بخلاف عدد كبير من المفكرين العرب، ينشغل المفكر يوسف سلامة بأبحاثه وعمله كمفكر وأكاديمي، بعيدا عن السّجالات الإعلامية التي قد تأخذ طابعا دعائيا، مفضلا الخوض في حواراته مع تلاميذه و يقول إنه سيضع قريبا كتابا حولها، مشيرا إلى أنها لا تنفصل عن سياقه الفكري وبحثه طيلة عقود والذي أثمر ثلاثة مؤلفات فكرية بدءا بمنطق هوسرل ومرورا بسَلب هيغل وانتهاء بطوباوية الإسلام.
>دعني بداية أتساءل: ما سبب قلة نتاجك الفكري؟ ومن ثم ما سبب ابتعادك- بخلاف أغلب المفكرين- عن المقابلات الإعلامية بشكل عام؟ وهل أنت في طور تقييم تجربتك الفكرية؟
> بالنسبة لنتاجي الفكري، أنا أحاول أن أركز على الإنتاج الفلسفي ولدي كتابان كبيران استغرقا مني عمرا، الأول عن “المنطق عند إدموند هوسرل” والثاني عن “السلب واليوتوبيا” وهو دراسة في فكر هيغل وماركيوس، إضافة إلى كتاب ثالث عن “الإسلام والتفكير الطوباوي”، والآن أنا أحضر لكتاب يضم خلاصة تجربتي الفلسفية آمل أن يصدر قريبا.
أما فيما يتعلق بابتعادي عن المقابلات والأضواء، فربما يعود السبب إلى أني صريح جدا، وقد لا تعجب صراحتي بعض المنابر الإعلامية فتنصرف عني، ولكني لست منزعجا من ذلك.
حول العلمانية وعلاقتها بالحرية والديمقراطية
>دعني أنطلق من فهمك للعلمانية وموقع الإنسان فيها، حيث أنك في محاضرة ألقيتها مؤخرا تميل إلى تقسيم العلمانية إلى أربعة أركان، يتلخص الأول بكيفية النظر إلى الإنسان وبقية الظواهر على أنها شؤون دينية، في حين يرتكز الثاني على العقلانية التي لا تزدهر إلا بوجود الحرية (الركن الثالث)، ومن ثم الديمقراطية كركن رابع، والسؤال: ما الذي دعاك إلى اعتماد هذا التقسيم، وما هي المعايير التي اعتمدتها في ذلك؟ وما علاقة هذه المفاهيم التي ذكرتها ببعضها؟ ومن ثم كيف ستفضي في النهاية إلى إنتاج مفهوم العلمانية؟
>بداية أنا أعتقد أن الإنسان حرية وبهذا المعنى فإن الوجود حرية، لأنه لا معنى للوجود معزولا عن الوجود الإنساني، كما أن الحرية هي نقطة الابتداء في كل شيء، وربما لا يكون هناك تبرير واضح لماذا يكون الإنسان حرا، ولكن برأيي فإن الحرية هي الشرط الضروري ليكون الإنسان إنسانا، فما لم تكن هناك حرية فلن يكون هناك إنسان ولن يكون هناك وجود، لأن الوجود كله هو من وضع الحرية.
ومن هنا فإن للحرية هذه الأولوية المنطقية والوجودية على كل ما عداها، وهذه الحرية بوصفها جوهر الفاعلية الإنسانية، أو جوهر الوجود الإنساني الذي يُعبّر عن نفسه في الفعل، فنحن لا نستطيع أن نتعرف على هذه الحرية خارج الفعل، ومن هنا فهذا- فعل الحرية- يجب أن يتعين في نمط اجتماعي وفي وجود اجتماعي محدد، هذا النمط الاجتماعي هو الوجود السياسي، إن جاز التعبير.
