°
, December 6, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

رواية ” الأرض ” الجزء الثاني ، الحلقة الرابعة ل : د . محمد عبد الله الأحمد

-21-
في دمشق و هي العاصمة المحافظة ليس من السهل أن يتكيف المجتمع مع إنسان يعلن للملأ بأنه ( خنثى) لا ذكراً و لا أنثى ! . لكن ( زمرد) أو ( زوزو) كان دائم الوجود أمام مطاعم دمشق الفخمة ، و كان أصحاب المطاعم حتى يسمحون له أحياناً أن يدخل لكي يسلم على بعض الزبائن و يضحكهم ، فلقد كان صاحب نكتة ، و نكاته كلها لم تكن تعترف بحزام الوسط الفاصل ( الزنار) ! .. و لقد اشتهر زوزو كثيراً في دمشق ، سوى أن النهار كان عدوه و الليل صديقه ، ففي النهار كان بعض الشباب يتحينون رؤيته للسخرية و الاستهزاء و حتى أن البعض كان يضربه ! .. فشهرته بالأصل جاءت من اعتداء عليه حصل في أحد أيام الصيف حيث اخطفه ثلاثة شبان إلى بساتين حرستا حتى يتأكدوا من جنسه، فاشتكى في اليوم التالي لمدير مكتب وزير الدفاع شخصياً، الذي كان يتعشى مع مجموعة من ضيوفه في أحد مطاعم الشام الفخمة، و كانت لهجة ( زوزو) خاصة فيها دلع البنات و خشونة صوت الرجال :
-سيدنا
– أهلا زوزو
– بترضولي الذل
– لا طبعاً
– أنا امبارح انتهكوا عرضي
أخرج الرجل ورقة من فئة الخمس ليرات و أعطاه أياها قائلاً :
-زوزو معي ضيوف تعال بكرا لعندي ع المكتب ، قلن أنا طلبتك .. روح هلق ماني فاضي
أخذ زوزو الليرات الخمس شاكراً ووضعها في حقيبته النسائية، و مشى يتمايل كفتاة في العشرين ، و كل زبائن المطعم تتهامس حوله، و هو يوزع الابتسامات عليهم

