°
, December 6, 2024 in
آخر الأخبار
عيـســـى ابــراهـيـم

سوريا .. البحث عن دولة المواطنة -1-

لعلَّ أول محاولة جدّية لبناء مواطنة سوريّة بدأت في ظل المؤتمر السوري العام، الذي عـُقد في عهد المملكة السوريّة (1918 – 1920)، حيث تمّ البحث عن عقد اجتماعي بين الأفراد والمجموعات البشرية (البلاد ملكية دستورية مدنية، لا مركزية الإدارة، وتكفل الحريات السياسية والاقتصادية، وحقوق الطوائف الدينية، وتساوي بين المواطنين…) ومُشترك إنساني وحقوقي، وليساهم ذلك بخلق وجدان جمعي عام، ونمط عيش وحياة مُتقارب بحد أدنى بين السوريين المتنوعين. ثم أُعقب ذلك بعد انتهاء عهد المملكة السورية وبداية الانتداب الفرنسي (24 تموز 1920) بقرار إداري للمفوض الفرنسي السامي الجنرال سراي سمح بحرية إنشاء الجمعيات والأحزاب السياسية في سوريا، فكان هذا القرار، الأساس القانوني الذي استند إليه الوطنيون السوريون (المعنى الاصطلاحي للكلمة لا التفاضلي) في البدء بحراك سياسي واجتماعي بعد توقف العمل العسكري ضد الانتداب الفرنسي وبدء النشاط السياسي والاجتماعي.
وأبرز ما أُسس في ظلّه (الكتلة الوطنية) التي ضمّت شخصيات سياسية واجتماعية سوريّة مُستقلة، حيث شكّلت هذه الكتلة طريقة ما، في تلمّس مُشترك إنساني سياسي حقوقي بين الأفراد والجماعات البشرية والمناطق المتنوعة في سوريا، وبدأت أولى بوادر تُشكِّل وجدان جمعي سوري عام بحد أدنى ساهم رويداً بعقد معاهدة 1936 مع الفرنسيين وصولاً إلى الاستقلال السوري ضمن مناخ دولي أُستفيد منه في 17 نيسان 1946.
وكذلك ساهم بالوصول إلى إمكانية صياغة دستور 1950، دستور عكست ديباجته ومقدمته ذلك التصور السوري العام، بالأغلب الأعم، في فهم عقدهم الاجتماعي والتعبير عنه في مواد دستورية ضامنة، وهو دستور تمّ تلفيقه “المعنى اللغوي للكلمة لا الاتهامي” من عدّة مفاهيم من العروبة والإسلام وحقوق الإنسان وبعض قيم المواطنة… إلخ، وكان ذلك بمنزلة الممكن حينها للوصول للمُتاح، ولتبدأ خطوات متعثرة رتيبة على درب المواطنة الطويل.
بيد أن توالي الانقلابات العسكرية, ومن ثم جبر الضباط الكبار للرئيس شكري القواتلي على الوحدة مع مصر عبر زيارتهم مصر وعرضهم الوحدة على الرئيس جمال عبد الناصر (16 كانون الثاني 1958) قطع الدرب إلى المواطنة باعتبارها ضرورة واقعية ، وتمّ البدء بأدلجة الدولة والحكم والإدارة والبدء الجدّي في مسار الغيب الآيديولوجي، المُرتكز على شعارات إثنية واشتراكية كبيرة، غير واضحة وغير قابلة للقياس، وعلى كاريزما شخصية الرئيس جمال عبد الناصر وقدرته البلاغية في الخطابة أمام الجمهور.
فتم وقف العمل الحزبي والغاء الحياة السياسية، وأدلجة مفاصل الدولة، وسيطرة حكم الفرد، وتطبيق نظام أمني مرتبط بشخص الرئيس ومسؤول أمامه… إلخ.
كل ذلك في بلد كسوريا متنوع من الناحية الإثنية والطائفية والمناطقية، ولم يؤسس بَعد، مواطنته الخاصة؛ فسُرقت عبر هذه الشعارات الكبيرة والبعيدة المدى، مفردات الوجود الإنساني السوري في الحق بحرية التعبير والحيّز الشخصي والعمل الحزبي وتداول السلطة والحريات العامة والملكية الخاصة والثروات العامة.
وهي تجربة -وإن لم تستمر طويلاً- إلا أنها تجربة أسست لنمط في إدارة المجتمع السوري لاحقاً، خاصة بعد مخاض من الحراك السياسي والعسكري انتهى بانقلاب عسكري (الحركة التصحيحية) في عام 1970 قام به وزير الدفاع السوري في عام 1967 حافظ الأسد.