ولئن قيل منذ القدم إن الإنسان “حيوان سياسي” فهذا التعريف ليس خاطئا إلا بعد أن نعدّله قليلا، ونقول إن الإنسان “كائن سياسي” لأنه حر أولا وقبل كل شيء، والإنسان من حيث هو كائن سياسي لا يستطيع أن يعبّر عن هذه الكينونة الأصلية لوجوده التي هي الحرية إلا في مجتمع سياسي، والمجتمع السياسي هنا لا معنى له إلا من خلال بعدين: الأول هو الديمقراطية، فالوجود الحر لا يمكن أن يتعين في الحياة الاجتماعية إلا على هيئة نظام سياسي، وهذا النظام السياسي الذي تتعين الحرية فيه لا يمكن أن يكون إلا الديمقراطية.
>في هذا السياق دعنا نحدد مفهوم الديمقراطية، في ظل الفهم الملتبس لها عند البعض.
>ثمة تصورات كثيرة عن الديمقراطية، ولكن مهما تباعدت هذه التصورات فستبقى تعني أن الديمقراطية هي “حكم الإنسان للإنسان انطلاقا من الإنسان”، وبهذا المعنى لا يمكن للديمقراطية أن تعني “استبداد الإنسان بالإنسان بواسطة الإنسان”، فإذا الديمقراطية تعني شيئا محددا هنا هو “قدرة الجميع على أن يُوجِدوا على نحو معين تعبيرا عن كينونتهم الحرة”، وبهذا المعنى يمكن للديمقراطية أن تشير إلى نوع من توزيع القوة المتساوي، والقوة نقصد بها هنا الفاعلية السياسية، فالديمقراطية لكي تكون ديمقراطية حقيقية، يجب أن تنطلق من محاولة التوزيع المتساوي للقوة، وعندما يكوّن المجتمع لنفسه هذا التصوّر عن الديمقراطية، عندئذ يكون قد وصل إلى العقلانية.
وفي هذه الحالة يكون العقل الإنساني في خدمة الحرية وفي خدمة الإرادة الإنسانية، لكي يختار أنسب الطرق التي من شأنها أن تجعل الديمقراطية ممكنة على المستوى الفردي والجماعي، أو أن العقل هو الذي يكتشف الحلول لإيجاد نوع من التواؤم بين فردية الفرد وجماعية الحياة الاجتماعية، والعقل هو أداتنا في حل هذه المشكلات، فلا يكاد يكون العقل واضعا لشيء جديد بقدر ما يكون مسؤولا عن حل مشكلات تثيرها الحرية من حيث هي كينونة الإنسان، وتخلقها الديمقراطية من حيث هي ممارسة اجتماعية راقية تعبر عن كينونة الإنسان الحر، بوصفه يحيى في الديمقراطية وفي قلبها.
من هنا يصبح المجتمع بُعدا رابعا ضروريا لا بوصفه غاية بحد ذاته، بل بوصفه محلا يُفترض أن يكون مناسبا يسمح للإنسان بالتعبير عن نفسه، أو بتعيين حريته في نظام سياسي يقوم العقل بصياغة صِيغه أو بنوده الأساسية، الأمر الذي يسمح بتكوين مجتمع قادر على أن يستجيب لمتطلبات الحرية ولمقتضيات الديمقراطية منها.هذه الشروط كلها تشكّل ما أسميه بالعلمانية.
>بهذا المعنى، أنت ترفض حصر مفهوم العلمانية بمسألة فصل الدين عن الدولة.
>أنا لا أرفض مقولة أن العلمانية تشترط فصل الدين عن الدولة، ولكني أعتقد أن الأمر يتعدى ذلك إلى أبعاد أخرى، فإذا فصلنا الدين عن الدولة دون أن يكون لدينا تصوّر عن الإنسان، فعندئذ لن يكون بوسعنا أن نقدم شيئا مهما للإنسانية، فالحرية الإنسانية مترامية الأطراف، بمعنى أن الحرية الإنسانية لا تخلق نظاما سياسيا في الديمقراطية فقط، وإنما تخلق قيما روحية في الدين.وهذا بعد آخر للكينونة الإنسانية.
