°
, January 22, 2025 in
آخر الأخبار
ثقافة

أدونيـس الإنسـان، جوهريـاً، شِـعر . حاوره أحمد الحافظ

 

لم تزل نارُ أدونيس موقدةً، فوق ذُرى الحاضرِ، منذ ستّة عقود، تستقبل بها ليالي الأخيلة فجرَ المعاني، تَنشر ضوءها ريحُ الزمان على نوافذ الأمكنة، ويتداولُ أناشيدها الصاعدون من سفوح الواقع إلى أعالي المثال.

شِعرٌ كمِثلِ مدينةٍ فريدةٍ في هذا العالم: بُنيت على الموج، وتسوِّرها العواصف.

 

ساحاتُها نوادٍ تتجادل فيها الأجيال, بيوتٌها مختبَراتٌ تتفاعل فيه العناصر، وناسُها: أبدانٌ ترفل بقمصان الروح، وأرواحٌ تضجُّ بأعراس الجسد.

فكرٌ لا يرث إلا التحوّل، ولا يؤسِّس إلا للسفر. يشابك الجذور كي تقوى الفروعُ وتسمو. يشعل الهوامشَ كي يتحرّك المركز، ويرجُّ الأجوبة كي تلد أسئلة جديدة، أدواتُه مسابرُ موهوبةٌ في كشف الدفين وفضح المستور، وإضاءة المُعمَّى. وغايته امتحانُ الحقائق على مراجل التجربة.

ترجماتٌ وفيّةٌ وفاءَ الأرض لمواهب الفصول: لكلّ فصل مناخٌ خاص، ورنينٌ مختلف، وألوانٌ جديدة، وكريمةٌ كرمَ الدار العامرة: يصعب فيها التفريق بين المضيف والضيف.

هكذا، حين تقرأ نصوصَ أدونيس تطوف في أنحاء المعمار الباهر للسيمفونية، وتلمس الكيمياءَ السريّةَ لألوان اللوحة، وتشهد نموّ المصائر وتلاطمها على المسرح.

مجرّب؟ نعم. لأنّ المعاني المستقرة أوهامٌ طاغية، والأشكال المحكمة أغلالٌ من حرير، والإيقاعات المعادة طواحينُ رماد.

مخرّب؟ هذه هي عادة النبع إذا فار واندفع: لا يبالي بمصير الصخور الكاتمة طاقات الماء، ولا يهاب غضبَ حرّاس الصمت من علوٍّ هديره.

معلّمٌ؟ بل تلميذٌ مؤبّد في مدرسة الضوء: قراءُته كتابة، وكتابتهُ محوٌ، شَغبه حكمةٌ، وحكمته طفولة.

وأدونيس، إلى ذلك شابٌّ في مقتبل الثمانين، عنوانه الغد، وقته سجال حارٌّ بين الإقامة والرحيل، وصداقتُه حوارٌ للإصغاء فيه حصةٌ تُعادل، أو تزيد عن حصّة الكلام.

يلقاك طلق المحيا، خفيف الخطوات، مُشرّع الصدر، ويُودّعك بنظرتين: نظرة إلى البعيد ترجو أن يبقى الأمامُ جهتك الآمنة، ونظرة إلى الداخل تتفقّد آثار حضورك في غُرف القلب.

في قصابين، في بيته العالي الخصيب، واحتفاء منه، كما قال: بالانطلاقة الجديدة لمشروع مجلة (فكر) كان هذا الحوار. شئناه إضاءات على شعر أدونيس وفكره، وشاءه صدى بوحٍ حميم . أ.ح

 

صار بيت أدونيس مَعْلَماً ثقافياً واجتماعياً في المنطقة، تهفو إليه أجيال المبدعين، تتعمّق فيه الصداقات وترتبط ببابه المشرع نشاطات ثقافية موسمية. حين قررت بناء هذا البيت، هل كنت تنوي إنشاء مكان خاص للتأمل والإبداع، أم تأسيس منتدى عام؟

كنت آمل أن يتحقق الأمران في هذا البيت، ثم عرفت أنّ ما يتّصل بالشقّ الثاني من السؤال يخضع تحقيقه لنوع من الإشراف تقوم به الدولة، أو على الأقل لنوع من العلاقة. وهذه مسألة تعطي للمشروع بُعداً آخر لم أفكر فيه، لا بدّ من إعادة النظر، ومن التأمُّل مجدّداً.

