.. بادي ذي بدء,لا بد من الإشارة إلى أن اللاشعور الجمعي مستودع لا شعوري , تغذّيه الغرائز بصورة مباشرة, كغريزة المحافظة على البقاء وغريزة التناسل.إلخ . وعلم اللاشعور الجمعي يمكن, في بعض الشروط . أن يحوّل أنفساً بكاملها . وذلك ما يُرى في بعض الأحلام الكبرى أو في بعض ضروب ” احتياز الشعور ” خلال التحليل النفسي .
يُضاف إلى هذا أن اللاشعور الجمعي يتيح توحيد الشخصية بوساطة الرموز الكبرى .
فاللاشعور الجمعي , . . , ضرب من ” السجل ” فوق الشخصي . إنه مجال لاشعوري ذو أعماق لا يمكن سبرها بصورة عملية . ولنقل إنه الكون اللاشعوري الذي يضم كوكبات لامعة : الأنماط الأولية.
اللاشعور الجمعي لا يصاب بالمرض أبدأً
لماذا لا يتصف اللاشعور الجمعي بأنه مريض أبداً ؟ لأنه , بكل بساطة , غير شخصي . إنه لا ينتمي إلى التجربة الفردية . فالكبت والعقد والكف غير موجودة أبداً في اللاشعور الجمعي , بل هي موجودة في اللاشعور الشخصي .
والحقيقة , ولنشرح فكرة يونغ , أن بالإمكان موازنة اللاشعور الجمعي بموجود عملاق عاش خلال ملايين السنين , وظلّ منذ آلاف السنين دون أن يطرأ عليه أي تغيير . فهو يستطيع أن يحيط بتاريخ الإنسانية كله بنظرة خاطفة . ويتذكر جميع التجارب الإنسانية العميقة , وجميع المخاوف والانفعالات . أنه موجود موجود في كل فرد . ونحن نسبح , بلا شعورنا الشخصي وأنانا , في هذا اللاشعور الجمعي خلال حياة برمتها .
ولنتأمل قليلا من جهة أخرى و ها هو رجل ذو عمر متوسط , أربعين عاما على سبيل المثال. لنأخذ الآن خمسين رجلاً بلغوا الأربعين من عمرهم , ولنضعهم جنبا إلى جنب في الزمان . خمسون رجلا من عمر أربعين عاماً يساوي 2000 عام . هذا العدد الزهيد , هولاء الرجال الخمسون , يعيدونا إلى ما قبل ولادة المسيح . وخلال هذه الفترة المؤلفة من تكرار الخمسين أربعين مرة , ثمة عشرات الألوف من الحروب قد نشبت . وعلى سطح الأرض , ثمة ملايين الملايين من الناس كانوا قد امتزج بعضهم ببعض , وعشرة ملايين الملايين من ” الأناوات ” المختلفة قد اضطربت وعملت وتألمت وأبدعت وماتت . ولكن , ثمة شيء كان مشتركا وغير قابل للفساد في هذه الحركة الهائلة من الجزئيات الإنسانية المتعاقبة : اللاشعور الجمعي , الفاعل , و المرئي , والذي يولّد و انطلاقاً من مصدر واحد , تكاثراً في الرموز والأعمال والانفعالات . . . ولنقتصر على أن نأخذ نمطاً أولياً ثابتاً واحداً : النمط الأولي للمنقذ الذي ولّد رموزا قوية تتغير بحسب العصور : المسيح , الصحون الطائرة , والراعي , والمخلص , وأبطال الغرب الأمريكي , والحَمَل , وهتلر , إلخ .
وهكذا ظلت الحياة العميقة , منذ الأزمنة الإنسانية السحيقة , هي ذاتها على وجه الدقة , بصورة مستقلة عن العرق والدين والذكاء .
فاللاشعور الجمعي يتكّون إذن , عبر الزمن , من صور نفسية مودعة كأنها راسب حي . ولن أتكلم عليه إلا على سبيل الدراسة أو الفضول العملي لو أن ” كوكبات ” اللاشعور الجمعي لا تفيد في إعادة بناء الموجود الإنساني وتجعله , في الوقت نفسه , يتصرف و يفكر بالرغم منه تصرفاً وتفكيراً لا يخضعان إلى أي عقلانية ولا إلى أي إرادة . إنه إذن باهر . . . وعملي في وقت واحد .
ويمكن أن نلخص قائلين إن اللاشعور الجمعي شعور سام . إنه إرث نفسي تشترك فيه الإنسانية كلها , دون تمييز في الثقافة أو العرق . ويتجلّى هذا اللاشعور الجمعي من خلال الأنماط الأولية والرموز . وهكذا يجعلنا اللاشعور الجمعي نمس أعمق أعماق الإنسان , التي لم تتغيّر منذ الأزل .
مقتطف من كتاب انتصارات التحليل النفسي تأليف بيير داكو . ترجمة وجيه أسعد . الطبعة الثانية 1986 . الشركة المتحدة للتوزيع . دمشق . سوريا .