طبعا أنا لا أحصر الكينونة الإنسانية بهذين البعدين ولكن ما دمنا نتحدث بصدد العلمانية، فلا بد من أن ننتبه إلى هذين البعدين في وقت واحد، نعم الحرية فاعلية تضع وتنتج في اتجاهات مختلفة، فإذا أبرزنا هنا هذين الجانبين (السياسي والروحي) فهذا لأن حديثنا عن العلمانية يفترض ذلك.
وإذا كان الإنسان يُنتج قِيما سياسية والعقل هو الذي يحل مشكلاتها ويصوغها ويمنحها التركيبات المناسبة للمجتمعات في أوقاتها المناسبة، فإن الحياة الدينية تمتلك نوعا من الثبات أو الاستقرار لا يمكن للسياسة أن تمتلكه في حال من الأحوال، فالسياسة نتاج لحوار المصالح وتصارعها بين البشر، أما الدين فهو تعبير عن القيم الروحية التي تستهدف الوصول بالإنسان إلى نوع من الرضى والسكينة الروحية.
أي أن الدين يبحث عن الخلاص، وهذا الخلاص بطبيعته خلاص فردي شخصي يستطيع كل مؤمن أن يحققه، وهو على النحو الذي يعتقد أن وجدانه أو ضميره يرضى عنه، أما في الحياة السياسية فليست المقاييس شخصية ولا فردية ولا مجال هناك لاستخدام مقولات الخلاص، في الحياة السياسية هناك صراع ومصالح.
ومن ثم فلا ينبغي أن نخلط مجالين مختلفين كل الاختلاف، مجال السياسة هو مجال الدنيا (صراع الأفراد والمصالح)، أما المجال الروحي فهو مجال شخصي فردي وقيمي وتربوي، واحتراما للدين ولمقتضياته الروحية، احتراما لهذه القيم بمجموعها التي تنطوي على قدر كبير من الثبات، فمن الخير للدين ألا يدخل في السياسة ومن الخير للسياسة أن لا تدخل في شؤون الدين، ما تدخل أحدهما في الآخر إلا أفسده ،فيمكن للفقيه أن يكون فقيها في الإطار الروحي، خير له من أن يتحول إلى فقيه سلطان عندما يمتزج الدين بالسياسة، وخير للسياسي ألا يتدخل في شؤون الدين لأن هذا الحقل بعيد عنه ولا يمت له بصلة ولا سبب.
إذا الحرية من حيث المبدأ تضع حقلين متمايزين، حقلا روحي مستقر نسبيا وهو الحقل الديني أو حقل القيم الروحية، وحقلا آخر مختلفا كل الاختلاف هو الحقل السياسي الذي تقع في إطاره جملة النشاطات الدنيوية وجملة الصراعات البشرية وجملة الأهداف التي تتطلع إليها الجماعات الصغيرة دون الجماعات الكبيرة، وعالم التحالفات والصراعات والمصالح الذي لا يكف عن التغير ولا يكف عن التبدل.
إذا العلمانية في النهاية تقتضي وجود هذين الحقلين وما لم نستطع أن نكتشف أو نعزل هذين الحقلين عن بعضهما العزل المناسب فمن الصعب علينا كثيرا أن نفكر بالتقدم بصورة جدية.
