لا تختلف مصادر السلطة الشمولية عن مصادر السلطة بشكل عام , لكن الشمولية تمتاز بدرجة الاستحواذ على هذه المصادر بآليات استثمارها وبالوظائف التي تستثمر من أجلها . وقد بات معروفاً أن مبدأ
الشمولية هو ” الاحتكار الفعال لمصادر السلطة ومصادر الثروة ومصادر القوة ” , بتعبير خلدون حسن النقيب , وإن السلطة الشمولية في كل مكان تقوم على ثلاث أركان هي : الإرهاب أو القمع ( وأدواته هي الجيش والشرطة و أجهزة المخابرات ) ,والأيديولوجية ( قومية كانت أو دينية أو اشتراكية ) . الإعلام , بجميع وسائله المعروفة .
1- الجيش والشرطة وأجهزة المخابرات المختلفة , وهي من أهم مصادر السلطة الوطنية , ومن أهم أدواتها ,التي عمل حزب البعث على تحويلها إلى مؤسسات تأتمر بأمره وتنفذ سياساته وتخدم مصالحه وأهدافه الخاصة . وهذه ليست قوة السلطة الضاربة فقط . بل لحمة النظام وسداه وقوام بنيته .فإن تسييس القوات العسكرية وقوى الأمن وتحزيبها أدّيا إلى عسكرة السياسة .
2- الثروة الوطنية : الثروة الطبيعية والثروة الزراعية والثروة المائية ومصادر توليد الطاقة وناتج قوة العمل في قطاع الدولة الاقتصادي والمالي , والرسوم والضرائب والمساعدات . . . ومن المعروف أن الاحتكار الفعال لمصادر الثروة وناتج قوة العمل الاجتماعي ارتبط بما سمي ” التحويل الاشتراكي “ ما يعني أن للثروة قوة مضاعفة : مادية وأيديولوجية / سياسية , وان السيطرة على الاقتصاد كانت أساس السيطرة على المجتمع .
3- الأيديولوجية , ( القومية / الاشتراكية ) , التي يستمد منها النظام مشروعيته الرمزية ( المشروعية الثورية ) , والتي تكنه من تحويل القوة , ولا سيما قوة الجيش وأجهزة الأمن , إلى ” حق ” تصير معه إطاعة السلطة والانصياع لإرادتها وتبرير سياستها واجباً أخلاقياً , وتصير معارضتها من ثم خيانة لمصالح ” الجماهير ” وأهداف الأمة .
4- الإعلام .
5- قوة العدد وقوة التنظيم : أي السيطرة التامة على النوادي الرياضية والثقافية والاجتماعية وعلى الجمعيات والنقابات , وإنشاء أطر تنظيمية لاستيعاب جميع فئات المجتمع ( طلائع البعث وشبيبة الثورة واتحاد الطلاب واتحاد العمل واتحاد الفلاحين والاتحاد النسائي واتحاد الكتاب , واتحاد الصحفيين ونقابة الفنانين . . . ) والسيطرة التامة على الأحزاب في إطار ” الجبهة الوطنية التقديمة ” .
6- قوة المعرفة والثقافة والخبرة والمهارة التي تقوم بالوظائف التي تحددها السلطة , وتعمل عمل ” سيور الحركة ” من قمة هرم النظام إلى قاعدته . فقوة السلطة الشمولية واستمرارها مرهونان بقدرتها على الحركة والنشاط ( مؤتمرات وندوات ومهرجانات فنية وخطابية ومسيرات مليونية تضامنية واحتجاجية ومباريات ودورات تدريب وتأهيل . . . ) .
7- القمع والعقوبات الفردية والجماعية وما تشيعه في المجتمع من رهبة وخوف .
8- مؤسسة ” الدين الوضعي “ ( المُفتون والفقهاء والأئمة والخطباء والوعاظ والدعاة والمشائخ , ممن يحرسون الاستبداد ويحرسهم , ويمنحونه مشروعية أخلاقية طوعاً أو جبراً أو تقية ً ) وتنفرد السلطات الشمولية في العالم العربي عن نظيراتها في بلدان أخرى بتحالفها الوثيق مع مؤسسات الدين الوضعي , وسيطرتها عليها , وجعلها قوة موازية لأجهزتها الأيديولوجية ولجهاز القمع .