هل تشعر، وقد تنقّلت بين بيوت كثيرة في بلاد شتّى، أنّ هذا هو بيتك الحقيقي. ما هو مفهوم “البيت” لديك؟

“قصابين” بيتٌ لي من حيث أنّ خطواتي الأولى خرجت إلى العالم عبر ترابها، أو منه. ومن حيث أنّ هذا التراب هو الطينة الأولى، ولادةً وطفولةً، في المادة التي أتكوّن منها.

لكن البيت “مَعْنى” أيضاً، معنى يتخطّى “الجغرافيا” وإن كان متأصّلاً فيها، وهذا المعنى مفتوح ولا يكتمل أبداً: مفتوح، أفقياً، على العالم كلّه، على “البيوت” كلّها. ومفتوح، عمودياً، على اكتناه هذا العالم، واكتشاف أسراره وطاقاته.

“الحضارة أسراب طيور مهاجرة لا ترحل إلا لكي تُقيم، ولا تقيم إلا لكي ترحل”. أيمكن أن ينطبق عليك أيضاً هذا القول؟ تبدو صفة “المرتحل” أكثر شبهاً بكم من صفة “المنفي” ما دمت مرحّباً بك في وطنك، ويبدو لي أنّ قرار هجرتك كان ذاتياً إرادياً لا قسرياً.

صحيح. تنطبق على حياتي صفة الترحّل. لا المنفى. غير أنّ للمنفى دلالةً أخرى، بالنسبة إليّ، تتيح لي الانتماء إلى عالم النفي، إنها الدلالة الإبداعية، الشاعر مَنفي داخل لغته ذاتها. من حيث أنه نزوعٌ متواصلٌ للخروج مما أبدع نحو ما يطمح إلى إبداعه. كأنه يعيش في “منفى” يتنقل من أفق إلى آخر، أو من ضوء إلى ضوء، أو من حالة إلى حالة. أو لنقل، بتعبير آخر:

أن يشعر الإنسان أنّه يجيء من المستقبل فذلك نوع من الشعور أنه يعيش في “منفى” على الأقل، داخل اللغة التي يكتب بها.

” سُقوطاً سقوطاً، يا عناقيدَ أيامنا

ما أحرَّ النضوجَ، وأكرمَ السقوطْ “.

لعلّك الشاعر العربي الأكثر احتفاءً بـ “الشيخوخة” . أهو تآلفٌ مع حكمة الزمن، أم اعتزاز بما أنجزته في هذه الرحلة الشاقة الطويلة .

لا هذا، ولا ذاك. إنه نَرْدُ اللحظةِ يُرمَى على بساط الأبد.

البيت السابق مقتبس من قصيدة حب في كتاب “أوّل الجسد، آخر البحر” . تبدأ مقدمة الكتاب بأحاديث نبويّة ومقتطفات من التراث عن مباهج الجنة وتنهيها بالتأكيد على أنك ستظل وفيّاً لوعد أن تضع، كل يوم، رأسَ الجنة على خاصرة الحياة !

يجب أن نعمل جميعاً، كلٌّ بطريقته، على أن نجعل ماء “الجنة” يجري في جحيم الحياة، لابساً غُبارها، كل نبوّةٍ ليست ترابية ” لا يُعول عليها”.

تقول: “ابتكر قصيدة وامضِ. زِدْ سعةَ الأرض”. وتصف القصيدة بأنها “الغاسلةُ وجهَ المكان”. هل زادت سعة الأرض بما أبدعه الشعراء.. أنتم خصوصاً؟ هل تشعر أنّ وجه المكان الذي تنتمي إليه صار أنقى بفعل القصيدة؟

طبعاً، من الأدلة على ذلك الوعي الذي يصدر عنه هذا السؤال، وما يماثله.

“أغلَقَ الباب” لا ليُقيّد أفراحَه.. ليُحرّرَ أحزانه”. هل العزلة شرط الحرية القصوى؟ هل الآخرون قيد؟

الآخرون قيدٌ ما داموا هم أنفسهم يرتضون قيودهم، وهُمُ الحرية عندما يحطمونها ويتحررون. والعزلة لبعضهم، وأنا منهم، شرطٌ لكل إبداع، وليس الشعب هو من يكتب القصيدة أو يرسم اللوحة، بل الفرد.

في قصائد “أوّل الجسد، آخر البحر” ألمٌ عميقٌ من الوحدة، حتى ليبدو الكتاب نتاج ليالي أرقٍ طويلة عاشها شاعر عاشق.

