°
, December 7, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

السؤال الرئيس . لـ د . أحمد برقاوي

إن السؤال الرئيس الذي غاب عن الذهن المفكر هو : ما الثقافة التي حالت دون حضور الذات في عالمنا وما زالت تحوّل ؟

لم تكن العلاقة بين الذات والتاريخ حاضرة في وعي المعيش, ” فالأنا ” مفهوم مرزولٌ في ثقافتنا , وحيث

إنَّه لم يولد بعد, حال دون ولادة الذات بالضرورة , لأن الذات هي تعيّن الأنا وقد صار فاعلاً .

 

ونحن إذ نطرح السؤال : ما الثقافة التي حالت دون ولادة الذات ؟ فإننا نقصد الذوات بالجمع في حالة فعلٍ تاريخي , ذوات حرّة تعيش حالة المجازفة والمغامرة .

فرضيّتي في فهم غياب الذوات الحرّة الفاعلة التي تخوض المجازفة هي الآتية : الثقافة العربية السائدة هي ثقافة الذات – المركز الواحدة الوحيدة التي تحول دون ولادة الذوات الحرّة .

كيف تأتى لثقافة أن تستمر بوصفها ثقافة الذات واحدة المركز ؟ .

ماذا لو قلنا القول الشهير لهيغل : ” إنَّ الشرقي ُّ خلق الإله على شاكلة حاكمه ” وقلنا ” إن الشرقي قد خلق السلطان على شاكلة إلهه ” ؟

ذلك أن تصوّر الإله القويّ , أو الآلهات , مرتبط تاريخيا بتصور قوة مطلقة أو شبه مطلقة بالقياس إلى قوّة الإنسان .

غير أن الانتقال من الآلهات إلى الإله الواحد هو الحدث الأخطر في تاريخ الشرق العربي وتاريخ الشعوب المشابهة . الحدث الذي أنتج فكره المُخلِّص – الذات التي تستمد قوّتها مباشرة من الأوحد هي ذات واحدة وقولها فصل .

إنها الذات التي تقيم مسافة كبيرة بينها وبين الأخر . فالأخر هنا لم يعد ذاتاً أبداً , لأنه لا عَمَل له سوى تنفيذ إرادة المُخلِّص الذي منحه الأحد وظيفة نقل أوامره .

ولقد سارت الثقافة وفق آلية إنتاج , إعادة إنتاج الذات – المركز الأحد الذي يقف على رأس السلطة بكل أشكالها بوصفه محتكراً للقوّة .

ولقد أفضى احتكار القوّة من الذات الوحيدة إلى عدة نتائج مميزة للذات العربية .

ثقافة منح فضلات قوّة لفئة لا تشكل طبقة اجتماعية . بل مجموعة من الأفراد يشكلون فئة دائمة التغير بإرادة مانح هذه الفضلات .

تشكل هذه المجموعة من موظفين مسلحين بالسيف ومثقفين مسلحين بالقلم .

ولكل من حدّي المجموعة وظيفة . فيما ينحصر عمل الموظف المسلّح بالسيف ضرب الجسد , يقوم المثقف المسلح بالقلم بتبرير احتكار القوّة للذّات .

فكل تمرّد على احتكار القوّة مهما كانت درجته ونوعيته يؤدي بأصحابه إلى القمع بكل أشكاله .

غير أن هذين النمطين من الفئة الممنوحة يُمثّلان فضلات ُ قوّة هي عُرضة لسلب هذه الفضلات , وبالتالي ,يظل احتكار القوّة قائما مهما كانت حاجة الذّات – المركز من منح فضلات قوّته لاستمرار احتكار القوّة .

إنها ثقافة الإيمان بالحقائق المطلقة الثاوية في صفحات الكتاب المقدَّس .

فهذه الثقافة تنتج أمراءها دون أن يكون قرار تنصيب هولاء الأمراء من الذّات المركز – السلطة . لأنهم قرّروا بملء إرادتهم أنهم يمتلكون فضلات قوّة الإله نفسه عبر انتسابهم للمُخلِّص الديني وما جاء به .

لم تنتج ثقافة الحقيقة المطلقة ذات الإهاب الديني – مهما جرى فيها من تفرعات – إلا حقائق مطلقة .

