°
, April 18, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

بيان السياسة والثقافة – أدونيس

1.

أن يكون تمزيق العرب وتقليص حضورهم هدفا أساسياً من أهداف التسلط الأجنبي , أمر واضح . غير أن الكلام عليه اليوم لا يصدر عن وعي عميق بأسبابه , وتخطيط ليتغلّب عليه , بقدر ما يتّخذ طابعا

ندْبياً يكاد أن يصبح ظاهرة خطرة من حيث أنه يضمر تسويغ العجز والنكوص والانهزام ويعفي الذات من المسؤولية .

 

2.

لِمَ هذه القدرة ” الخارقة ” لدى الأجنبي , وهذا العجز ” الخارق ” لدى العربي ؟ ذلك هو السؤال الذي يجب أن نبحث عن جوابه . هل يعود ذلك إلى مجرّد التخاذل والتبعيّة عند الحكّام ؟ أم أنه يعود إلى مجرد الرغبة الأجنبية في الهيمنة ؟ أم إلى القضاء والقدر ؟ أم إلى غضب السماء على العربي ورضاها عن الأجنبي ؟

لا يقدر التسلط أن يهيمن إلاّ حيث يجد ما يتيح له الهيمنة , لا يستطيع , مهما كانت قوّته ووسائله , أن يطوّع لمشيئته شعباً يعرف مكانه ومكانته , وأن يستعمره متى أراد وكما يريد . وتكشف الهيمنة الأجنبية على الوجود العربي , خصوصا في القرون الستة الأخيرة , عن مدى ضعفه وتفككّه , لا على مستوى النظام والحكم وحسب , بل أيضاً على المستوى الأعمق : مستوى بنيته وشخصيته . فهناك ” شيء فاسد ” ميت هو الذي يتيح للتسلط الأجنبي أن يمارس قدرته ” الخارقة “ في تفتيت الوجود العربي . ما هو ؟

3.

لن تجد بحثا واحداً في الفكر السياسي العربي الحديث يجيب عن هذا السؤال , انطلاقاً من تحليل الأسس التي تكون الحياة العربي – دينيا , وثقافياً , واجتماعياً وتاريخياً , ويقدم إمكاناً لتأسيس رؤيا جديدة لهذه الحياة . ( لا بد هنا من بعض الاستثناءات : محاولات ماركسية قام بها قلّة فهموا الماركسية ببعدها الثوري , الجذري , الشامل , . ومحاولات أنطون سعاده , الذي لم يدرس , بل لم يقرأ , بل شوّه قبل أن يقرأ . ولعل الموقف من فكره أن يكون المثل الأبرز على البنية الفاشية الثقافية السائدة , على ظلاميتها ) . والأبحاث التي حاولت الإجابة عنها تدور كلها في مدار سحري . من جهة التشخيص : تجريم الآخر , كأن الثورة , التي هي , على الصعيد الاجتماعي – الحضاري , ” علم العلوم “ مجرّد بيان أو نزوة , أو تلويح ببندقية . وكأن الوحدة خاتم سليمان , وليست هي أيضاً علماً , كأن الاشتراكية التي يتطّلب تحقيقها في أدنى حدّ , انقلاباً كاملاً في البنى والمفهومات والقيم والعلاقات , مجرّد كتاب نقرؤه , ثم نعممّه عبر الصحف والإذاعات .

4.

إذا وضعنا الآن جانباً الاستثناء الذي أشرت إليه , فإن الفكر السياسي العربي الحديث يرسم طريقتين للخلاص أو للتحرر : طريقة ” سلفية ” وطريقة ” تقدميّة ” . الأولى تضمن الخلاص بالماضي . والثانية تضمنه بالإيديولوجية . غير أن الممارسة والتجربة دلّتا وتدلاّن على أن الطريقتين لم تكشفا عن ذلك ” الشيء الفاسد ” , ” الميت ” في الوجود العربي , بل إن كلاً منهما تناسته أو موّهته , بما يلائمها وبحسب الحالة . وهي لذلك لا تخاطب الشعب الكائن المشخص , وإنما تخاطب أوهامها , ذلك أنها لا تعرفه معرفة واقعية حقيقية .

5.

اليوم تنمو وتنتشر طريقة الخلاص بالماضي , خصوصا في ساحات الفشل , التي فتحتها ومهّدتها طريقة الخلاص الإيديولوجية . وأبسط ما يتوجّب علينا جميعاً أن نتعرّف إلى النتائج التي تركتها هذه الطريقة الثانية في الربع القرن الأخير وأحبّ التوكيد هنا على أن ما سأوجزه في ما يأتي لا يصدر عن تنكّر أو تعال أو نزعة هجومية عدائية , كما يشاء بعضهم أن يهرفوا , وإنما يصدر عن إيمان كامل بطاقة العرب الإبداعية , وقدرتهم على تجاوز ” عجزهم ” , والمشاركة الخلاّقة في بناء مستقبل زاهر للبشرية . وإذا كنت أكتب ذلك من موقع الإيمان هذا , رغبة في تأسيس الحوار الديموقراطي , داخل الاتجاهات التقدميّة , على الأخصّ , فإنني أكتبه من موقع التوكيد على ضرورة إعادة النظر , بشكل كامل وجذري , في طرق التفكير وطرق العمل التي وجهت نشاط هذه الاتجاهات . وما تزال توجّهه , بعامّة , حتى الآن .

6.