>لو بقينا في إطار العلمانية، ربما يتساءل البعض لماذا أخفق المثقفون العلمانيون العرب حتى الآن في صياغة نموذج علماني خاص بالعالم العربي، في ظل وجود عدة نماذج علمانية في العالم؟
> أعتقد أن مشكلة العلمانية ليست مشكلة ثقافية، وطرْحها على أنها كذلك يزيّفها ويجعلها مشكلة وهمية لا أساس لها، المشكلة في العالم العربي هي مشكلة سياسية وليست مشكلة ثقافة، هب أننا وضعنا أحسن النماذج من الذي سيطبقها أو سيقبلها في مجتمع غير ديمقراطي؟ إنه السياسي، فالسياسي العربي سياسي مستبد بامتياز، ولا يقبل رأيا ولا مشاركة ولا يقبل نصيحة أحد، فكيف به أن يقبل الديمقراطية، فمن هنا إذا ليست المسألة مسألة نموذج ثقافي علماني، المسألة أن المجتمع العربي برمته مازال في كبوة وغير قادر على النهوض، وهو يحيا في حالة ركود من ألف عام، هذا الركود يجعله يعيد إنتاج التخلف ويعيد إنتاج الركود، ومن ثم يظل مشدودا إلى الماضي.
يتساءلون لماذا هناك أصولية؟ لأنه ليس هناك حاضر ببساطة، المجتمع العربي ليس له حاضر هو يعيش في حاضر زائف، حاضر المجتمع العربي هو ماضيه ومن هنا تأتي المشكلة الكبيرة، لذلك هذا الركود و”الاستنقاع” هو الذي يحتاج إلى كسر، ولسنا بحاجة إلى مجرد نموذج ثقافي علماني حتى يهتدي به المجتمع أو الساسة العرب، من هنا تمسّ الحاجة إلى كسر هذا الركود والخروج منه، وكسر دائرة الماضي الذي يهيمن على الحاضر بقوة شديدة.
إشكالية وجود فلاسفة عرب
>إذا سلمنا بقول بعض المفكرين العرب- ومنهم جورج طرابيشي- بعدم وجود فلاسفة عرب، برأيك على من تقع مهمة الخروج من الواقع المتردي الذي يعيشه المجتمع العربي؟
>دعني أوضح أمرا، ربما أختلف مع البعض حول تعريف الفيلسوف، لأني أرى أن الفيلسوف ليس بالضرورة أن يكتب الفلسفة على النسق الألماني أو الفرنسي، بمعنى أنه يمكن أن يكون هناك إنتاج فلسفي مختلف ويُكتب بطريقة مختلفة، لأن الفلسفة بنت عصرها، فالفلاسفة الألمان والفرنسيون لم يكتبوا على النسق اليوناني، كما أن الفلاسفة المحدثون لم يكتبوا على نسق الفلسفة الألمانية أو الفرنسية، ولا أتوقع من متفلسف عربي أن يكتب إلا من إبداعه، يجب أن يبدع الشكل أو المضمون، فالفلسفة بمعنى ما من المعاني تدخل في إطار الإنتاج الأدبي، وبالتالي هناك شكل ومضمون، فالشكل أو الصورة (صورة الفلسفة) لا تنفك عن مضمونها، والمضمون لا ينفك عن صورته، ومن هنا فنحن محتاجون إلى أن نبدع أسلوبنا وتصوراتنا الخاصة بعملنا الفلسفي.
ثم إني لا أقول إنه لا يوجد هناك فيلسوف عربي، ولكني أقول إن بعض ما يُكتب الآن يُشكل مقدمة ضرورية لصياغة فلسفة في وقت ما، ومن الظلم أن ننظر إلى ما نكتبه على أنه لا شيء، هو تأملات في العصر يحاول كثير منها أن يتخطى الإيديولوجيا، أنا أعلم أن الذين يُنكرون وجود فلسفة في الوقت الحاضر في العالم العربي، يعتقدون أن كل ما يكتب هو إيديولوجيا، وأنا في رأيي ليس كل ما يُكتب هو إيديولوجيا، هناك جانب ما مما يُكتب يحاول أن يفكر فلسفيا، أي يحاول أن يبحث في الحقيقة بما هي حقيقة دون أن يكون مقتصرا على الإيديولوجيا، بهذا المعنى برأيي أن بعض ما يُكتب يشكل مقدمة ضرورية لوجود الفيلسوف الذي يُفكر به الصديق جورج طرابيشي.
