المختار , مختار ضيعتنا هذه الليلة كأم العروس مشغول جداً , ومعه أسرته وتابعوه , إنهم في حركة دائمة , إنها ليلة ربما سيكون لها أبلغ الأثر في ضيعتنا الحديث .
مختارنا يبدو هذه الليلة أنيقاً كغير عادته , ثياب رسمية متناسقة الألوان وفي مقدمتها ربطة عنق أنيقة , وحذاء إفرنجي ذو بريق أخّاذ , كل شيء هذه الليلة يسير بدقة لا متناهية , لكل دقيقة ثمنها ولكل حركة حسابها ولكل شيء مدلوله , غرفة الضيافة مكسوة بحلّة جديدة , كل شيء فيها جديد يبرق ويلمع , تنيرها الأضواء الزاهية الملونة بكل الألوان المرئية وغير المرئية كأنها عروس في ليلتها يسيطر على محياها مسحة من الجمال الخجول تستعد لتستقبل حدثاً فاصلاً في حياتها .
المختار , خارجٌ , داخل ٌ , جالسٌ , لا يكل ولا يمل , يفرك يديه تارةً ثم يبحلق في ساعته الذهبية تارة أخرى , يأمر فلاناً أن يفعل كذا , ويمنع فلاناً من فعل كذا .
ساعة الصفر في ضيعتنا لهذه الليلة هي السابعة , والآن السابعة إلا خمس دقائق .
الجلبة التي كانت سائدة منذ ساعات تلاشت أو بالكاد , خيّم سكون تنتابه بعض الهمسات في بعض زوايا الغرفة السداسية .
في السابعة إلا دقيقة دخل سربٌ من الفتيات الشقراوات , من يراهنَّ يظنهنَّ توائم في حركاتهن ومظهرهن , وقفت كل واحدة منهن وراء كرسي حول الطاولة المستديرة التي تقف على رِجلٍ واحدةٍ ضخمةٍ تحملها في منتصفها .
الأبواب الستة لغرفة الضيافة فُتحت في لحظةٍ واحدةٍ , فوق كل ّ باب لوحة صغيرة ملصقة مكتوب عليها شيءٌ عرفته فيما بعد .
دخل أبو موسى , دخل أبو محمود , أبو جورج . . . . وأخيراً دخل أبو جهاد . تبادلوا السلام والتحية , وبعض كلمات المجاملة كلُّ بطريقته وذلك بمساعدة المختار .
جلس كل واحد منهم على الكرسي المخصص له بمساعدة شقراء .
الشقراوات الست يُظهرن من أجسامهن أكثر مما يخفين , رغم أن ضيعتنا ما تزال متمسكة ببعض العادات والتقاليد الأصيلة , ورغم برودة الجو أيضاً في تلك الليلة .
بعد أن جال المختار بنظره على الشقراوات وبلع ريقه , نهض من على كرسيه ورفع كأسه تحية لضيوفه الأفاضل , ثم جلس يلهث ويجمَّع أنفاسه المتبقية ويمسح شاربيه غير النابتين .
المشكلة ليست وليدة يوم وليلة ,إنها تمتد في جذورها إلى ما ينوف على الخمسين عاماً , عندما فقد أبو موسى كل ما يملك في ضيعته بسببٍ أو بأخر ثم جاء إلى ضيعتنا واستولى على ارض ” أبي جهاد ” التي لا يملك سواها وطرده منها , وعندما ثبت أقدامه فيها أخذ أبو موسى يزلق بين الفينة والأخرى حجر المساحة بكل الاتجاهات واقتطع جزءاً من أرض ” أبي محمد ” وجزءاً آخر من أرض أبي جورج وكذلك فعل مع . .
مختارنا له باع طويل بالمساع الحميدة والدليل على ذلك انه لم يذكر شيئاً من هذا وإنما قال :
يا جماعة نحن أهل قبل أن نكون أبناء ضيعة واحدة , وكما يقولون خير الكلام ما قل ودل .
يا إخواني أبو موسى ” صار منا وفينا “ ومن عاشر القوم أربعين يوماً صار منهم .
الجميع صامتون , لكن قسمات وجوههم ونظرات عيونهم ترسل مئات إشارات الدهشة والاستغراب , لكن لماذا ؟!
لا أعرف ربما نجد التفسير في الحركات الايمائية التي تنفذها الشقراوات بجانب الطاولة , المختار ما زال يقدم إغراءاته أبو موسى والحمد لله خيره وافر . الكل يعرف كم عنده من الفلوس وكم له من النفوذ .
غمز أبو موسى بعينه , سكت المختار ليفسح المجال للأطراف الأخرى للحديث .
أبو جهاد قال بعد أن مسح حول فمه الزبد المتكون بفعل تأثير ما :
أنا أريد أرضي كاملة فهي أرض جدي قبل أبي ولا أريد بديلاً عنها ( وغير هيك ما بيمشي )
أبو محمد قال : ( بدي قطعة ارض وبس ) وكذلك قال أبو جورج . . و . .
الكل مجمع على أنه لا مصالحة مع أبو موسى ولا كلام ولا سلام حتى يعيد ما أخذ منهم . ساد صمت مرعب تتخلله بعض الهمسات غير معروف مصدرها .
وترطيباً للجو يرفع المختار كأسه بصحة الجميع . ترتسم ملامح ابتسامات مصطنعة على الوجوه .
يخرج المختار عن صمته ويتابع حديثه قائلاً : يا سادة هذه فرصتنا الأخيرة حتى نتخلص من المشاكل وإذا لم تتم المصالحة فكلنا خاسرون .
عند هذه الكلمة الأخيرة احتضنت عينا أبي موسى الحاضرين تستنبط ما فعلته في نفوسهم , وبعد لحظة أخرج من جيبه علبة سجائر وأشعل سيجارة وأخذ ينفث دخانها في سماء الطاولة المستديرة , جميع الحاضرين ما عدا المختار والشقراوات أخذوا شهيقاً عميقاً , تنشّقوا شيئاً من سماء هذه الطاولة .
بعض الأصوات ما زالت تُسمع لكن من أين ؟!
الغرفة مؤمّنة ولا شيء يثير الخوف , كل شيء محسوب حسابه . .
وانفضّ الاجتماع عن لا شيءْ .
في أزقة ضيعتنا وفي ساحتها العامة الواسعة , ثمة تجمعات لأهالي الضيعة يلطمون ويذرفون الدموع , إنها مناحة ( . . .) تتناجى كل مجموعة فيما بينها , وبعض ما سُمعَ قول عجوز له خبرته وحنكته في هذا الزمن المرّ:
( إنّه كان تحت الطاولة المستديرة أشباحٌ يتباحثون حول مشاكل مشابهة لمشاكل ضيعتنا وقد توصَّلوا إلى نتيجةٍ ما , وستصبح هذه النتيجة حقيقة واقعة في قابل الأيام ) .
قصة قصيرة .من مجموعة قصصية بعنوان ( لماذا يبكي الحمار . .؟! ) لـ المحامي وفيق ناصر .