9- ضعف قوى المعارضة وتشرذمها وانشغالها بمعارك أيديولوجية لا خير فيها ولا فائدة منها .
10-وتتوقف قوة هذه المصادر مجتمعة على درجة خضوع المواطنين وعلى نسبة من يتعاونون منهم مع السلطة المستبدة , من خلال التنظيمات والمؤسسات الشمولية والبنى الموازية لها , فكلما ازدادت نسبة هؤلاء تزداد قوة السلطة , والعكس صحيح .
ومع أن السلطة شديد الحساسية إزاء الأعمال والأفكار التي تهدد قدرتها على القيام بما يحلو لها , فإنها تلجأ لمعاقبة من لا يطيعونها ومن يرفضون التعاون معها أو من يضربون عن العمل . لكن القمع والعقوبات الوحشية لا يؤديان دوماً على استعادة الدرجة اللازمة من الخضوع والتعاون , فكلما ازداد التشديد على مصادر القوة والعمل على حجبها عن السلطة مدة كافية يزداد ارتباك السلطة وعدم استقرارها , ما يؤدي إلى شلل النظام وعجزه عن المبادرة , سوى لجوئه إلى مزيد من القمع . وكلما أمعنت السلطة الشمولية قي استخدام قوتها القمعية تزداد ضعفاً , ويغدو الاستمرار في استعمال القوة غير مضمون النتائج , بل قد يؤدي إلى نتائج عكسية .
فإن أهم العوامل التي تحدد درجة السيطرة أو عدم السيطرة على مصادر القوة ثلاثة : 1- رغبة الفئات الاجتماعية المختلفة في فرض حدود نسبية على تدخل السلطة في تنظيماتها الخاصة وفي الحياة الخاصة لأفرادها . وتتجلى هذه الرغبة في أشكال التضامن دفاعاً عن هذه التنظيمات وعن حقوق أفرادها .2- المقدرة النسبية لمنظمات المجتمع المدني ومؤسساته المستقلة على حجب مصادر القوة عن السلطة , وذلك بالدفاع عن استقلالها وعن حقوق أعضائها . 3- إمكانية المواطنين النسبية في حجب تجاوبهم وتعاونهم مع سلطة الحزب وأجهزة الأمن , في جميع المجالات , ولا سيما في المؤسسات العامة , وعدم امتثالهم إلا لسلطة القانون والحرص على المال العام والملك العام وكشف أي محاولة للتلاعب بهما والاعتداء عليهما .
مصادر قوة المعارضة
1- التنظيمات والمؤسسات المستقلة عن السلطة ( العائلات والمنظمات الدينية والمؤسسات الاجتماعية والثقافية والأندية الرياضية والمؤسسات الاقتصادية والنقابات واتحادات الطلبة والأحزاب السياسية ومنظمات حقوق الإنسان والتجمعات أو المجموعات الأدبية والفنية . . . ) فلهذه المؤسسات أهمية سياسية فائقة , فهي توفر أسساً جماعية مؤسسية يستطيع الناس من خلالها التأثير في توجه المجتمع وفي مقاومة أي محاولة للاعتداء على مصالحها ونشاطاتها وأهدافها . فالأفراد المنعزلون , الذين لا ينتمون إلى مثل هذه التنظيمات , لا يستطيعون التأثير في المجتمع أو السلطة .
فإذا أمكن الاحتفاظ باستقلالية التنظيمات المستقلة واستعادة الاستقلال للمنظمات التي تسيطر عليها السلطة تغدو إمكانية التحدي السياسي أكبر يوماً بعد يوم . وتتحول هذه التنظيمات والمؤسسات إلى جزء مهم لا يستغنى عنه من القاعدة البنيوية لمجتمع حر . إن مراكز القوة هذه توفر لجميع المؤسسات الأخرى الأسس التي تمكنها من الضغط على السلطة أو تحديها في المستقبل .