>إذا ما مهمة الفيلسوف العربي في ظل غياب شرط الحرية- كما تشير في عدد من مقالاتك؟
>على اعتبار أني أرى أن هناك جهدا فلسفيا، وأعتقد أننا نتفلسف، فالفلسفة تحتاج أولا وقبل كل شيء إلى التحرر الباطني، بمعنى أن يخلي الفيلسوف عقله من كل قيد أو افتراض مسبق، لأن الفلسفة تفترض البحث عن الحقيقة، فإذا كان الذهن مملوء بالحقائق سلفا فلا يمكن لهذا الذهن أن يتفلسف، فإذا حقق الفيلسوف هذا التحرر الباطني، يمكن له أن ينهض بمهمات أساسية لا يستطيع أن ينهض بها غيره في مجتمع اللاديمقراطية، المهمة الأولى هي الدفاع عن الحرية، وهي المهمة الأهم، بمعنى أن يطالب الفيلسوف بتحقيق الحرية في العالم الفعلي للبشر، وليس على المستوى الذهني فقط الذي هو متحقق له على الأقل.
فالفيلسوف مهمته أن يقاتل من أجل تحرير البشر (تحرير أذهانهم) من الخرافات والأساطير التي تشكّلت عبر مئات السنين وأصبحت عبارة عن عقبات بين الإنسان ونفسه، حيث أصبح الإنسان العربي لا يستطيع أن يصل إلى ذاته الحقيقية لأن مجموعة هائلة من الأساطير والخرافات تحول بينه وبين ذاته وتحاصره من كل اتجاه.
فإذا الدعوة إلى الحرية هي المهمة الأولى، الدعوة إلى الديمقراطية والدفاع عنها هي المهمة الثانية، والدعوة إلى العقلانية وأن يكون كل شيء محكوما بالعقل هي المهمة الثالثة، هذه المهمات عاجلة لا يمكن للفيلسوف أن يتغاضى عنها، وأعتقد أن من يتابع ما نكتبه يشعر بأننا لا نترك منبرا إلا ونحاول أن ننتفع به ونوظّفه لتحقيق هذه المهمات الثلاث (الحرية -الديمقراطية -العقلانية)، وإذا قال أحد ما: هذه أمور إيديولوجيا فنقول له: هي إيديولوجيا جزئية، ولكن حقيقة الإنسان التي يبحث عنها الفيلسوف قائمة في هذا التحرر الباطني والفعلي، وفي هذه الديمقراطية وإطلاق حرية العقل، بحيث لا يكون ثمة حكم ولا مرجع يعلو على سلطة العقل، هذه هي المهمات العاجلة، لكن ربما تكون هناك مهمات فلسفية تحتاج إلى حديث آخر.
حول صراع الحضارات في عالم ما بعد 11 أيلول
>دعني أنتقل للحديث عن إشكالية أخرى تبدو أكثر تعقيدا وتنطوي حول مصطلح صراع الحضارات الذي بشّر به صموئيل هنتنغتون، وأنت لديك مقال في هذا الشأن تفند فيه البنية المتناقضة للخطابين العربي والأمريكي في عالم ما بعد 11 أيلول.