في قصائده، ما يمكن أن يعطي هذا الانطباع قراءتك صحيحة وعميقة.

حضور الأب في شعركم أبرز وأشدُّ سطوعاً من حضور الأم، ولاسيما في النصوص التي تستلهم “قصابين”، مسرح الطفولة، ومنبع الصور، حيث نكاد نسمع وقع خطى الأب وهو يوزّع وقته بين الحقل والكتاب. فيما لا توجد الأم إلا طيفاً، لما تزخر به عناصر الطبيعة حولك من تجليات الأمومة.

هذا صحيحٌ أيضاً، ولا أعرف تفسيراً له.

الهدوء ولطف المعشر سمتان بارزتان في شخصكم، تمارس شؤون حياتك اليومية باعتدال، تنشر الودّ والمرح في محيطك، تحرص على راحة عائلتك، وليس لك خصومات صاخبة. كيف أمكن لمبدع شعر متوتر، وصاحبِ فكرٍ صادمٍ، أن يحافظ على هدوئه واستقراره؟

كمثل جبلٍ عالٍ، راسخٍ، غير أنه لا يقدر أن يرى نفسه حقاً، وأن يقرأها حقاً، إلا في العواصف.

” كلُّ ما أنكرَته العيونُ، سترعاه عيني .

ذاك عهد الصداقة بين الخراب وبيني “.

يثير مفهوم “الخراب” في شعرك إشكاليات كثيرة وقد حمل بدلالات أيديولوجية عديدة. يرى البعض في قولك “ولم يأت الخراب الجميل…” دعوةً للعنف، ويتساءل آخرون عمّا يكون عهد الصداقة بينك وبين “الخراب”…

الخراب الذي أقصده هو خراب العالم الذي بَنَته الثقافة العربية القامعة، وبشكل أخصّ في وجهيها : الديني المؤسسي، والسياسي السلطوي. ألن تكون أنت، أيضاً، صديقاً لهذا الخراب؟ ألن تقيم معه عهداً من الصداقة؟ ولا عنف: العنف المادي ضد الإنسان وحرياته وحقوقه عملٌ وحشيٌّ وأشدُّ توحُّشاً من أي توحُّش.

” الظلام طاغيةٌ يحاصر المكان، والضوءُ فارسٌ يحرّره “.

لا يولد الصبح في شعرك إلا من خلال الصراع المستمر بين الضوء والظلام، ولا يستطيع أيُّ من قطبي هذا الصراع أن يحيا إلا بما يستمدّه من الآخر، وهذه فكرة مركزية أيضاً في كتاب “الثابت والمتحوّل” حيث ترى أنّ النص المتحول يستمدّ إبداعه وتجدُّده من وجود النص الثابت؟

 

ثمّة جدلية عميقة ودائمة بين الظلام والضّوء، في الظلام ضوءٌ كامنٌ، وفي الضوء ظلامٌ كامنٌ: عندما يُؤدلج الضّوءُ مثلاً، يتحوّل إلى ظلام آخر.

ما يصحُّ هنا على الضوء، يصحُّ كذلك على الثابت والمتحوّل، فليس الثابت ثابتاً دائماً، وليس المتحوّل متحوّلاً دائماً.

في الطريق إلى “قصابين” تذكرت الرحلة الشاقة التي قام بها الطفل علي أحمد سعيد، سيراً على قدميه إلى جبلة، ليلقي قصيدة أمام الرئيس الراحل شكري القوتلي، في المهرجان المقام في “سراي” المدينة، مطلقاً صرخة المطالبة بحق الطفولة الفقيرة في التعلّم، وناشراً طاقته المكنونة على الملأ. كيف تنظر الآن إلى تلك الحادثة؟

تبدو لي شبيهةً بالأسطورة: مضمونها خارج التوقعات كلها، غير أنه، مع ذلك، تَحقّق. هذه كانت المرة الأولى التي أتيح لي فيها أن أختبر، مصادفة، كيف يتحول الحلم إلى واقع حيّ، أو كيف يصبح الواقع نفسه شكلاً من أشكال الحلم.

تركّز في كتبك النظرية على الدور التأسيسي لكتاب أنطون سعادة “الصراع الفكري في الأدب السوري” في حركة الحداثة في الشعر العربي، في المقابل، يبدو الشعر الحديث الإضافة الجوهرية على فكر سعادة، فيما كانت الإضافات في ميادين علم الاجتماع، أو الفلسفة، أو الاقتصاد، أقل.