2- التفكير الاستراتيجي والتخطيط الاستراتيجي لاستثمار مصادر القوة المتاحة والممكنة .
3- وسائل النشر والإعلام .
4- وسائل الاتصال .
5- دعم السوريين المغتربين والمبعدين .
6- تأييد القوى الديمقراطية الخارجية ومساعداتها .
إذا كان نجاح السلطة يقاس بدرجة سيطرتها على مؤسسات المجتمع وتنظيماته , التي يفترض أنها مؤسسات ومنظمات غير حكومية , فإن نجاح القوى الديموقراطية يقاس بقدرتها على إعادة استقلال هذه المؤسسات وإقامة منظمات ومؤسسات جديدة أو إقامة مؤسسات بديلة من تلك التي تسيطر عليها السلطة حيث يكون ذلك ممكناً . فإن الطابع المؤسسي للمعارضة الديمقراطية ذو أهمية استثنائية , سواء لتحدي السلطة سياسياً أو لإرساء أسس مجتمع ديمقراطي جديد .
نقاط ضعف السلطة الشمولية
1- إمكانية الحد من تعاون المواطنين ومؤسسات المجتمع المدني معها , لأن هذا التعاون شرط ضروري لتشغيل النظام .
2- اضطرارها إلى تبنّي سياسات جديدة وآليات عمل جديدة , وفقاً لتغير الظروف المحلية والإقليمية والدولية , وعدم قدرتها على ذلك , بحكم افتقارها إلى المرونة اللازمة , لا بسبب التيبس البيروقراطي وأحادية النظام الأوامري فقط , بل بحكم آليات اشتغال النظام وعدم قدرته على التكيف مع المستجدات , فأي تغيير بآليات العمل وأساليب استثمار مصادر القوة يؤدي إلى اختلال عمل النظام . إن قوة النظام الشمولي تكمن في استمراره في الحركة , فحين تضعف قدرته على الحركة أو تصير الحركة روتينية وبلا جدوى أو قليلة الفائدة يدخل النظام في حالة من الركود تشبه السبات .
3- صعوبة قيام أشخاص السلطة الموزعين على مهام معينة بمهام ناتجة من احتياجات جديدة , وصعوبة تكييف مصادر السلطة مع هذه المهمات الجديدة , لأن مصالح هؤلاء الأشخاص وامتيازاهم صارت مرتبطة بالمهام التي أوكلت إليهم , وبمواقعهم في الجهاز أو في هرم الاستبداد .
4- إمكانية أن لا يوفر الأتباع معلومات ومعطيات كافية تحتاج إليها السلطة لاتخاذ قراراتها , خشية إغضاب سادتهم .
5- يمكن للأيديولوجية أن تتآكل ويمكن أن تتزعزع أساطير النظام ورموزه .
6- تمسك النظام بنظرته الأيديولوجية يبعده دوماً عن أرض الواقع ويجعله غافلاً عن تغير الأوضاع الواقعية .
7- التنافس والمشاحنات والنزاعات داخل مؤسسات السلطة والمؤسسات التي تسيطر عليها .
8- تدهور فاعلية البيروقراطية وأهليتها بسبب الإفراط في القوانين والإجراءات وعدم تنفيذها , جرّاء الفساد والتسيب والإهمال واللامبالاة , فتصير سياسات النظام وإدارته عديمة الجدوى .
9- قلق الطلاب والمثقفين والمفكرين بسبب القيود العقائدية وما يتعرضون له من ضغوط .
10-تنامي عملية الإفقار والتهميش تجعل عامة الشعب أكثر تشككاً في السلطة وأكثر نقمة عليها مع مرور الوقت , فتزداد حدة الخلافات الدينية والمذهبية والطبقية والثقافية وآثارها وتتمفصل مع الأوضاع الإقليمية والدولية .
11-غالباً ما يكون هرم السلطة مزعزعاً , وقد يكون مزعزعاً جداً أحياناً , فالأشخاص الذين يكونون في هذا الهرم لا يظلون في مراكزهم دوماً بل يصعدون أو يهبطون أو يُزالون كلياً ليحل محلهم آخرون .