فانشطارات الدّين الأصلي , سواء أَتمَّت عبر التأويلات أم عبر الصراعات على السلطة , أم عبر أثر الثقافات المحلية , لا تنتج حقائق نسبية , بل تظل قائمة في حقل المطلق . ولهذا فإن أي انزياح من أحد المنتسبين إليها في حقل ثقافتها وإيديولوجيتها – لا حقائق نسبية .

يتحول حراس الحقيقة المطلقة إلى سلطة كابحة للإبداع والخلق الأدبي والفني والفلسفي , حيث يُشكَّل الأدب والفن والفلسفة ثقافة القطائع لا ثقافة الاستمرار . إذا تحدّد ثقافة الاستمرار علامات الدروب التي يجب السير عليهما , والصوى الواجب معرفتها لقطع المسافات .

وحين يقوم الاتفاق بين الذّات – المركز الوحيدة وحرّاس الحقيقة المطلقة , وحين تمنح الذّات – السلطة فضلات قوّة إضافية لفضلات القوّة التي يمنحها المقدّس لحرّاس الحقيقة المطلقة , تتسع ثقافة الخوف .

لماذا تمنح الذّات – المركز – الديكتاتور – الحاكم الأتوقراطي , فضلات قوّة كائنات لا أحد بقادر على أن يسلبها وعيها بفضلات القوّة التي يمنحها إياها انتسابها للإله ؟

تمنحه هذا لسبب وحيد : أنه يعمل على زيادة قوّته عبر إضافة نمط جديد من القوّة – فضلات قوّة للإله , والحيلولة دون أن تتحوّل فضلات أمراء الحقيقة المطلقة إلى قوة سالبة لقوّته .

ولما كان احتكار القوّة يقود بالضرورة إلى احتكار الحرّية , فإن الثقافة العربية هي ثقافة غياب حقل الحرّية , لأن ذات مركز – وحيد قد ضمنت استمرار احتكار الحرية .

تأسيساً على ذلك ,فإن المجتمع العربي قد خلا من طبقة أحرار , تحمي ذاتاً حرّة تشدّ الطوق عن السائد من ثقافة , وتسعى على التجاوز .

تحدّد حقل المجازفة بوصفها مجازفة فرديّة في غياب طبقة مجازفة , وبالتالي , يصير من السهل على ثقافة الاستمرار المعبّرة عن احتكار القوّة , الانتصار على ذاتٍ معزولة قررّت بملء إرادتها ووحدتها أن تكون قوّية , وحرّة , ومجازفة .

ويسهُل عليها أيضاً الوقوف سدّا أمام انتشار الأنوار الفرديّة . فغياب طبقة الأحرار لا يبقى إلا كتلة القطيع , وثقافة القطيع , التي هي ثقافة الاستمرار والثبات .

 

…. ويغدو شرط وعي العبودية أساساً لوعي الحرّية . فلا يستطيع العبد أن ينتقل إلى الفعل . إلا إذا وعى أنه عبد . لا يستطيع أن يشكل وعيه بالحرّية , إلا بوعي التخلّص من العبودية .

وبالتالي , فإن الوعي يخوض معركته على أكثر من ” كوجيتو ” , كوجيتو : أنا أفكر إذاً أنا كائن , أنا أتمرد إذاً أنا كائن ,أنا حر إذاً أنا كائن , أنا ذات إذاً أنا كائن .وعبر معركة تخوضها كل هذه الأنماط من ” الكوجيتو ” . ينتقل الفيلسوف من حافة الفلسفة إلى أتونها , من الإتكاء على الفيلسوف الغربي بوصفه أريكة مريحة إلى الطيران بأجنحة تتقوّى بالهم ّ الخاص , الهمّ الذي هو وهو فقط – الذات الحرة , حيث يتحول المصير إلى مصير تحدّده انتصارات الفكر , والحرّية , والتمرّد بوصفها مجازفة وتجاوزاً وقطعاً حقيقيّاً .

مقطع من دراسة مقتضبة لـ الدكتور أحمد برقاوي – أستاذ الفلسفة بجامعة دمشق – بعنوان “أكثر من كوجيتو “ منشورة في ” الأخر ” وهي مجلة فصلية تصدره مؤسسة 40 صاحباها ادونيس وحارث يوسف عدد 1 صيف 2011 .