يكثر الجدل حول الدعوة إلى الإصلاح في العالم العربي. ويقول البعض بأن ذلك أصبح ضروريا بعد كل ما حصل. ولكن كثيرين يعتبرون ذلك انصياعا للغرب الذي نصب نفسه أستاذاً علينا بدون حق. وبالتالي فهم يرفضون القيام بالإصلاحات الملحة إذا كانت مفروضة من الخارج، وخاصة من قبل الغرب. ويواصل هؤلاء اعتراضهم قائلين: نعم للإصلاح، ولكن بشروط. فالغرب يريد أن يعتدي على عقيدتنا، وأن يغير تفكيرنا، وهذا ما لا يمكن أن نقبل به على الإطلاق. ثم إننا لسنا تلامذة في المدرسة الابتدائية لكي يقال لنا ما ينبغي أن نفعله أو لا نفعله، أو لكي يملي الغرب علينا شروطه. والإصلاح إذا لم يكن ناتجا عن رغبة داخلية عميقة وعن عوامل ذاتية لا أجنبية لا يمكن أن ينجح أو يترسخ في الأرض.
واعترف بأن هذه النقطة الأخيرة صحيحة إلى حد كبير، ولكننا نعلم أن الإصلاح ـ أو التحديث ـ في اليابان، مثلا، حصل بفعل عوامل داخلية وخارجية في آن معا. وقل الأمر ذاته عن الصين أو الهند أو روسيا، أو أوكرانيا المشتعلة حاليا بسبب الخلاف على الإصلاحات الديمقراطية ومدى الحدود التي ينبغي أن تصل إليها أو لا تصل، وذلك من جملة مسائل أخرى.
وبالتالي فعلى مدار التاريخ كانت الأمم المتأخرة تتأثر بالأمم المتقدمة وتقلدها، وهذا ليس عيبا بحد ذاته. فالغرب الأوروبي نفسه تأثر بالفلسفة العربية والحضارة الإسلامية عندما كان عندنا فلسفة أو حضارة.
ترى، ما هي الثوابت في نهاية المطاف؟ إنها العقيدة الدينية واللغة العربية بالدرجة الأولى. فهل إن التنويريين العرب يريدون تغيير هذه الثوابت؟ بل هل الغرب نفسه قادر على تغييرها؟
لنأخذ اللغة العربية كمثال أولاً. هل يوجد مثقف نهضوي واحد يدعو إلى تغييرها وإحلال الفرنسية أو الإنجليزية محلها؟ ربما، ولكن حفنة من غلاة الاستغراب أو الانبهار بالغرب. أما غالبية الليبراليين من طه حسين وحتى اليوم فهم من أكثر الناس حرصا عليها، ولكنهم يدعون إلى تطويرها وتبسيط قواعدها وتقريبها من لغة الحياة لكي تصبح أكثر قدرة على مسايرة التطور واستيعاب العلوم الحديثة. فهل اكتب أنا الآن بنفس اللغة التي كان يكتب بها طرفة بن العبد أو الشنفرى؟ إذن فهناك تطور يطرأ على اللغة، ولا يوجد شيء جامد أو ثابت إلى أبد الدهر. أما المحافظون فمن شدة إعجابهم بالماضي أو استلابهم فيه فإنهم يتمنون لو انه يستمر ويستطيل إلى أبد الدهر. بل إني لم اعد أكتب بلغة مصطفى صادق الرافعي ذات السجع والوزن المقفى. إذن فلا توجد هوية ثابتة في التاريخ. توجد هويات متجددة ومتطورة، متماشية مع العصور والظروف والمستجدات.
وأما فيما يخص العقيدة الدينية فلا يوجد شخص فيه ذرة عقل يقبل بتغييرها، أو يقدر عليه حتى لو أراد. فالعقيدة تبقى ثابتة على مدار التاريخ، ولكن فهمها يتجدد على مر العصور. ففهم الوسطيين للإسلام ليس هو ذاته فهم المتطرفين الغلاة والمتزمتين.
هذا ما حصل للمسيحية في أوروبا. والكل يعلم أن الشعوب المسيحية لم تنهض وتتفوق على شعوب الأرض كافة إلا بعد أن جددت فهمها للعقيدة وتحررت مما كان يعرقل نهضتها، ونتج عن ذلك تيار ليبرالي مسيحي ديناميكي هو الأوسع انتشارا في كل المجتمعات الأوروبية أو الأمريكية الشمالية المتقدمة. ولكن نتج أيضاً تيار مسيحي أصولي متزمت ظل حريصاً على القديم أو متشبثاً به، وهو يشكل أقلية قليلة، عكس ما يذاع أو يشاع عندنا.