12-تزايد الأخطاء في الحكم والسياسة والإدارة و العمل وتراكمها , وكثرة القرارات التي تتخذها القلة في مركز القرار وعدم اتساقها .
13-القوانين التي تسن والقرارات التي تتخذ على قياس مصالح خاصة معينة وأشخاص معينين .
بوسع المعارضة الديمقراطية أن تخلق أزمة نظام من خلال معرفتها بنقاط ضعفه الضمنية ” كعب أخيل ” , وبوسعها أن تعمل على مفاقمة أزمته وصولاً إلى إضعافه وتفكيكه .إذ أنّ من غير المنطقي تحدي السلطة في نقاط قوتها .
نقاط ضعف المعارضة الديموقراطية
إذا كانت معرفة مواطن قوة السلطة ومواطن ضعفها ضرورية لإنتاج تصور استراتيجي للانتقال السلمي إلى الديموقراطية , فإن معرفة مواطن قوة المعارضة ومواطن ضعفها لا تقل أهمية , لا سيما إذا كان ضعف المعارضة هو أهم عوامل قوة السلطة .ونعتقد أن أبرز مواطن ضعف المعارضة هي الآتية :
1- عزلتها المزمنة عن المجتمع . لا بسبب القمع الذي تعرضت له ومحاولات السلطة تجفيف منابعها فحسب , بل بسبب غلبة الطابع الأيديولوجي على أفكارها وممارساتها , ولا سيما أنها تتقاطع أيديولوجية السلطة . وبسبب اضطرارها إلى السرية ثم ركونها إليها وعدم القدرة على تخطي التصورات والقيم والعادات , التي أفرزتها , وأخطرها التقوقع على الذات والتوجس من الآخر , فضلاً عن الراسخ بصوابية أفكارها ومبادئها وسلامة ممارساتها .
2- تشرذمها وتوالي انقساماتها الداخلية , لعجزها عن استيعاب الآراء والأفكار الجديدة , أي لعجزها عن قبول المعارضة والاختلاف داخل صفوفها , وفي ما بينها .
3- ضعف الثقة المتبادلة بين أطرافها , بحكم انغلاقها الأيديولوجي المزمن .
4- افتقارها إلى رؤية واضحة وبرنامج (سياسي ) محدد للتغيير الوطني الديموقراطي .
5- تبس خطابها السياسي وتقاطعه مع خطاب السلطة في كثير من النقاط .
6- ضعف تأثيرها في الأجيال الشابة , وعدم قدرتها على تجديد حياتها الداخلية .
7- ضعف إمكاناتها البشرية والمادية .
8- ضعف علاقاتها بالأوساط الثقافية المؤثرة في السلطة والمجتمع , ( الكتّاب والصحافيون والفنانون . . .) وتوجسها من الثقافة بوجه عام ومن الفكر الحر بوجه خاص , وتطيّرها من النقد . وعجزها عن استثمار ما لديها من إمكانات فركية وثقافية , جرّاء اقتناعها بأولوية السياسة وسيطرتها على الثقافة .
9- موقف بعض أحزابها التقليدي المتحجر من حرية المرأة وحقوقها المشروعة ومساواتها بالرجل حرمها من ميزات مشاركة المرأة في الحياة السياسية , بقدر ما حرم المرأة من مناصرين لحقوقها , وينطبق ذلك على موقف جميع أحزابها من حقوق الإنسان والمواطن , الذي لاختلف , على الأغلب , من موقف السلطة الشمولية كما ينطبق على موقفها من الحقوق المشروعة للجماعات الإثنية , كالكورد والآشوريين وغيرهم , ومن مسألة الجماعات الإسلامية والجماعات الإسلامية غير السنية .
10-اختلاف أولويات كل حزب من أحزابها عن أولويات الأخرى , وتقديمها القضايا الأممية أو الإسلامية أو القومية العربية على القضايا الوطنية , وجعل الأولى معيار الأخيرة لا العكس .
دراسة مقتطفة من كتاب جاد الكريم الجباعي ( طريق إلى الديموقراطية ) صادر عن دار الريّس للكتب والنشر . الطبعة الأولى شباط 2010 .