين (أسامة بن زيد، سعد بن أبي وقاص، عبدالله بن عمر… إلخ) فهو خارج خيمة الاسلام. هنا، أتى التكفير للمسلمين الآخرين من فكرة الحاكمية عندهم، فقد اعتبروا الله حاكماً للبشر من خلال حضور قرآنه، وقد اعتبروا أنفسهم الممثل الحصري لهذه الحاكمية، وفهمهم الخاص للاسلام هو الاسلام والذي عند المسلمين الآخرين من الفئات الثلاث المذكورة هو الكفر «ما دام مرتكب الكبيرة كافراً كفر ملة يخرج به من الاسلام جملة واحدة»، وفق تعبير نافع بن الأزرق (قتل عام 65 هجرية) أحد أبرز زعماء الخوارج، سواء «الفئة الباغية» أو الذي ارتضى التحكيم بينه وبينها أو الذين قعدوا عن قتالها.
عند العودة من معركة صفين اعتزل الخوارج في ناحية حروراء قرب الكوفة، رافضين مجاورة معسكر علي في عاصمته ومهاجرين عنه، لذلك تمت تسميتهم «الحرورِية» أول أمرهم. قاتلهم علي في معركة النهروان (38 هجرية) لما انتقلوا عبر جسر «التكفير» إلى «القتل» من خلال ذبح ابن أحد الصحابة، عبدالله بن خباب بن الأرت، وبقر بطن زوجته الحامل، بعد أن استنطقوه ورفض البراءة من علي. كان سلوكهم مع ابن خباب ارهاصاً بفتواهم اللاحقة عند ابن الأزرق بـ «جواز قتل مخالفيهم ونسائهم وأطفالهم».
يوحي الفعل الخارجي بالتالي: «الله أصدر حكمه في كتابه وواجبنا تنفيذه». اعتبروا أنفسهم هم «المسلمون الصحيحون» والباقي من كل مخالفيهم من المسلمين الآخرين مجرد «كفار». لهذا قاموا بالهجرة عن كل هؤلاء ثم بمقاتلتهم وبقتلهم وبقتل نسائهم وأطفالهم، وحكموا بأنه لا يحل ميراثهم ولا أكل ذبائحهم ولا الزواج منهم. وقد أطلقوا على أنفسهم اسم «أهل الحق» من منطلق «أن القرآن قد نطق بكل شيء وهم مفسروه الوحيدون وحاملوه بوصفهم جسراً بشرياً مصطفى لتطبيق حاكمية الله الممثلة في النص القرآني».
جابه الإمام علي الخوارج بأن القرآن نص الناس «هم الذين يستنطقونه» في رده على شعار «لاحكم إلا للَه». وكان اغتيالهم له في 17 رمضان 40 للهجرة في صحن مسجد الكوفة عند صلاة الفجر نابعاً من تكفيرهم إياه منذ «تخليه عن معسكر أهل الحق» يوم قبوله بتحكيم بشري في خلاف سياسي مع «البغاة»، وهو ليس خلافاً بين بشر بل بين من يمثلون «حاكمية الله» وبين من يخرجون عن أمر الله.
خلال المدة الفاصلة بين معركة صفين (37هجرية / 657 ميلادية) وصدور كتاب أبو الأعلى المودودي «المصطلحات الأربعة في القرآن: الإله والرب والدين والعبادة» عام 1941 لم يحصل أن صدر نص آخر يمثل متابعة سنّية أو شيعية لفكرة الخوارج حول «الحاكمية». ومن خلال كتاب المودودي وعبر «الحاكمية» تولدت فكرة «التكفير» و«الجاهلية» عند سيد قطب في كتابه «معالم في الطريق» عام 1964، وقال إنه تدخل «في إطار المجتمع الجاهلي جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلاً» (ص 120 من كتاب قطب، مكتبة وهبة، القاهرة 1964). كما تولدت عبر الفكرتين الأخيرتين فكرة «الطليعة المؤمنة» و«النزعة الجهادية» بطابعها الأصولي الإخواني قبل أن تتحد هذه مع سلفيين وتتولد «السلفية الجهادية».
لا يرى المودودي أن الألوهة هي مصطلح يرتبط أساساً بالخلق والتدبير أو رعاية الكون، ويرى أنها أبعد من الهداية عبر الكتب المنزلة، بل هي سلطة دائمة على الكون والطبيعة والبشر وحاكمية عليهم: «إن كلاً من الألوهية والسلطة تستلزم الأخرى» (ص 15 من نسخة ألكترونية للكتاب
www.ahlalhadeeth.com/vb/showthread.php?t=36059)
و«الألوهية تشتمل على معاني الحكم والملك»(ص17) و»أصل الألوهية وجوهرها هما السلطة»(ص13) و«القرآن يجعل الربوبية مترادفة مع الحاكمية «(ص43). لا يحدد المودودي من يمثل «حاكمية الله» على الأرض، ولكن من الواضح أنها، كما عند الخوارج، قادت وستقود إلى أن يمثلها بشر يعتبرون أنفسهم «أهل الحق» وغيرهم «أهل الباطل والكفر».
* كاتب سوري
السبت، 17 يناير/ كانون الثاني 2015
المصدر :http://alhayat.com