-1-
راديو
ترك شحادة الحطاطة البيضاء تسقط عن رأسه و هو يهم بتعبئة الجرة من العين، كان يعرف أنه سيعود لالتقاطها . لقد حرص أولاً على إزاحة عقاله الأسود، لأنه يؤمن بأن العقال ذو قيمة خاصة للرجل، و يجب احترامه .
شرب غبة ماء بعد أن ملأ جرته و قال بصوت مرتفع :
-أفي شي بيروح عطش البرغل غير عين العنازة
لملم أشياءه و تمنطق من جديد و فتل شاربيه المبلولين ، ثم قام و هو يصيح بعنزاته لكي تلحق به، بعد أن شربت هي أيضاً .
دخل القرية ماراً ببيوتها المتكئة على كتف الجبل، و مثل كل يوم رأى الرجال يعودون بقطعان العنز و البقر ، فامتلأ الجو بتلك الرائحة المعهودة كل مساء، و بأصوات الرعاة و هم يشعرون قطعانهم بوجود السيد ، فلا تحيد عن الطريق المخصص لها .
صاح شحادة بجاره توفيق قائلاً :
-سلام عليكين
-وعليك السلام كيف كان نهارك ؟
– متل كل يوم يا ريتني متلك
– متلي ؟
– ايه شو قال اشتريت راديو
– لا والله بس بدي اشتري، ابن عمتي صيوح اجا من بانياس و قلي فيه راديو بليرتين و ربع ، قلت لحالي ببيع دخانات عمنول و بشتريه ، والله عم مل كتير، و قلتلو ازا أبيطلع فيروز أبشتريه !
– معك حق
– ليك منصير نرعي سوا و منسمع سوا
هنا صاح حسون الواقف معهم يستمع
– و أنا أبتسمعوني ؟
– ولك ايه منسمعك بس من أولها ها إزا يتجي يوم بلا حمام أفي تسمع
– بالله ولك مو عيب عليك
– لشو عيب أفيني أتحمل الريحة
– بدك هلق أفقعك كف .. و هجم عليه
بالكاد استطاع شحادة أن يخلصهما من العركة الفجائية، و يصيح بهما
-ولك عيب صرنا بقلب الضيعة هلق بيشوفوكين الولاد و النسوان شو رح يقولو ها ؟ شقدك كر أنت وياه
– شو ما سمعت شو حكا هالدب
– ولك الراديو الي ( قال توفيق )
فجأة قال حسون
– هلق أنا بسمع بالراديو و انو بيسمع شغلات و أغاني بس أبعرف شو يعني هوي تماماً
– أبتعرف شو هوي تماماً ؟؟! ( بسخرية )
– ولك منان بدي أعريف ، بسمع فيه بس بي عمري ما شفتو
– أنا رح اشرحلك
– هات لشوف
– بس أبتزعل !!
– و لشو بدي ازعل
– هلق ازا افترضنا انك كلب
– ولك !!
– لك فرضاً فرضاً
– ايه
– و ازا افترضنا اسا انو تمك هاني بنص الضيعة و دنبك طويل طويل للازقية
– ايه
– و ازا وصل دنبك ع كورنيش اللازقية و شي حدا ماشي قام دعس ع دنبك ! أبتعوي هاني ؟؟
– ( يفكر ثم يقول) طبعا بدي عوي
– اي هايا هوي الراديو
-2-
مشرِّق
لا قمح على الجبال ، كانت الأسر الفلاحية تعاني معاناة شديدة في تأمين الخبز.
فلاتتوفر في الجبل مساحات مستوية كافية لانتاج القمح، كما أن الطقس لا يساعد على استزراعه مثل سهل حوران أو الجزيرة أو ( الجفتليك ) في حمص .
كلمة ( جفتليك ) من التركية حيث ( تشيفت) يعني مزوج أو ثنائي و ( ليك ) للدلالة على المطرح أو الزاوية ، و هكذا فالجفتليك يعني ( الأرض المزدوجة) !
حيث بالفعل تتمتع تلك الأرض الطيبة، الممتدة من حمص إلى المخرم شرقاً و ما بعد المخرم بكونها (شمالية جنوبية ) أو ( يمينية يسارية ) عندما تعطي ظهرك للمدينة و تمشي في سهولها ووديانها التي كانت تزرع يشتى أنواع المزروعات أهمها ( المقتاي) أي الخيار و القثة و البطيخ و الشمام .. و كنت تزرع قمحاً أيضاً .
أبقى شحادة عنزاته عند توفيق في قرية الدالية، و أخذ العربة و الحمار بعد أن أقنع امرأته بالذهاب للمشاركة في حصاد القمح في الصيف شرقي حمص . كان يعرف أن الحج محمد الجندلي و هو من كبار ملاك الأراضي في المنطقة سيحتاج إلى الحصادة .