-22-
خرج الملازم أحمد و هو بلباسه العسكري من مبنى كلية الحقوق مبتسماً، يقول في نفسه : ( قرب التخرج يا أبو حميد الحمدلله ما راح تعبك حيالله ) .
مشى بضعة خطوات في حديقة الكلية فوجد بعض زملائه يتحدثون، و ما إن وصل حتى أنهوا الكلام فجأة :
-إف لشو سكتو هالقد بخوف أنا ؟
– من جهة بتخوف بتخوف الصراحة
– ليش بقا مشان البدلة و الله تشلحها هنا
و قام بالفعل بخلع سترته العسكرية، فظهر قميصه الأبيض تحتها
-اي هيك منحكي
– هاتو تفضلو
– خيو أنتو العسكر تخنتوها بصراحة
– كيف يعني
– شو كيف أربع خمس انقلابات بكم سنة ! تخنتوها
– بي حضي معك حق ، أصلاً أنا رايح ع الشرطة المدنية بعد التخرج
– عظيم فيك تبعتلنا كل ضباط الجيش ع الشرطة بطريقك ؟
– ( يضحك) منيحة هاي بس كأنك نسيان أنو في فلسطين محتلة و بدها رجال
– و شو ناطرين بالله ؟ متل ما عملت جيوش الانقاذ ؟ خمس جيوش عربية على كم مفعوص و انهزمتوا ؟
– أولا يمكن لازم تتأدب أنا كنت متلك طفل بحرب الانقاذ، و ثانياً أنا هلق جاهز استشهد بفلسطين
قال زميل ثالث :
– الملازم أحمد مالو ذنب بلا تعفيس بالحكي نزار ، الزلمة بعده ملازم و صار سنة تالتة حقوق ، واضح أن الرجل من طينة تانية من العسكر
– أي طينة
– في عسكر بيتعبو على حالهن ، و نسبتهن قليلة بس هدول شغلة ، تفضلوا عازمكن ع أكلة فول بالبحصة و حاج سياسة .
-23-
في أحد الصفوف المدرسية وقف المعلم و التلاميذ جاليسن بكل أدب قائلاً :
الدرس الماضي طلبت من كل واحد يكتب موضوع تعبير، بعنوان صف شعور بطل عربي عائد من حرب فلسطين ، كتبتوا الموضوع ؟
أجاب غالبية التلاميذ :
-كتبنا أستاذ
بدأ الأستاذ يطلب من بعضهم قراءة موضوعه فأشار :
إقرأ يا جنيد !
بدأ التلميذ يقرأ من دفتره قال :
-بعد أن انتهت حرب فلسطين و انتصرنا على القوم الظالمين ، عاد الجندي البطل إلى بيته و أولاده … فقاطعه المعلم قائلاً :
-مين قلك انتصرنا ؟ با ابني قل الحقيقة نحنا ما انتصرنا بل العدو انتصر و أخذ نص فلسطين و أكثر ، و لازم هون أنت تحكي عن شعور البطل ..
محمود إقرأ :
-عاد الجندي صالح من فلسطين، فكان بطلاُ مغواراً رفع سيفه و قاتل ببسالة و بطولة ثم عاد إلى أطفاله . قال لهم : يا أولادي سنعود إلى فلسطين و نحررها من الأعداء بعد حين .
-جيد يا ابني … صالح الأحمد اقرأ
احمرت وجنتا صالح حين سمع اسمه، و لكنه تصنع أنه يفتح دفتره و بدأ يقرأ :
-عاد البطل جمال من فلسطين هو و رفاقه ، عادوا و هم يمنون النفس بالعودة ثانية إلى أرضها المقدسة ، حيث تآمر العالم عليها لكي تغدو سبية سليبة من أصحابها الحقيقيين ، من الفلسطينيين الذين تشردوا و ظلموا بسبب ظلم هذا العالم . كان شعور جمال مختلطاً بين الحزن و الغضب من كل شيء …
هنا كان المعلم يتمشى بين التلاميذ فتوقف عند صالح الذي كان يقرأ الموضوع، فلاحظ أنه يقرأ بدون دفتر ، و أن حركته في فتح الدفتر كانت مجرد تمثيل، فعاد المعلم إلى صدر غرفة الصف قائلاً :
-صالح الأحمد طلاع لعندي
ملكت القشعريرة جسد صالح من رأسه لأخمص قدميه، و خرج خجلاً من بين زملائه الذين ينظرون بفضول نحوه ، حتى وصل إلى السبورة، فأوقفه المعلم قربه و قال :
-زميلكم صالح ما جاب دفتره معه ، و جاي بلا كتابة وظيفة بس عجبني لأن عم يقرأ ارتجالي من عقله كلشي سمعتوه ، و الي سمعتوه رائع صفقولوا !
و صفق الطلاب لزميلهم الخجل .. و عندما انتهى التصفيق سأله المعلم :
-وين دفترك يا صالح ؟
– ( بخجل ) ما عندي دفتر استاذ، بيي أمعو يشتريلي دفتر
نظر المعلم إلى صالح من فوق إلى تحت و رأه ينتعل قبقاباً خشبياً في الشتاء .. قال لطالبه :
-بعد الدرس تعال معي .

-24-
جلس زكوان حديد بين مجموعة من شبان الإخوان المسلمين في مقر سري في القاهرة يتحادثون .. قال زكوان :
-يا اخوان أنا لازم ارجع على سورية
– ليه يا أخي عاوز ترجع تتسجن هناك ؟
– ( يضحك ساخراً) يعني هون ما انسجنت ؟ الإخواني الي ما انسجن مانو اخواني حقيقي
– يمكن معاك حق
– نحن قدرنا حرب الظالمين ، و لابد من إعداد العدة، بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم :  ( و أعدوا لهم ما استطعتم من قوة و من رباط الخيل ترهبون به عدو الله و عدوكم و آخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ، و ما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم و أنتم لا تظلمون ).
و قال الكل بصوت واحد : صدق الله العظيم . ثم تابع زكوان :
-يإذن الله سترون في بلاد الشام ما يسر الخاطر ، و لقد تعلمنا منكم ! ستكون نواة التنظيم العسكري السري في حماة ان شاء الله .
قال أحد الحاضرين :
-ترهبون يا أخ زكون .. ترهبون ! عايز انبهك ان ربنا سبحانه و تعالى يأمرنا أن نلقي الرعب في قلوب من يقفون في وجه دولة الإسلام و شرع الإسلام ! .
-25-
نزل ربحات من البوسطة التي اخترقت ساحة القرية و توقفت مزهواً بلباسه شبه العسكري بعد أن تطوع في الجمارك السورية . ثم مشى بكل عنترية حتى وصل إلى بيتهم و صاح على أمه :
-يا موووو … يا موووووو
فخرجت أمه و قد انفرجت أساريرها و ضحكت فرحة عندما رأته و أخذته في حضنها و هي تصيح :
-يا بو بهجااات .. تعا شوف ابنك صار جمركجي
خرج الأب فرحاً و عانق ابنه و دعاه للدخول إلى البيت و هو يقول
-على ذمتي و ديني انك بتفهم يا ربحات إي هيك هااا ، و ليك شوف أنا أبدي شي منك .. راتبك كلو الك بس عمر بيت و تجوز
-بدي ايخيد بكالوريا بي و روح ع الكلية
-انت حر .. انت سيد نفسك .. و هناء شو
– منشوف بي منشوف