بالطبع فإن انتشار الثقافة العلمية والفلسفية في الغرب بدءاً من القرن السادس عشر ساهم في انتصار التيار الليبرالي على التيار الأصولي في كل أنحاء أوروبا. ولكن هذا الانتصار لم يحصل حتى الآن في المسيحية الشرقية أو الأرثوذكسية، على عكس المسيحية الغربية التي حققت المصالحة بين الدين والحداثة بعد صراع مرير. ولهذا السبب فإن أوكرانيا تكاد تنقسم قسمين: قسم شرقي أرثوذكسي تابع لروسيا وبطريركية موسكو، وقسم غربي تابع لبابا روما وميال إلى الغرب. وهذا يعني أن الغرب يقسم العالم كله قسمين وليس فقط عالمنا العربي أو الإسلامي: قسم ميال إلى حداثته ويريد استيرادها وتبنيها مع إجراء بعض التعديلات عليها لكي تتوافق مع الظروف المحلية، وقسم متقوقع على ذاته، على تراثه القديم. والصراع جار على قدم وساق بين هذين التيارين في الهند والصين وأميركا اللاتينية والعالم العربي، بل وحتى روسيا الأرثوذكسية، إذ كانت منقسمة منذ القرن التاسع عشر إلى قسم ليبرالي تنويري يعزو كل أمراض روسيا وتخلفها إلى انفصالها عن أوروبا الغربية، وقسم سلافي قومي معتز بشرقيته ومذهبه الأرثوذكسي والمؤسسات البطريركية لروسيا العتيقة أو العريقة، سمها ما شئت. وهذا الانقسام انعكس في أعمال الكتّاب الكبار، مثل ديستويفسكي وتورغنييف وتولستوي. وهو الذي يمزق أوكرانيا حاليا كما قلنا وقد يؤدي إلى تقسيمها.
ما سر كل هذه الجاذبية التي يمارسها الغرب على جميع ثقافات العالم؟ انه يتلخص بكلمة واحدة، كلمة سحرية أو شبه سحرية: الحداثة. ولكنها كلمة تنطوي على معان أو آفاق واسعة تعجز المجلدات عن أن تحصرها فما بالك بمقالة واحدة؟!
سوف اكتفي إذن بالتركيز على مسألة الحرية الفكرية التي تشكل السمة الأساسية للحداثة. كل التراثات البشرية تقسم الفكر إلى ثلاثة نطاقات متمايزة: المفكر فيه، اللامفكر فيه، المستحيل التفكير فيه. وهناك جدلية صراعية بين المفكر فيه واللامفكر فيه من جهة، وبين الممكن التفكير فيه والمستحيل التفكير فيه من جهة أخرى. فمثلا في العصور الوسطى الأوروبية كانت أفكار كثيرة تدخل في نطاق المستحيل التفكير فيه بالنسبة لأناس ذلك الزمان، كانت أفكاراً جنونية وغير مقبولة على الإطلاق. ولكنها أصبحت الآن تحصيل حاصل في فرنسا، أو بلجيكا، أو ألمانيا، أو هولندا، الخ. لماذا؟ لأن الحداثة مرت من هنا. ما هي السمة الأساسية التي تميز مجتمعات الحداثة عن مجتمعات ما قبل الحداثة؟ إنها تكمن فيما يلي: نطاق المفكر فيه أو الممكن التفكير فيه يتزايد ويتسع جدا في مجتمعات الحداثة، في حين أن نطاق اللامفكر فيه أو الممنوع التفكير فيه يتقلص ويضيق إلى أقصى حد، وذلك على عكس مجتمعاتنا الشرقية التي لم تدخل الحداثة فعليا بعد. فهنا نلاحظ وجود قارة شاسعة واسعة من اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه أو الممنوع التفكير فيه منعا باتا. وفي ذات الوقت نلاحظ وجود نطاق ضيق، صغير محدود من المفكر فيه أو الممكن التفكير فيه أو المسموح التفكير فيه.
ولهذا السبب فإن الثقافة العربية تحولت إلى ثرثرات فارغة في قسم كبير منها، أو قل إنها تلف وتدور حول نفسها دون أن تتجرأ على طرق الموضوعات الأساسية التي تنخر في جسد المجتمعات العربية والإسلامية. هذا هو معنى اللامفكر فيه أو المستحيل التفكير فيه. فالمثقف الفرنسي أو الإنجليزي يستطيع الخوض في شتى الموضوعات التي تخص بلاده، بل أن يتهمها بممارسة التمييز العنصري أو حتى الطائفي تجاه الباكستانيين أو المغاربة أو العرب أو المسلمين بشكل عام دون أن يتعرض لأي أذى أو تهديد في عمله أو وظيفته. هذا هو معنى الحرية الفكرية. كل الموضوعات قابلة للنقاش والوضع على بساط البحث، بشرط أن نكون جادين ونستخدم محاجات عقلانية مسؤولة في مناقشاتنا.
قد يقول قائل: ولكن هذه بلدان متقدمة استطاعت أن توسع دائرة المفكر فيه أو المسموح التفكير فيه على مدار ثلاثمائة أو أربعمائة سنة من تاريخها المتطور الصاعد. وأما نحن فلم نخرج من مرحلة الاستعمار إلا قبل ثلاثين أو أربعين سنة، وبالتالي فلا نزال في بداية البدايات. هذا صحيح، ولذلك فنحن لا نطالب بكل شيء دفعة واحدة. نحن نطالب بفتح الأبواب المغلقة بالتدريج وعلى مراحل، لأن فتحها دفعة واحدة قد يؤدي إلى هبوب الإعصار الذي يكتسح في طريقه كل شيء!