°
, April 20, 2024 in
آخر الأخبار
دراسات اجتماعية

العلمانية خلْسةً؟ أحمد بيضون

لا تتمتّع العلمانية بصيت حسن في المشرق العربي. ولم يكن لطوفان الإسلام السياسي واحتدام تيّاراته إلا أن يزيدا صيتَ العلمانية سوءاً. لم يظهر نفعٌ يذكَر للصوت الذي ارتفع ألف مرّة منوّهاً بأن «فصلَ الدين عن الدولة» ليس خروجاً على الدين وإنما هو يحمي الدين إذ ينزّهه عن ابتذال المنازعات السياسية.
تختلف ردود الفعل، والحقّ يقال، على المواقف ذات المشرب العلماني من بلادٍ في هذه المنطقة إلى أخرى. ففي مصر يجازف المرء باستثارة من يبتغي ردَّه إلى الصواب بحمّيةٍ قد تبلغ حدّ العنف إذا هو أعلن في محفل عامٍّ تأييده لنظام حكم علماني. بل إنه قد يستدرج ردّ الفعل نفسه إذا قال بعلمنةٍ ذات بالٍ للقانون المدني وهذا على الرغم من الصفة التي يجهر بها اسم هذا القانون. يبقى صحيحاً مع ذلك أن تغيير هذا النظام أو ذاك من أنظمة الحكم في المنطقة قد يقوّي وقد يضعف النوازع إلى نشر سلطان الدين على مضامير بعينها من الحياة الاجتماعية لا يكون الدين قد استولى على مقاليدها إلى ذلك الحين.
في لبنان، يبقى دعاة العلمانية أقلّيين إلى حدّ يتيح إدراجهم بين أسرى الوهم. فهم وإن لم يكونوا مثارَ نفورٍ مبادر لا يمثّلون خطراً على النظام القائم أيةً كانت عللُه التي لا يرجى لها شفاء. مع ذلك لا يلقي خصومُ الواقعية هؤلاء سلاحَهم وهم لم يلقوه، في الواقع، في أيّ وقت. وقد حصل أن حصّلوا تنازلات ثانوية من النظام ولكن الطائفية تبقى سيّدة الموقف في ديارها سواء أتعلّق الأمر بالنظام السياسي أم بمساقات الاندراج في الاجتماع وبأطره وبالعلاقات البينفردية.
في العراق أيضاً، مضى من زمن طويل عهدُ مِثال العلمنة ذات المنحى الاشتراكي ولكن العلمنة عادت فعرفت بعض الحظوة غداة الاجتياح الأمريكي للبلاد في سنة 2003. ففي وسط الجائحة التي مثّلها الصراع الطائفي سُمعت أصوات ما لبثت الجائحة أن خنقتها لمثقّفين طلبوا النجدة من ماكيافيلي أو من لوك عسى أن يتمكنوا من صوغ الأجوبة التي تقتضيها المواطنة لمسائل ما بعد الدكتاتورية ولظواهر التعبئة العدوانية طائفيةً كانت أم قومية أم قبلية…، إلخ.
وإذ يشعر العلمانيون العرب بالضعف العامّ في قواعد موقفهم نراهم يوطّنون أنفسهم في كلّ مكان تقريباً على الغضّ شيئاً ما من صراحة مطالبهم ذات الصفة العلمانية المسمّاة باسمها ويرتدّون إلى مواقع ينعتونها بـ»المدنية». تلك صفة تسمع لها أصداءُ عداءٍ للطواقم الدينية أخْفَتُ من أصداء الأخرى. وتجد الإصلاحات التي يرد ذكرها تحت هذا العنوان تتويجاً لها في مطلبٍ إستراتيجي هو مطلب «الدولة المدنية». وكان الأَوْلى أن يقال «حكومة مدنية» إن شئنا الإبقاءَ على المصطلح الذي يعتمده جون لوك إذ المذكور هو المرجع المعلن أو المبطن لهؤلاء الإصلاحيين الشجعان. فنقول «حكومة مدنية» ولا نقول «دولة مدنية» بالإنكليزية ولا نقرب الترجمة الحرفية إلى الفرنسية لهذه العبارة الأخيرة إذ هي تنقلنا من صعيد للوقائع إلى صعيد آخر.