-26 –
خرج صالح الأحمد مع زملائه من المدرسة في ذلك اليوم الشتائي فبدؤوا يركضون و بدأ هو يركض معهم ، إلا أن قبقابه انشرم و انقطع من دقة المسمار الخارجي ، فحمل زوج قبقابه تحت إبطه و مشى حتى وصل إلى الدار، و لكنه فعل كما يفعل كل يوم و تزلق على التلة الكلسية البيضاء مثل كل أولاد الحي حتى اتسخت ملابسه ، و أكمل السير حافياً .
ولج باب الدار الذي يفتح عبر خيط يمر عبر فتحة بين أخشاب الباب ، ثم نزل على الدرج المصنوع من حجر البازلت الاسود حافياً وولج الغرفة الوحيدة فوجد أباه في حالة يرثى لها ، يتقيء و يؤلمه بطنه .
-بابا انت بخير شو حالك ؟
– ( بصوت متحجرش) إي لا تخاف
– رح روح جيب دكتور
– ليش معنا مصاري نعطيه
– طيب شو حالك
– شربت شنان مشان موت
– ( بخوف شديد) شربت شنان ؟ و لشو بدك تموت ؟ مو حرام ؟
– لأن أمعي درسك و أمعي طعميك ..
سكت صالح و كادت معدته تتقطع من الخوف ، و سأل أباه :
-و شو رح يصير هلق رح تموت ؟
– لا تخاف راجعت كلشي
– هلق الشنان بيموت ؟
– اي مرة شربت منو البقرة بالصبورة و ماتت
هجم صالح على أبيه معانقاً قائلاً :
– بي أنا رح اشتغل بمعمل البلاط عند القلعة ، بصب بلاط أبدي أدرس، بدرس حر بعدين .
ذرف الأب دمعاً سخياً و قال :
-ليك صالح الشنان بقلب الطنجرة الفيها طبخ ، لازم نكبو بالبلوعة مشان ما يسمم حدا .. و قاما بقلب طنجرة المتبلة ( حنطة و لبن ) كلها في البالوعة .

-27-
كان الملازم أحمد يتجول في شوارع الشام يراقب الباعة المتجولين عندما أوقفته امرأة بصارة و قالت له :
-خل اشوف ودعك يا زين الشباب
نظر أحمد في وجهها و احتار هل يعرفها ؟ هل رآها من قبل ؟
-لا شكراً أبدي ؟
– آخذ منك خمس قروش بس و أشوف ودعك
قال في نفسه أعرف هذه المرأة لكنني لا أذكر من أين
-طيب ماشي شوفي الودع و أعطاها فرنكاً أصفراً
كانت تتحدث و هو ينظر في وجهها ، ثم سألها فجأة كمحقق شرطة :
-انتي شو اسمك ؟
– اسمي نجاح .. نجاح
– ايواااا نجاح ، و الله قلت لحالي ها هي .. تعي تعي معي تاشوف ، و ألقى بها في أقرب تكسي طالباً من السائق الذهاب لحي المالكي .
في السيارة سألها :
-انتي من حمص مو ؟
– اي بالله يا سيدي بس ليش آني شنو سويت ؟
– هلق منشوف
وصلت سيارة التكسي إلى قرب بيت هيام ، فأنزل أحمد نجاح النورية معه و دخل إلى العمارة . فتحت خادمة هيام الباب و دخل أحمد ووراءه المرأة خائفة !
-هيااام … يا هيااام
جاءت أخته مسرعة
-هلا أحمد ، شو في مينا هاي
– طلعي فيها منيح
تمعنت هيام في الوجه الخمسيني و صاحت
– نجاح النورية
-هي بذاتا
ووقعت المرأة البصارة على الأرض مغمى عليها .