>حقيقة هذه الأفكار التي ذكرتها كتبتها منذ سنوات، وقد حدث تطور في فكري من هذه الناحية، أنا أعتقد أنه لا يوجد صراع حضارات بالمعنى الدقيق للكلمة وإنما هناك صراع مصالح، والحضارات أو الثقافات يمكن أن تستخدم في هذه الحالة كإيديولوجيات مُغلّفة لهذا الصراع على المصالح، يعني لا يهمّ الثقافة الغربية أن تكون الصين بوذية أو كنفشيوسية أو ماركسية أو أن يكون العالم العربي إسلاميا، بل يهمّ كل طرف من هذه الأطراف أن يصل إلى مصالحه مع الطرف الآخر، مثلا الآن روسيا لم تعد شيوعية، وبالتالي هي الآن من الناحية الثقافية أقرب إلى أوروبا، وإلى الثقافة الغربية، ومع ذلك فأوروبا تلجأ للاعتراف باستقلال كوسوفو على اعتبار أن هذا يضعف النفوذ الروسي ويقتطع جزءا من صربيا التي هي حليف لروسيا، كما أن روسيا التي تفكر في مثلها الأعلى الأوروبي لا يمكن أن تُقبل في الاتحاد الأوروبي بحال من الأحوال، لماذا؟ لأن المصالح مختلفة.
إذا ،لم يعد هناك صراع إيديولوجي بين أوروبا وروسيا، ولكن صراع المصالح مازال قائما، حتى بين روسيا والولايات المتحدة لا توجد فروق إيديولوجية، ومع ذلك فإن الولايات المتحدة تحاول أن تنشر الدرع الصاروخية في تشيكيا وبولونيا، فالصراع هنا سياسي واقتصادي، صراع على النفوذ والقوة وعلى الهيمنة والمصالح الاقتصادية، فالمسألة ليست مسألة صراع حضارات بقدر ما هي صراع مصالح وصراع على الهيمنة السياسية، لذلك يجب أن نعيد صياغة هذه المسائل ونضعها في هذا الإطار، ربما كان هذا أفضل.
>لكنك تميل إلى إلغاء مصطلح يؤكده عدده كبير من المفكرين، وربما هذا دعا بعض المفكرين الإسلاميين إلى طرح مصطلح بديل هو حوار الحضارات.
>أبدا، في رأيي أن الحضارات تتعايش، العالم اليوم مختلف كليا عما كان عليه قبل 1000 عام، في ذلك الوقت كانت هناك حضارات تنشأ وتزدهر وتفنى دون أن تشعر بها الحضارات الأخرى، أما اليوم، وهذا من حسنات العولمة والثورة المعلوماتية، أصبح العالم واحدا، والحضارات الآن تتعايش بقدر ما يمكن لكل حضارة أن تمتلك نفوذا، وهي ليست مضطرة أن تلغي الحضارات الأخرى.
وأشير هنا إلى أن الحرب الكونية الأمريكية على الإرهاب، الشعار الذي أطلقه بوش ليست حربا مسيحية أو صليبية (بالمعنى الثقافي للكلمة) على الإسلام أو العكس، ودليلنا على ذلك أنه قبل 11 سبتمبر لم يكن هناك شيء اسمه “إرهاب إسلامي”، بالتالي لم يكن الإسلام يمثل خصما للولايات المتحدة، بل بالعكس في فترة الحرب الباردة وجدت أمريكا في الإسلام خير حليف لها ضد الشيوعية، فكانت تدعم الحكومات الإسلامية -أو التي ظاهرها إسلامي- في إيران وتركيا والبلاد العربية، ففي الصراع داخل أفغانستان شكل الإسلام والولايات المتحدة تحالفا استراتيجيا خطيرا أدى إلى هزيمة السوفييت،فليست المسألة مسألة صراع، بل هي مرتبطة إلى حد ما أيضا بنوع من توافق المصالح واختلافها.
>ربما بهذا المعنى نستطيع القول إن الثقافات تتعايش أيضا، وبالتالي مقولة صراع الثقافات لا أساس لها، ما رأيك بذلك؟
>تماما، لأنه ضمن المجتمع الواحد هناك ثقافات مختلفة، ألمانيا مثلا فيها البرتستانتية والكاثوليكية وهما متعايشتان، وفرنسا أيضا تحوي الكاثوليكية واللادينية ومتعايشتان أيضا، كما أن المجتمع العربي فيه المسيحية والإسلام والصابئة وغيرها وهي جميعها متعايشة، لكن المشكلة تأتي عندما تنظر ثقافة ما إلى نفسها على أنها الثقافة المُثلى والنهائية، عندئذ تتحول إلى ثقافة عنصرية، فما لم تكن الثقافة عنصرية فالتعايش معها ممكن.