صحيح، إلا نادراً واستثنائياً، في كل حال لم يندرج فكر أنطون سعادة حتى الآن في النسيج الثقافي الذي يمثّله المؤمنون بهذا الفكر، إلا بوصفه تعاليم وشعارات وطقوساً، وهذا مما حَجَبه، وساعد في الحيلولة دون دخول هذا الفكر في النسيج الثقافي العربي العام.

شيئاً فشيئاً يتحول فكر أنطون سعادة في الممارسة الكتابية إلى طقس تعليمي يتضمّن جميع الحقائق، وجميع الحلول لجميع المشكلات. هكذا يتحول إلى نوع من “النبوّة” فكرٌ يتناقضُ “النبوّة” جذرياً.

ما هي قراءتكم لسيرة سعادة كفرد وزعيم حزب، خصوصاً سنوات اغترابه القسري، ثم إعلانه الثورة القومية الاجتماعية ؟

هذا سؤالٌ يصعب علي الآن أن أجيب عنه، فهو لا يزال يشغل حيّزاً كبيراً من تساؤلاتي المتنوعة في أثناء عملي السابق في المؤسسة الحزبية، ولا أزال أقلّبه بيني وبين نفسي، ولم أعرف بعد كيف أجيب عنه.

” ما يَقتلهُ يُحييهْ .

يَصنع من كفن التاريخ سريراً آخرَ يولد فيهْ “.

تتحدث هنا عن مهيار، أم سعادة، أم أدونيس؟ هل كان عصرنا كفناً للتاريخ؟ هل يستطيع الإبداع بعثَ التاريخ، أم هو طريقة للخلاص الفردي ؟

عنهم جميعاً، وعن أمثالهم وأقرانهم جميعاً، أعتقد أنّ للإبداع طاقة تُغيّر فردياً وجماعياً غير أنها طاقة “كامنة”. ولا يكتشفها إلا من يكونون في مستواها، كمثل من لا يقدر أن يكتشف الطاقات الثروات الكامنة في أعماق الأرض إلا “المختصون” .

اكتشاف الإبداع، بوصفه طاقة، إبداعٌ آخر، وأزمتنا الثقافية الحقيقية تتمثل، كما يبدو لي، في هذا الإبداع الآخر، الذي نفتقده ونحتاج إليه، كيانياً. بتعبير أكثر تبسيطاً: أزمة الثقافة العربية ليست في الكتابة، وإنما هي في القراءة. إبداعُ الكتابة يستلزمُ إبداع القراءة.

“ثمّة مفاتيح لا تستخدم، ويا للأسف، إلا لإغلاقِ جميع الأبواب” . ما هي هذه المفاتيح؟

هي في المقام الأول، مفاتيح سياسية سلطوية دينية.

ما الذي أعاق نشوء حوار معرفي بين الشعر المعاصر، شعركم خصوصاً، والنقد الأدبي، لماذا لم تؤسس على شعرك نواة فلسفية جديدة شبيهة مثلاً بالتي قامت بين شعر هولدرلين وفكر هايدغر ( اسمح لي أن أستثني كتاب عادل ضاهر: “الفكر والوجود” ) ؟.

مثل هذا ” الحوار المعرفي” يقتضي بدئياً، ما سميّته بـ “إبداع القراءة” .

لا تثير قصائدُك وكتبك ردود فعل صاخبة كالتي تعقب مقالاتك ومحاضراتك. سأضرب مثلاً فكرة “انحطاط الثقافة العربية” التي طرحتها أثناء وجودك في العراق المحتل. هذه فكرة قديمة لديك مبثوثة في دواوينك منذ عقود. كيف ترى السجال الذي تمخض مؤخراً عنها؟ من ناحية أخرى: هل كان لما شاهدته في العراق من دمار وتهجير أثر في إصرارك على هذه الفكرة؟

هنا كذلك، أشدّد على “إبداع القراءة”. معظم العرب لا يقرأون إلا “بسياستهم وأيديولوجياتهم، وسلطاتهم، وأديانهم”. فكأنهم لا يقرأون الأدب. وإنما “يستخدمونه ويوظفونه” ومثل هذه القراءة “حَجْبٌ” و”تجهيل”.