يبدو لي أن الخاصّيتين الأساسيتين اللتين تطبعان الحياة العربية , خصوصاً في مستواها المؤسّسي , بشكليها : الخلاصي السلفي , والخلاصي التقدّمي , هما : إعطاء الأولية للشأن الاقتصادي , وإعطاء الأولية , بالتالي وتبعاً لآلية الهيمنة , للشأن السياسي .

لا أريد هنا أن أنكر أهمية الاقتصاد , وإنما أريد أن أنكر إعطاءه الأولية المطلقة . كذلك لا أدعو إلى التقليل من شأن السياسة , وإنما أرفض ممارستها بشكل تتحوّل فيه إلى غاية بذاتها , أي – عملياً , إلى أداة للهيمنة على كل شيء .

ما الحاصل اليوم ؟

من الناحية الاقتصادية : تراكم كَمّي أعمى . نمو في بؤر خاصّة ومحدودة , لكن دون تنمية عامة – ” روحية ” ومادية . هكذا يزداد الغنى , لكن الفقر لا يقلّ , وإنما يزداد هو أيضاً .

ومن الناحية السياسية : قمعية تزداد وتنعقد تبعاً لضرورات هذا ” النظام ” الاقتصادي . وتهدف الممارسة السياسية هنا إلى تعميم التماثل الإيديولوجي , من جهة , وإلى الاستغلال , بمختلف أنواعه , من جهة ثانية ومن هنا نفهم كيف أن الإعلام العربي, حتى في الثقافة والفنّ , وإنما هو بوسائله وأبعاده , إعلام مؤسَّسي . نفهم , كذلك , كيف أن الأكثرية الساحقة من المثقّفين العرب , موظّفون , بالمعنى الدقيق الخاصّ لهذه الكلمة .

7 .

أخطر ما في السياسة اليوم هو تعميم التماثل , ذلك أنه نضال من أجل القضاء على الاختلاف أو التغاير . الاختلاف , في منطق هذه الممارسة , عائق : إنّه يفتّت , يعرقل ” الوحدة ” وهو لذلك عقبة في وجه ” التقدّم ” , عدا انه يخدم ” العدو ” . ثم أن إلغاء الاختلاف يسهل عملية تسيير الشعب , لا بالنسبة لرجل السياسة وحده , وإنما بالنسبة أيضاً إلى رجل الإقتصاد . فكل اختلاف بحسب هذه النظرة , انفصال وتشويش وعرقلة .لذلك لا بدّ أن يكون الشعب ” جسما ” واحداً , وعقلا واحداً , يجسّده الحكم – الدولة وتفصح عنه أجهزته الإيديولوجية . وبما أن رفض الاختلاف أو التغاير ينبع أساساً من ذهنية فاشية , أو غير ديموقراطية , فإنه يتحوّل في الممارسة إلى مؤسّسة . هكذا يحوّل الإنسان إلى شيء , أو إلى رقم : موجود ما دام داخل المؤسّسة , معدوم خارجها .

8.

ما الشعب المتماثل ؟ إنه ليس أكثر من كتلة صمّاء , ليس أكثر من آلة . يستطيع أن يتلقّن , لكنه لا يستطيع أن يفكّر . يستطيع أن يأخذ لكنه لا يستطيع أن يعطي . ويستطيع أن يقلّد , لكنه يعجز عن الإبداع . وما الثقافة التي تنتج عن سياسة تعميم التماثل ؟ تأملوا , للجواب , في الثقافة التي تنتجها هذه السياسة , خصوصا في نشراتها ومجلاّتها وكتبها . وسوف ترون أنها , في أرقى حالاتها , ليست إلا ركاماً : تنويعات ائتلافية , تلفيقية . وهي فوق ذلك , انطلاقا وهدفاً , ثقافة مغلقة , فاشية : ثقافة لتشييء العربي لا لتحريره .

وأخطر ما في هذه الثقافة , على صعيد التطبيق والعلاقات الاجتماعية , هو بعدها أو انعكاسها الأخلاقي : فهناك فئات بين منتجي هذه الثقافة تحاول لشعورها أنها خضعت في ما مضى , بشكل مطلق , أن تمارس السيادة على غيرها وتتسلّط بشكل مطلق . وهناك فئات تعمل كأنها لا تقدر أن تتجاوز جوعها التاريخي إلاّ بشراهة لها حجم التاريخ . ولعلّ في هذا ما يكشف عن بعض أسباب انحلال القيم والعلاقات , وانحلال الحياة برمّتها .

9.

التوكيد على الائتلاف أو التماثل إنما هو توكيد على النموذج والنموذجية . وسواء كان النموذج استيحاء من الماضي ( العربي ) . أو من الحاضر (الأوربي ) فإن النموذج تجسيد للعقلية المنغلقة : فهو قسري , ووتيرية وعبودية . وهو كامل ومعصوم : وحده يمثّل الصحّة , وكل ما عداه خطأ وفساد .

10.

الجماعات الحيّة هي الجماعات المتغايرة , والإنسان الحيّ هو الذي يخرج من التماثل – النموذج , ويدخل في ممارسة افتتاح الطريق . وفي هذا الافتتاح تبدو إرادة التغيير والتجاوز محرّكاً أول في سبيل إبداع أشكال جديدة للحياة والفكر , ثقافة جديدة , وقيم جديدة , وعلاقات جديدة .

فليس التقدّم نموذجاً , بل طريق .

مقتطف من كتاب أدونيس فاتحة لنهايات القرن .صادر عن دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر الطبعة الثالثة 2010 . دمشق . سوريا .