والخلاصة أن مصطلح «الدولة المدنية» مصطلح أنكلوسكسوني الأصل. وهو قد رعى، حيث ولد، إمدادَ مؤسسة العرش بشرعية مضافة مصدرها الكنيسة القومية. ولكنه لم يجعل نفسه أساساً للتمييز بين جماعات المواطنين المذهبية في حقوق المواطنة. ومعلومٌ أن هذا الحرص لم يُنْجِ بريطانيا من أطوارِ نزاعٍ مديدة كان الأثر المذهبي واضح الفاعلية فيها. وفي المشرق العربي، استَعْمل مصطلحَ «الدولة المدنية» مصريون وعراقيون بشيء من العفوية حداهم إلى ذلك طول عهدهم بمصادره الأنكلوسكسونية فضلاً عن توجّسٍ مرجّح من ردود الفعل بين ظهرانيهم على الرطانة العلمانية. ثم استحوذت على المصطلح نفسه فئة من المثقفين اللبنانيين كانت راغبةً، هي أيضاً، في جعل المستقبل الذي تدعو إليه مثاراً لمقدارٍ من القلق أقلّ.
على أن مصطلح «الحكم المدني» هذا إذ يُدْعى إلى الاستواء ضدّاً لمصطلح الحكم العسكري، من جهةٍ، ولمصطلح الحكم الديني أو الطائفي، من الجهة الأخرى، يبدو وكأنما يحمّل فوق طاقته فيسيء أداء المهمّة المنوطة به. وذاك أنه يوشك أن يجنح إلى السفسطة أو إلى الحذلقة الخطابية حين يزعم القدرة على الاستواء بديلاً لاثنين من أنظمة الحكم طالما ناطح أحدُهما الآخر أو هما لم يظهر بينهما من السمات المشتركة ما يعتدّ به، في كلّ حال. فالواقع أن الحكم الديني يصبح في وسعه، إذا اعتمدنا هذا الخلط، أن يعلن نفسه مدنيّاً طالما أنه ليس بالعسكري وأن الحكم العسكري يسعه إذّاك أن يصف نفسه بالمدني ما دام أنه ليس دينياً. وهو ما ينتهي إلى استحالة هذا البديل المقترح إلى عبارة فارغة… هذا ما لم ندرج بكل الصراحة المقتضاة، في موضع القلب من هذا المفهوم، مبدأ العلمانية مصحوباً بمقدّماته الفلسفية: وهي الحرّية والمساواة بين المواطنين. فهاتان هما بمثابة الأساس، وهما الحدّ أيضاً، للسيادة الشعبية التي تجعل لجماعة المواطنين صفةَ مصدر التشريع فتمنع استتباعَ الدولة من جانب السلطة الدينية وتمنع بالتالي كلّ تمييزٍ بين المواطنين على أساس الدين.
وذاك أن قصارى المثال العلماني ليست كبت الدين ولا الرزوح على حرّيات المتدينين. وإنما هي أن يُبْعِد التقديس عن أهل السلطة وعن أعمال التشريع والسياسة، وهذا مع اطوائه على العلم بوجود أصولٍ دينية للقيم التي يفترض أن ترعاها هذه وأولئك. ففي اعتماد هذا المثال وعي لكون اعتماد التقديس في هذا المضمار أو استدعاء المقدّس إليه لا يعدوان تمهيد الأرض للاستبداد بدعوى تمثيل المقدّس وللفساد بشتّى ألوانه بعد استبعاد الجراة من جانب الرعايا على المحاسبة. هذا التقديس يوجّه صاحبَ السلطان، في نهاية المطاف، إلى البطش بكلّ معارضة متوسّلاً وصفها بالمروق من الطاعة لله وللمؤتمنين على مشيئته في الأرض وفي أهلها.
هذا، في كلّ حالٍ، «بحثٌ» له «صلة». فإلى العجالة المقبلة.
كاتب لبناني

أحمد بيضون

المصدر :http://www.alquds.co.uk