°
, March 28, 2024 in
آخر الأخبار
دراسات اجتماعية

سيرة أصولي مصري

تجربة شخصية

……… لأول مرة اكتشف أن العقل الإنساني يفكر بصورة ما خارج النص الذي يقرأه , وبعيداً عنه . قد يكون هذا شيئاً بديهياً بالنسبة لكثيرين , لكنه لم يكن بديهياً بالنسبة لي آنذاك …….

كان بينهم زملاء متدينون ويساريون وآخرون من دون انتماء . ومع هولاء تعلمت معنى الكلمة وكيف تكون دالة دلالات مختلفة . تعلمت أن انتقد وأبرر انتقادي , وتعلمت الفرق بين كلمة تصلح للخطابة , وأخرى تصنع إيقاعا , وكلمة تصنع فنا وتفجر معنى .

مع صديقي اليساري حسن تعلمت متعة الشك . الشك في جمال نص الشاعر , وفي جمال الموروث وجمال الكلمة , والشك في المعارف المستقرة في ذهني , والشك في صواب اختياراتي للحياة . ومع حسن تملكتني الرغبة في البدء من جديد في اتجاه جديد , فقررت أن أغير مسار حياتي التي لا تعني أحداً غيري . قررت أن أكون صحافياً وكاتباً لا طبيباً كما كان مرسوماً لي من قبل .

وعلمني الشك التفكير بالأخر . الأخر الذي في أثناء عبادتنا أحلامنا ننكر عليه أحلامه . ونحتقر أبطاله فيما نمجد أبطالنا . لذا قررت التعرف على الآخرين , واشتريت الكتاب المقدس وواظبت على الاستماع إلى شرحه في إذاعة ” مونت كارلو ” يوميا . واشتريت كتب أعدائي القدامى لأقرأها للمرة الأولى ….

واستهوتني لعبة محامي الشيطان , ومحاولة فهم الأخر وتخيل مشاعري لو كنت أنا ذلك الأخر . ثم استخدمت ميراث الجماعة وتجربتي فيها لأعري نفسي بنفسي . وشيئاً فشيئاً بدأت أشعر بأنني لست على استعداد لان أقتنع في شيء . إن لم أقتنع به شخصياً . يستوي في ذلك أدائي فرائض الصلاة وغيرها من العبادات التي قررت أني ورثتها عمن سبقني , ولن ألتزم إلا بعد فترة حياد أفتح فيها قلبي وعقلي لكل فكرة وصرت في ذلك الوقت أكثر أخلاقية مما سبق . كأنما لأؤكد لنفسي أنني لست فاسقاً ولا أتحلل من التزاماتي جرياً وراء شهواتي . وفي تلك الفترة صرت نباتياً لا أقرب اللحم تأثراً بالفكرة الهندوسية عن التناسخ وحلول الأرواح , واقتناعاً مني بأن ذلك يساهم في سمو الروح ووضوح الفكرة ويعلي الإنسان فوق رغباته العادية اليومية .

وأقبلت في تلك الفترة على قراءة السير الذاتية , والتمعن كثيرا فيما ترويه , كأنما أريد أن أعيش الزمن بعد اختزاله في صفحتي كتاب . وكنت أحس أن القراءة في بعض الأحيان خداعة لما فيها من تلاعب بالزمن وتلق مختلف للأحاسيس .فالألم القاتل الذي يوشك أن يقتل صاحبه قد يعظم لدى القارئ ذي الإحساس المرهف ويجعله يذرف دمعتين مثلا . ولحظات الكفاح المضني والقلق المحطم قد تترجم لدى القارئ المهتم بقشعريرة في جلده أو اتساع في حدقة العين … فقط لا أكثر .

كانت قراءة السير الذاتية في تلك المرحلة تطمئنني أنني لست وحدي , وتعوضني عن ذلك الدعم الذي كنت أحسه وأنا فرد في جماعة تعتنق كلها الأفكار نفسها وتمارس العبادات نفسها . وكانت القراءة تزيدني يقيناً بأنني لست نبتاً شيطانياً , وأفكاري ليست هي الأخرى نبتاً شيطانياً , وأن آخرين ساروا كما أسير عكس تيار الاستسهال . وبنو أفكارهم عبر جهد شخصي بعيداً عن الإرث الجاهز المتلقى بلا عناء . واستطاعوا أن يبدعوا بعقولهم وتفكيرهم إرثاً بشرياً أدبياً وثقافياً وفنياً وأخلاقياً متنوعاً . كما كانت السير الذاتية تمنحني صبراً و أملاً , لا سيما حين أكون في مواجهة اختيارات صعبة , فأشعر أن لا شيء سيكون نهاية المطاف وأن الحياة سوف تسير بالأحوال كلها .

انعكس اختلاف فهمي للحياة على جوانب أخرى بعيدة عن الثقافة والايدولوجيا . صرت أعشق الأفلام الأوربية ذات الطابع البطيء الهادئ, وكذلك الاهتمامات الإنسانية البسيطة التي تغوص في عمق نقطة صغيرة أو خاطرة عارضة فتجعل منها هما إنسانياً كبيراً . لم أعد أتحمل الأفلام الاميريكية الساذجة الشبيهة بقصص الأطفال عن الصراع بين الخير والشر الذي ينتهي دائماً بانتصار الخير . ولم أعد أتحمل أيضا صناعة الأبطال النموذجيين الخارقين للعادة الذين تجللهم هالات القداسة .

ولا أنسى أن فيلما بسيطاً لم يستطع معظم المتفرجين تحمله حتى نهاية العرض غير نظرتي إلى الحياة ومعنى المتعة كما لم يفعله ما تعلمته في خمسة وعشرين عام من عمري كله وقتها . والفيلم هو : وليمة بابيت ” الذي يحكي عن خادمة لأسرة متدينة متزمتة تحرم الرقص والغناء والمتع الدنيوية . ورثت تلك الخادمة ثروة طائلة من قريب لها وذهبت للحصول عليها , ثم أقامت لمخدوميها وليمة بهذه المناسبة . وينتقل الفيلم بطريقة شاعرية بين مفردات الطعام وهو يعد , وبين تعبيرات وجوه المدعوين الجدية فيما هم يأكلون لينتهي بهم الأمر , بعد أن وافقوا على شرب بعض الخمر , إلى الرقص والغناء والبوح الذي يكشف عما في نفوسهم الطيبة . وفي النهاية يسأل أحدهم الخادمة ماذا ستفعلين بالثروة , فتخبره أنها أنفقتها كلها على تلك الوليمة , وأنها سعيدة لأن ذلك كان أفضل ما يمكن أن تفعله بها ……

خالد البري ” الدنيا أجمل من الجنة سيرة أصولي مصري . دار النهار للنشر بيروت .