نحن من عاش في بلاد حُكِمَت لعقود من منظومات الاستبداد اعتدنا أن نقف صباحاً، أطفالاً كُنّا أم مُراهقين ، نُحيي الدكتاتور ونُقدّم له حياتنا ودماءنا فدية لبقائه الأبدي ، كانت هذه أناشيد الصباحات اليومية والتي إن لم تُتقِنها وتردّدها تُصنّف مع عائلتك بالخونة والعملاء وما يتبع هذا التصنيف من ملاحقات ليست فقط أمنية واعتقالات ، وإنما منع من أبسط الحقوق وهي أن تحصل على عمل في المستقبل ضمن منشآت الدول .
كُتِب الكثير عن هذا ، ولكن مالم يُكتب عنه كما يجب هو القتل الممنهج للطفولة داخل المؤسسة التعليمية التابعة للمنظومة الدكتاتورية. في الصف الثامن كُنّا وبعد أناشيد الخنوع الصباحية نتناول وجبة الذُّل التي يقدمها المُدرّسين على اختلاف اختصاصهم، تميم كان طالباً يتيم الأب ، ولا أذكر يوماً مر دون أن يُضرب تميم على قدميه من أحد المُدرّسين ، وحين ينشغل عنه المُدرّسين، وهذا قلما يحدث، كان موجّه الصف يتذكره ويقوم بسلخ جلد ساقيه من الضرب بعصا الرمّان.
كان ذنبُ تميم أنه لا يستطيع الجلوس ويداه مضمومتان إلى صدره، وكانت هذه الجلسة هي المفروضة على الطلاب، لم يكن تميم الطفل المُشاكس ليعصي أوامر المدرسة، ولكن كان تميم مصاباً بما يُسمّى فرط النشاط، وهو حالة موجودة عند الأطفال بنسبة تتجاوز الثلاثة بالمئة، هذه الحالة التي تجعل من الطفل الذي يحملها غير قادر على التّركيز وفي معظم الأحيان غير قادر على الجلوس هادئاً لفترة تتعدى بضع دقائق . لا أذكر أن مُدرّساً واحداً أشار إلى أن تميم من الممكن أن يكون غير قادر على التّحكُّم بسلوكه وكل ما أذكره أن المدرسين كانوا يُبدعون في اختراع أساليب عِقاب تميم وعلانية أمام كل طلاب الصف ، لم يكن هذا دور المُدرّسين فقط فقد كانت والدة تميم كثيراً ما تأتي الى المدرسة لتشتكي عن سلوك تميم غير المنضبط في البيت وهذا ما يستدعي عقوبات اضافية بحق تميم. هرب تميم من المدرسة في نهاية العام وتحول لاحقاً إلى مايسمى الشَّبيح ، ولكن ما توقعته لتميم هو أن يتحول الى قاتل متسلسل وهذا لم يحدث للآن .
على الرغم من أن مفهوم العقاب بالضرب قد أصبح قليلاً في وقتنا الحالي في المدارس السوريّة، ولكن تَحوّل العقاب لهؤلاء الحاملين لهذه الحالات إلى نمط من أنماط السخرية والتّحقير اليومي وهذا ليس أقل أذية من مفهوم التعنيف الجسدي، نحتاج إلى التّركيز وزيادة التّوعية للأهل على منع معاقبة أطفالهم من قبل الجهاز التّدريسي تحت أية حجة كانت وبأي وسيلة. أتمنى أن أتمكن في المستقبل القريب من انجاز كتاب أتناول فيه حالات فرط النشاط وأساليب العلاج المدرسي بناء على تجربة المؤسسة التعليمية في النروج وبلاد الاسكندناف ، ولكن الأهم الأهم أنتم كأهالي أن تحموا أطفالكم في المدارس وتواجهوا أي مساس بهم، إن الإساءة المُستمرّة للأطفال في طفولتهم هو قتل لحاضرهم ومستقبلهم وهو تعذيب غير أخلاقي لحلقات أضعف اعتادت المجتمعات المصابة بلوثة الدكتاتورية أن تُمارسه في يومياتها الاعتيادية و تُمرّر القضية وكأنها ماكانت ، رغم آثارها النفسية الكارثية.
مأمون جعبري : بكالوريوس في علم اصول التدريس الحديث من جامعة الشمال في النروج.