كانت الطريق صعبة و ملتوية عبر وادي جهنم، و لكن شحادة كان خبيراً بها، و كان يعرف متى عليه التحرك و السفر، و متى عليه أن يتوقف مع أهل بيته الذين جلس البعض منهم في العربة، و قرر البعض أن يمشي .
كان له ثلاثة أولاد و بنت واحدة هي الكبيرة، تدعى ( هيام ) و كان من حبه لابنته يرضى أن ينادى ( أبو هيام ) مع أن ولده الأكبر اسمه ( جبر ) .
كانت هيام الحلوة ذات شعر أشقر،عيناها بنيتان مائلتان للسواد، ووجهها أبيض ملائكي، إذا ضحكت يطلق ثغرها اشعاعة شمس. بيد أن أباها كان يخاف عليها، من عين الإقطاعي الذي اشتهر بأنه نسونجي، يدور بين الفلاحين لاصطياد البنات . عندما وصل الرحل إلى مصياف ابتاع الأب خبزاً طرياً و اختار لعائلته قرنة منزوية جلسوا جميعاً يتفيئون فيها، حيث أخرجت الأم زوادتها ووزعت أقراص البندورة و الشنكليش على الجميع . قال شحادة :
-هلق بالشوب بدك تطعمينا شنكليش معقولة أنتي ؟
-البدك ياه كلو في زيتون مالح نفس الشي
-ما ضل لبين ( لبن) ؟
-ضل بس حامض و هلق اذا شربتو بيصير بدك تنام
غير شحادة الموضوع فجأة قائلاً لزوجته :
-ماقلتلك قصي شعر البنت
– وجعني قلبي عليها ما سخيت
– لك عم احكي بالطاحون أنا ؟ قومي قصيلا شعرا خليها متل اخوتا
قالت هيام :
– إمي حرام عليكي لشو لتقصو شعراتي شو عملت أنا
قال الاب:
– يا بي ما عملتي شي يا روحي بس هيك أحسن
– لشو ما فهمت ؟
– هونيك مطرح ما رايحين أبدي قول عندي بنت، بدي قول عندي أربع ولاد صبيان، الأجرة بتكون أحسن يا بيّ و شعرك بيرجع يطول .
تآمرت الأم و ابنتها فقصتا بعضاً من شعر الصبية ووضعت غطاء على رأسها فظن الأب أن أوامره نفذت .
-3-
في ليل ذاك اليوم وصل شحادة و عائلته إلى قلعة حمص، هناك حيث كان يلتحف السماء فيما مضى عندما كان يأتي وحده، أو مع بعض رفاقه للحصيدة، حتى يبيتوا في جورة القلعة، ظناً منهم أنها أكثر آماناً، لاقترابها من مقام الخضر ( ع) و لان تضاريس الجورة كانت تسمح بإيجاد مغيرة صغيرة، يلجأ إليها إذا هطل المطر.
التحفت العائلة السماء في جورة القلعة، بعد أن صنع الأب ما يشبه الخيمة و التف أفراد الأسرة، كل واحد منهم بدثار حتى طلع الصباح .
قامت الوالدة و ابنتها هيام التي بدت كولد واضعة طاقية أخيها على رأسها، و أشعلتا ناراً وضعتا فيه الماء لتسخينه، ثم قامت هيام بتصويل برغل الفطور، لأنها تعلم كم يحب أباها أن يفطر البرغل .
في هذا الوقت تجول شحادة بين باقي الفلاحين القادمين من الجبل ليسألهم عن وجهتهم، فيختار طريقه معهم ، كان الكل متجهاً إلى حصاد القمح شرقي المدينة!
بعد ساعتين من الفجر سارت قافلة الفلاحين باتجاه الشرق عبر باب تدمر، و كان كل واحد من الرجال يمسك برسن حمارته أو بغلته ماشيا، بينما ركبت العائلات في العربات من الخلف .
فهم شحادة من أحد الفلاحين أن بعض الأراضي المحيطة بالقلعة في حارة الخضر يتم بيها كمحاضر سكنية ، و أن أحد الملاك من آل السباعي باع من هذه المحاضر للفلاحين العلويين في سابقة أشعرتهم بالسعادة، و بأنهم باتوا قادرين على النزول من الجبل، و العيش في حمص ! فلقد ضاق الجبل على الناس و لم يعد القوت ممكناً .
يتبع
رواية الأرض التي ستنشر في الموقع على حلقات هي رواية للدكتور محمد عبدالله الأحمد كاتب وسياسي سوري ، حاصل على درجة الدكتوراه في العلاقات الدولية ، ويعمل كأستاذ جامعي وكاتب سياسي وأدبي .