السيد ل , في الخمسين من عمره , متزوج , طفل , يعاني مشاعر الدونية , والتهيّب الذي يشلّ , والتهيّج , والتعب الشديد , والحصر .
يقول السيد ل :
– أنهكني العمل في المكتب , وأعمل كثيراً من الساعات الإضافية و . . .
– هل هذه الساعات الإضافية ضرورية ؟
– آه أرجو , ليست ضرورية مطلقاً ! وظيفتي وظيفة ثقة . فأنا معاون مباشر للمدير ! ولكن ذلك , بالتأكيد , يجبرني على العودة متأخراً إلى المنزل جداً . الأمر الذي يجعل حياتي الزوجية لا تسير دائماً على أحسن ما يرام .
ثمة , مع ذلك , أمر يثير الدهشة لدى السيد ل :
– ما لا أفهمه هو أني متهيج في عملي دائماً . هل هو التعب ؟ لكنني لا أعتقد ذلك . فأنا دائماً في حال كأن شيطاناً يلاحقني . و عندئذ أتوزّع بين عشرة أعمال مختلفة , ولا أنهي أياً منها . . . على الأقل كما أتمنى . . . ثم , هذا الحصر الدائم على وجه التقريب . . .
فماذا لدينا حتى الآن ؟
ساعات إضافية – إنهاك – تهيّج وتوزّع – حصر . . . أعني ليس ثمة لدينا شيء هام محدّد .
وبدأ التحليل بصورة طبيعية . وما تخلّف السيد ل عن جلسة واحدة بالرغم من العمل الذي يرهقه .
ومع ذلك , يقول السيد ل :
– عندما أبدأ شيئاً من الأشياء , أقوم به بصورة مخلصة وإلى أبعد حدود الإخلاص . إنني أتعاون تعاوناً كاملاً . وذلك كما هو الشأن في المكتب : إنني أصل في الساعة المعتادة ولو كنت مريضاً .
والواقع أن السيد ل يصل دائماً قبل مديره بربع ساعة . فهل ذلك لكي يكون كل شيء جاهزاً قبل وصول الشخصية الرئيسية ؟ كلا , على الإطلاق , بل لكي يلاحظ المدير يومياً أن معاونه على رأس عمله بإخلاص ودقة كاملين . فهل ذلك ضرب من التفاني ؟
لنر التتمة :
– إنني , يقول السيد ل , رجل يمكن الاعتماد عليه .
هذا صحيح , ولكننا سنرى الدافعيات مزيفة , وأن الحصر ليس موجوداً من أجل لا شيء . . .
وشغرت وظيفة المدير يوماً من الأيام . وكلّف السيد ل نفسه كثيراً من الجهد . . . ولكن لا من أجل ذاته , لا من أجل أن يحصل على هذه الوظيفة الجدير بها مع ذلك , بل من أجل مرشح ممتاز آخر .
– هل تفهم ؟ قال السيد ل . صحتي لا تسمح لي أن أصبح مديراً عاماً . وفضّلت أن يكون شخصاً أخر أبقى معاونه . عندئذ دعمت ترشيحه إلى أبعد الحدود . . .
وعلمت فيما بعد أنه كان يدعم على وجه الخصوص هذا الترشيح عندما كان بإمكان المدير الجديد أن يعرف ذلك . فهل هذا نزاهة ؟ أم تملُّق ؟ ليس هذا ولا ذاك على الإطلاق .
ها هو ذا المدير الجديد , إذن , قد استقرّ في وظيفته . واستأنف السيد ل , بالحماسة نفسها , دوره بصفته معاوناً للمدير لا يمكن الاستغناء عنه , ناجحاً , يقضم عمل المدير , الخ .
وقال السيد ل , متشنجاً جداً , في أحد الأيام ( وهذا يلخص كل شيء . . . ) :
– أنت تعلم , فكرت كثيراً . حاولت أن أفعل ذلك بإخلاص . وفهمت أنني أشتغل ساعات إضافية لأنني لا أجرؤ على الانصراف في الساعة المحدّدة . . .
– وهل ينصرف مديرك بالساعة المحدّدة ؟
– نعم دائماً . ولكنني أتدّبر أمري لكي يكون على علم بعملي في المساء . فأنا أضع على مكتبه رسالة , أو كلمة , أو شيئاً ما من هذا النوع . . . ولكن لماذا لا أجرؤ على الانصراف في الساعة المحدّدة ؟
– للسبب ذاته الذي يجعلك تصل ربع ساعة مبكراً في الصباح . . .