ونستطيع القول إن الثقافة الأوروبية قد مرت بمراحل عنصرية، ولكن ليست كل الثقافة الغربية ثقافة عنصرية، كما أننا نحن العرب مررنا أيضا بمراحل من الثقافة العنصرية، تخيل أن دولا عربية كانت تسمي غير العربي أعجميا أي غير آدمي وهذا نوع من العنصرية، ومع ذلك نحن اليوم تجاوزنا هذه المرحلة، وأصبحنا على سبيل المثال نستطيع أن نتحالف مع إيران التي شكلت في وقت ما النقيض التاريخي للمشروع العربي على الأقل في الدولة الأموية.
>بهذا المعنى أنت لست مع مفهوم الغزو الثقافي الذي مارسه العرب في مرحلة سابقة، وتمارسه الدول الغربية في العصر الحالي كما يؤكد بعض المفكرين.
>هذا تحرك طبيعي للثقافة، الثقافة بطبيعتها تميل إلى الانتشار والخروج من بيئتها الضيقة، وكل الأمم تمارس هذا بحسب قوتها وضعفها، أنا لا أسمي هذا صراعا ولا أسميه غزوا، وإنما أسميه نوعا من بحث الثقافة عن مجال حيوي تستطيع أن تعبّر فيه عن ذاتها أكثر فأكثر، يعني الفتوحات الإسلامية ما هي؟ هي نشر للثقافة والديانة الإسلامية، وكان هذا أمر طبيعي الحدوث.
وبالمقابل اليوم أنا عندما أتأثر بالثقافة الغربية عن طريق الكتاب أو الإنترنت أو أي وسيلة أخرى، فهذا أمر طبيعي ومن العبث أن نغلق الأبواب أمام هذه التأثيرات، من هذه التأثيرات يظهر الجديد، يعني الأمم عندما تؤثر ببعضها وتتفاعل يظهر الجديد، أما لو كانت كل أمة عاشت في مستنقع وأغلقت على نفسها، فعندئذ ستنهار الإنسانية وتنقرض، والعرب عندما نشروا الإسلام في بقاع الأرض، دخلت شعوب متعددة إلى الإسلام فأغنته وأغنت الثقافة العربية، ولذلك نحن لا نقول الثقافة العربية نقول الحضارة العربية الإسلامية، لأن ابن سينا والفارابي وغيره ليسوا عربا ومع ذلك أغنوا الثقافة العربية، والمترجمون الذين ترجموا الثقافة اليونانية إلى الثقافة العربية كلهم سريان، أي أن تفاعل الثقافات والأمم هو الذي ينتج جديدا.
ونحن اليوم لأننا لا نتفاعل بالقدر الكافي نشعر بأننا مضطهدون في هذا “الغزو الثقافي”، لكن لو كنا منتجين للثقافة لكان لنا رأي آخر، من هنا إذا أردت التصدي لما يسميه البعض غزوا ثقافيا، فليس هناك حل إلا أن تنتج ثقافة وتطرحها على الآخرين لكي يقرؤوها وينتفعوا ويتأثروا بها، أما أن تكون غير قادر على الإنتاج ولا تريد لغيرك أن ينتج، فهذا من التناقض بمكان، وأي عملية إنتاج تفترض الانتشار، يعني الكاتب لماذا يكتب؟ ليُقرأ وكلما كان عدد قرائه أكبر كلما دل ذلك على أن أثره أوسع، فالثقافة بطبيعتها فيها ميل للانتشار، وميل إلى أن تعيّن نفسها في أكبر عدد ممكن من الوقائع والأماكن.