-28-
في القرية الجبلية حيث تقيم أم جبر والدة هيام ، جلس كل من جبر و أمه و توفيق و شيخ القرية يتحادثون . قال توفيق :
-يا أم جبر ، أنا طالبك ع شرع الله و انا ما أكبر بالعمر و انتي متكبري ..
قاطعه جبر :
-هلق فهمت لشو أبتقبلك ؟
– بالله هات لشوف
– حدا بيقول لمرا عم تكبري بالعمر ، معقول عمي توفيق ؟!
ضحك الشيخ حسن قائلاً :
-اي بيديني بدك ميت سنة تتعلم
قالت ام جبر :
-اذا كل ولادي بيوافقوا بقبل فيك روح ع الشام و جيبن معك
فصاح توفيق فرحاً
-اي بي أمرك أنا و الله رايح ع الشام هلق
قالت أم جبر مبتسمة :
-شو طق عقلك .. استنا للصبح أفي بوسطة هلق
أطرق توفيق و سكت و قال
-والله صحيح
قال جبر
-إمي
– نعم
– إمي
– ولك اي نعم
– أنا حكيت اخوتي كلين و حكيت هيام
– اي و شو
– كلين موافقين و أنا أول واحد
سكتت أمه ثم قامت إلى مطبخها تقول :
-اليوم الغدا فاصولية خضرا محي بيروح و ما يتغدا
و امتلأ وجه توفيق فرحاً
-29-
في بيت هيام عقدت محكمة كاملة لنجاح النورية حضرها النقيب علي و أخوه و أختهم الكبرى …
-يا بنت الحرام بسببك مات بيي ظلم و شنقوه و تشردنا كلنا
– شنو ذنبي أني يا ستي شنو ذنبي أنا ؟
– ذنبك آه يا قوادة .. احكي كلشي .. كلشي بدك تحكيه
قال علي :
-صرلي سنين عم دور عليكي
– والله مالي ذنب بالي صار آني شو مدريني تصير جريمة ؟
– احكي كلشي بتعرفيه
– رح أحكي .. راح أحكي
– احكي
– بس الموظوع صار ثمان تسع سنين و نسيت
– احكي وليك
– طيب
– الببيك كان نسونجي و يحب النساوين ، و أني خطابة اشتغل خطابة
– اي
– يوم الصارت الجريمة كان يريدتش انتي هيام
– من وين بيعرفني
– آني قلت له ( تتلكأ)
– ايواه و وقت انضرب بسكين ليش صحتي شحادة قتل البيك !! ليش يا بنت الكلب ؟ و صفعتها على وجهها .
– آني ظنيت أبوتش قتله لأن ما شفت مليح مين ظربه بالستشين ( السكين) .
– ماشفتي آه
– لا بالله ما شفت … بس بعد سنة عرفت مين
يسكت الجميع
-الي قتل سري فرحان هلال و هو من حارته لأن ظن بيه يعتدي على حرمة بيته، و هالكلام آني عرفته بعد سنة ، يعني الي صار صار و الله يرحم أبوتش و آني مذنبة عند ربي بس ما دخلني بالجريمة .
قال علي :
-وينو هاد فرحان هلال
– بحمص
قالت هيام :
-الله يرحمك يابي .. الله يرحمك .
قالت نجاح :
-يا ست هيام .. الله يرحم أبوتش آني اعترف كنت انسانة خطاءة و عايبة و كل شي بس بالله عليتش الي تستغل تلف الشوارع بصارة ، هاي شنو تظنين فيها ؟
آني رب العالمين عاقبني بأغلى ما عندي … ( تبكي ) .. عاقبني بأغلى شي و تبت لله .. ولدي الوحيد راح مني قتل . و أريد أقلش و أقول لا اخوانش الله يموتني و يعذبني بناره لو من يوم حادث ابني عملت خطية وحدة .. آني تبت لله توبة نصوحة و أرجوتش تسامحيني ( تبكي ) .
تركت هيام غرفة الجلوس و ذهبت إلى غرفة نومها لتحضر بعض المال ..
-شرفي
-شنو هاذ
– خدي
-لا منش ما آخذ
– ليش
– آني بصدري ذنب كبير و آخد منش فلوس ما اقدر
– خدي خدي لا تشحدي بالشوارع و تعالي لعندي كل مرة و مرة بعطيكي
بكت نجاح النورية نهر دموع، و كانت تدعو لهيام و اخوتها ، ثم فتحت الباب و خرجت .
يتبع

 

ملاحظة : أي تشابه  أو تطابق في الأسماء مع الواقع جاء بمحض الصدفة ، و الأحداث التي تجري صنعها الكاتب بناء على الواقع و محاكاة له ، إنما الأسماء لا تعني  أبداً  انها حقيقية .