ما يحدث ؟
ما هو ظاهري :
مخلص
ما هو لا شعوري :
آلاف من ” الوسائل ” لكي يلاحظ الناس أن السيد ل مخلص ومتفان . فهو , على سبيل المثال , عندما يقول لمديره : ” إنني , عندما وصلت أمس الساعة السابعة . . .” ,في حين أن المكاتب تفتح أبوابها الساعة التاسعة وأنه وصل الساعة الثامنة والنصف . ويعلم السيد ل أنه يكذب , ولكن ذلك لا يمضي أكثر بعداً . وهو لا يعلم إلا بصورة غامضة جداً أنه يبحث عن أن ” يرفع من شأن نفسه ” .
ما هو ظاهري
مهذب
ما هو لاشعوري
عدوانية مكبوتة .
ما هو ظاهري :
متواضع
ما هو لاشعوري :
شريطة أن يعلم الناس أنه متواضع , كما هو الأمر بالنسبة للإخلاص , الأمر الذي يمنحه الإحساس بأنه موضع إعجاب , وبالتالي , مقبول .
ما هو ظاهري :
” متعاون ” جداً
ما هو لا شعوري :
مستقل بصورة فظة وعدائي .
ما هو ظاهري :
متوار وخجول
ما هو لاشعوري :
يتوراى كيما يتجنّب الدخول في منافسة . ويتذلّل حتى ينال الصفح .
قال السيد ل ذات يوم :
– خمس سنوات انصرمت لم أطلب خلالها أي زيادة على أجري . . . كانت زوجتي تدفعني إلى طلب الزيادة , وكنت أجيبها بأنني أحصل على ما يكفي مقابل ما أقدّمه . ولكنني أرى الآن أن ذلك كان خدعة رائعة ! إن هذا لا يزال غامضاً جداً . . . بيد أنني أحس بأن الأمر كما لو أنه ليس لي الحق بمرتبي ( المرتفع إلى حد ما ) , , وأنني لا أستحق دراهمي . . . والحقيقة أنني أعمل كثيراً لأمنح نفسي الانطباع أنني أدّيت على نحو واسع مقابل ما يدفعونه لي في نهاية الشهر . . .
نحن إذن في حالة من الاستكمالية , مظاهرها هي التالية : أن يكون مساعداً متفانياً كل التفاني , مخلصاً كل الإخلاص , لا يمكن نقده في أي مجال , الأمر الذي يتيح للسيد ل أن يفلت من الحصر , حصر كونه منبوذاً , وحصر المنافسة.
بيد أننا , بالإضافة إلى ذلك , في وضع أو ديبي ( أنظر فيما بعد هذا المشكل ذا الأهمية الكبيرة جداً ) . وإذ يُظهر السيد ل نفسه كثير التفاني و ” رجل ثقة ” كثيراً , فأنه يضع نفسه تحت الحماية العطوف , حماية ” أبيه ” ( المدير ) . والسيد ل مصاب كذلك بـ حصر الخصاء . أنه يخشى السلطة . وهو , بموقفه , يحاول الحصول على حسن التفاتها ( حتى لا يكون موضع الخصاء ) . والمقصود , في نهاية الأمر , مشكل من مشكلات المازوخية ( وضع المرء نفسه في موضع أدنى , وتصغير النفس , والتجرد من الرجولة , وتجنب المنافسة , والخضوع ,الخ ) تحت مظاهر برّاقة : إخلاص ودقة وعمل مثالي , الخ .
فالسيد إذن في حالة ” الجندي الكامل ” الذي سنراه فيما بعد , والذي يخفي إخلاصه التام للوطن ولرؤسائه ( حصر الخصاء ذاته . . .)
ولكن من المؤكد أيضاً أن السيد ل كان سيبقى , لولا التحليل النفسي , ” مرؤوساً كاملاً ” , وتزداد إصابته بالحصر , حتى نهاية حياته . . .
مقتطف من جلسة تحليل للدكتور بيير داكومن كتاب ” انتصارات التحليل النفسي” لـ ” بيير داكو ” .” ترجمة وجيه أسعد ” صادر عن الشركة المتحدة للتوزيع . دمشق سوريا .