وهنا تمّ البدء ببلورة مفهوم إيديولوجي برؤية أحادية فوقية للعقد الاجتماعي السوري المُراد إيديولوجياً لسوريا والسوريين، وتجلى ذلك في دستور 1971.
حيث رسّخ هذا الدستور كل سمات الوضع السياسي لفترة الوحدة، في فهم واقع سوريا، ولكن هذه المرّة عبر إيديولوجية البعث ووفق مفهوم حافظ الأسد للبعث ودوره، وكذلك تم تكريس الصلاحيات كاملة، مباشرة أو مداورة، بيد الرئيس، وهي صلاحية أميرية كاملة بل في جانب منها ذات مِسْحَة إلهية، بحيث أن الدستور بمآل الصياغة، لا يعتبر الرئيس مسؤولاً عن أي تصرف يقوم به!
وتمّ القضاء بشكل شبه كامل على مفاهيم المواطنة، بتبني مفاهيم (الدولة الأبوية)، حيث أن “الأب القائد” يرعى “أبناءه” السوريين، من “رعايا” الجمهورية العربية السورية، بما يعتقده من مصلحة لهم كـ” قائد مُلهم”… أدرى بمصلحة جنوده وأبناءه من أنفسهم.
وتوالت تبعات هذا الشكل من “النظام” في غياب لمفهوم الحق والواجب، وسيادة مفاهيم المنحة والعطاء والسماح، الناتجة بدورها على معيارية الولاء الشخصي للأب القائد المُلهم، وليس على أساس القانون، ثم بدأ ترسيخ كل ما تقدم من رؤية فردية أيديولوجية في إدارة الدولة السوريّة والمجتمع السوري، في تقنين “حقوقي” في القوانين الصادرة، وفي السياسة الداخلية والخارجية والترفيعات العسكرية والحزبية والمؤسسية بما يتفق مع مفهوم الولاء وتداعياته في المنحة والعطاء والسماح. ولم يعد لنمو الخبرة والكفاءة الشخصية دور أساس في تقرير المصير الوظيفي للفرد السوري، ومع الوقت بدأت تظهر ملامح الجوانب السلبية لمركزية القرار وشمولية السلطة الفردية، في جوانب الحياة السورية العامة، مُحدثة تنامي في احتقان مجتمعي سوري في مجالات التنمية والإدارة والاقتصاد والجيش والصناعة والتجارة والنشاط السياسي والمجتمع عموماً… إلخ.
احتقان كان من مظاهره المُعلنة تَفجُّر أحداث أواخر السبعينات وبداية الثمانينات التي تُعرف بحوادث “الإخوان المسلمين”، وإن كان الواقع، يُفْيد حينها، أن الأمر كان أكثر من ذلك.
بيد أن تلك الكارثة، خاصة في مدينة حماة، تحولت لفرصة ذهبية لنظام الأسد الأب، فرصة ساعدته في إعادة صياغة سوريا بطريقة مُختلفة في التفاصيل وتحت السقف عينه من الإدارة السابقة، وكذلك كانت فرصة للقيام بالتخلّص من كثير من الخصوم السياسيين والبنى الاجتماعية المُعيقة، حتى ذاك التاريخ، وكان ذلك بالنسبة لهذه الأخيرة “البنى الاجتماعية” بإعادة صياغة هذه البنى والاستحواذ عليها بشكل شبه كامل، خاصة فيما يتعلق بالطائفة العلوية، التي كانت حتى منتصف الثمانيات تحظى بأكبر نسبة لمعتقلي الرأي في سجون الأسد الأب.
استمر الأمر في إدارة المجتمع السوري من نفس الخلفية الفكرية في الإدارة السابقة ذاتها، مع تغيير في التفاصيل، تغيير استدعاه ما استجدّ من أحداث نتجت عن الاحتقان المجتمعي، في ظل غياب كامل للرقابة الشعبية على كيفية الإدارة السياسية والاقتصادية لموارد الدولة السورية خاصة في مجالي النفط والفوسفات.
وسادت فترة استقرار الموت السريري لسوريا والسوريين التي تُسمَّى رسمياً “الأمن والأمان” فترة ترافقت مع بدء نضوب نشاط الأسد الأب بسبب مُضي الوقت لديه في سلطة فردية مُطلقة لا رأي أخر ولا تجربة لأخر فيها إلى أن كان ذلك اليوم .

25 تموز 2017