حول مفهوم الحداثة وسماتها؟
>سأنتقل للإشكالية الأخيرة “الحداثة” التي تلقى قبولا لدى عدد كبير من المفكرين، فيما يسعى دعاة القدامة إلى محاربتها على اعتبار أنها تمثل انهيارا للدين والقيم، والسؤال ما هو تعريفك للحداثة كمفهوم؟ ومتى نشأت؟ وما سبب نشوئها؟ وما سمات حضارة الحداثة؟
>سأجيب بعجالة على سؤالك الذي يحتاج حوارا مستقلا، الحداثة هي “الثقافة التي تقول إن الإنسان هو سيد العالم بذاته وبحريته وعقله وهو من ثم واضع للقيم التي يتقيد بها أو يرفضها”، فالحداثة إذا أن يكون العالم إنسانيا بكل ما في الكلمة من معنى، ومصدر السلطة الوحيد هو الإنسان، وبهذا فالحداثة خلعت جميع الآلهة عن عروشها ونصّبت إلها واحدا على العالم هو الإنسان.
نشأت فكرة الحداثة في العالم الأوروبي ابتداء من عصر الإصلاح الديني في القرن السادس عشر عندما تم الحدّ من سلطان البابوات والكنيسة السياسي، فبدأت بذرة العلمانية أو “جرثومتها” عندما طالب “لوثر” بحقّ الملوك في الاستقلال عن البابوات، ولكن الحداثة بلغت ذروتها في نقطتي تحول رئيسيتين الأولى: نقطة التحول في العلم، وذلك عندما ولد المذهب التجريبي مع “بيكون” في القرن السادس والسابع عشر، أما نقطة التحول الثانية- وربما كانت الأهم- هي اكتشاف الإنسان في الفلسفة الديكارتية، عندما قرر “ديكارت” في القرن السابع عشر أن العقل هو أعدَل الأشياء قِسمة بين الناس، وأن الفارق الوحيد بين البشر هو استخدامهم لهذا العقل أي الفارق المنهجي، ومن هنا طوّر منهجا فلسفيا وسمح له بالتقدم إلى ابتكار الفيزياء الرياضية التي شكلت قاعدة العلم الحديث، والتي سمحت بالانطلاق إلى شتى أنواع العلم (ميكانيكا نيوتن ثم آينشتاين).
>ما سمات حضارة الحداثة؟
>الفردية – الخصوصية- الحرية- اختيار القيم أو رفضها بحرية تامة دون الاحتكام إلا إلى معيار واحد هو الإنسان، هذه وُجدت ونمت بالتدريج إلى أن أصبح اليوم مجتمع الحداثة الأوروبي والأمريكي فيه فردية وخصوصية وحق في اختيار الإنسان لصناعة القيم كما يراها مناسبة، واختيار نمط العيش على النحو الذي يريده، كل ذلك في إطار المؤسسات التي أبدعتها الحداثة، مؤسسات الديمقراطية من ناحية والمؤسسات العلمية من ناحية أخرى.
>ما رأيك بلجوء بعض المفكرين إلى التراث لتوظيفه في معركة الحداثة ضد دعاة القدامة؟
>أعتقد أن الحداثة هي الحداثة ولا نستطيع إلا أن نبتدئ من نقد ما هو قائم أي من نقد الماضي الماثل في الحاضر، دون أن نزيّفه، أيّ اكتشاف للحداثة في التراث هو تزييف للتراث وللحداثة في آن واحد، ولذلك فإن الطريق المستقيم يبدأ بنقد الحاضر الذي هو في صميمه ماضي، وفي محاولة لكسح هذه العقبات القائمة في وجه التقدم والعقلانية والحرية والديمقراطية والعلمانية في سبيل إنتاج إنسان من نوع جديد.
نقلا عن موقع : www.alawan.org