°
, April 25, 2024 in
آخر الأخبار
ثقافة

نظرة في التطرف – جبران خليل جبران

ما ذهب أمرؤ مذهباً في الدين أو الفن أو الاجتماع إلا وحسب ما يخالفه غبياً رجعياً .

لكن غصباً عما في هذه القاعدة من الأثرة والعصبية فهي تفضي في أكثر الأحيان إلى الحقيقة , وعلى الأقل , إلى جوار الحقيقة . لأن المغالاة في أمر تقصيه جزماً إذا كان بُطلاً أو تقرره حتماً إذا كان حقاً .

وليس من الممكن أن يتفق الناس على قضية , وهم المتباينون باستعدادهم الفطري وعقليتهم المقتبسة .

من الناس مثلاً من لا يرى في الحياة سوى قشورها لأن أنوار الحياة لم تخترق غير قشوره . على أن له من تلك القشور سراطاً يتمشى عليه مؤمنا ً . فليس لنا أن نلومه ونبكته لأننا . إن فعلنا , كنا راغبين في تحويله عما يستطيعه , وهو نافع له , إلى ما يجهله و هو مضر به .

الناس واحد بأرواحهم , أما بعقولهم فهم طبقات تندرج من الأدنى إلى الأعلى من الغيبوبة إلى اليقظة من العروق المتمسكة بظلمة الأرض إلى الأزهار المتمايلة بنور الشمس , ولكل طبقة استعداء وشوق إلى الطبقة التي تعلوها . ولكل طبقة عينية لابد من تقريرها في زمن من الأزمنة . ولكل طبقة صفة خاصة من الاجتماع بمنزلة اللون الرئيسي من الموشور . ولكن هذه الطبقات جميعها مغمورة بعطف الله ورأفته فليس إذن من الحصافة أن تقول الأزهار للأغصان – ” لست بشيء لأنك لست مثلي ” أو تقول الأغصان للعروق – ” ما أجملني مشيرة نحو النجوم وما أقبحك منغرسة بالتراب ” .

للعصبية حسنة إجرائية وهي أنها تبث في المرء عزماً فعالاً و إرادة ايجابية ولكن لها نقيصة رجعية وهي أنها تقصي صاحبها , على غير معرفة منه , عن الحقائق الكلية فيصبح , رغم عزمه أو إرادته رهن حقيقته المحدودة المقررة , وما المحدود المقرر سوى صورة جامدة , أما الحياة فحركة دائمة أبدية لن تقف حتى تنطفئ الشمس وتصبح هذه الأرض كتلة من رماد .

ولقد نظرت فرأيت أن أحسن مزية في الناس رغبتهم في إدراك المجهول . ولولا هذه المزية لظلت البشرية حيث كانت منذ أدهار . ورغم أننا نتسرع إلى امتهان المنصرفين عن الظاهر المعروف إلى الخفي المستتر , فندعوهم آناً بالواهمين وآناً بالخياليين , فهم الرائدون السباقون الذين ينتحون عن السبل المطروقة ليكتشفوا مسالك جديدة في أودية جديدة أو في مروج عذراء . فإذا ما تطرفوا في إعلان دعوتهم وتمادوا في نبذ كل ما يعاكسها , فلأنهم يعرفون بغريزتهم أن من يريد الحصول على القليل عليه أن يطلب الكثير . لا , ليس التطرف فضيلة بحد ذاته ولكنه يجيء ملازماً لفضيلة كبرى . فضيلة الابتداع والتطور . فضيلة الشوق إلى ما وراء الحجاب .

جبران خليل جبران . منشورة في ” السائح ” 12 حزيران 1924

أخذت كما هي منشورة مجدداً في ” لكم جبرانكم ولي جبراني – مع خمسين نصاً مجهولاً لجبران ” للباحث جان داية . من منشورات قب الياس . الطبعة الأولى بيروت – كانون الثاني 2009 .