الثقافة في الهلال الخصيب هي بشكل من الأشكال، وفي أجزاء مركزية منه، نتاج بيئة نهرية مهيئة للخصب والاستقرار. ما هو الرابط بين تصحر هذه المنطقة وتراجع الإبداع فيها؟

لا تسل عن تصحر البيئة. اسألْ عن تصحّر العقل. عن تصحّر الإنسان، عن تصحّر المعرفة، وعن تصحّر الأسئلة والخطط والمشروعات والقضايا.

سمعتك مرةً تنشد بإعجاب بيت الفارعة بنت طريف:

فيا شـجرَ الخابـور ما لكَ مـورِقاً

كأنّـك لم تَجزعْ على ابنِ طـريفِ

 

تساءلتُ حينها عمّا يمكن أن يقوله أدونيس لو زار الجزيرة، ورأى كيف جفّت ينابيع الخابور، وضاق مجراه، وخلتْ بعض قراه من سكانها؟

سأجرع هنا على الإنسان ذاته.

أثنيت على التنوع الثقافي واللغوي والديني في الشمال السوري، الذي أتاح للـ

” الآشوري والسرياني والكلداني والكردي والعربي واليزيدي و… أن يحيوا معاً متآلفين ” . وقلتَ: ” تلك هي سماء سوريا تتلألأ فيها جميع الكواكب حرة ومن دون تمييز”، لكنك عبّرت بعد زيارة العراق عن قلقك على مستقبل هذا التنوّع؟

وفي هذا يتمثّل جزعي على الإنسان، وقلقي على المستقبل. الحياة، المستقبل، هما في جذور الشجرة الممتدة في جميع الاتجاهات. حين نقطع هذه الجذور ولا نبقي إلا على جذر واحد فنحن نقتل الحياة، ونقتل المستقبل كأننا بأيدينا أنفسنا نلفُّ الحبال حول أعناقنا.

سؤال المدينة مركزي في شعر أدونيس وفكره، والثقافة الحديثة نتاج مدن. لكن المدن العربية لم تحتضن حركات فكرية مؤثرة، حتى بيروت تخلفت عن دورها المأمول منذ منتصف السبعينيات.

صحيح، المدينة ابتكار إنساني عظيم، تثبت الجماعات البشرية، عندنا، يوماً يوماً أو تثبت بالأحرى قياداتها أنها ليست، أو لم تصبح بعد في مستوى هذا الابتكار.

“مُدننا” تراكماتٌ، وأكداس بَشَرٍ، وصحارى أفكار وقيم وأخلاق. في “المدينة” الواحدة “مدن” كثيرة تتصارع وتتناقض حتى في الأسس التي تؤالف في ما بينها، موضوعياً. هكذا بدلاً من أن تزداد “مَدَنِيَّةُ” المدينة تزداد، على العكس، العناصر التي تحارب نشوء هذه “المدنيّة”.

“ليس لأحدٍ أن يعلّمني حبَّ بيروت”. هكذا كان عنوان ردّك على الهجوم العنيف الذي تعرضتَ له بعد محاضرتك الشهيرة عن بيروت. كأنّ حبّ المكان مرتبط لدى معارضيك بتمجيده وإبراز محاسنه، فيما يصنّف في خانات “النكران” و”العمالة” كل تشريحٍ عميقٍ للواقع.

وفي ذلك الدليل الواضح على صحة ما أقوله في الجواب السابق.

كان لمقالتيك عن حرب غزة أثر مفاجئ لبعض النخبة العربية المثقفة، لاسيما الليبرالية. تحدثت عن “حماس” كـ “بصيص أمل للشعب الفلسطيني”. أدنت وحشية “إسرائيل” والصمت العربي والعالمي على جرائمها، وميزتَ في لحظة تاريخية هامة، بين واجب دعم حركة المقاومة، وخلافك العقائدي معها.

مجرّد أن تقول: لا، ضدّ الظلم والطغيان، وفي سياق الصراع مع إسرائيل، هو، في حدّ ذاته، عمل يستحق التقدير والمساندة، في معزل كامل عن “معتقد” القائل، سواء كان دينياً أو سياسياً، ثمّ إنّ “حماس” جزء منا، وتحديداً جزء من “أخطائنا” وإذا أنكر الإنسان أخطاءه فهو بمعنى ما، يُنكر نفسه.

هكذا أدعم حركة المقاومة، وفي الوقت نفسه، أختلف معها، فكرياً، وربما على كل شيء، خارج الفعل المقاوم. كيف نحتضن هذا الفعل، وكيف نوجّهه وجهة عقلانية، إنسانية، عادلة، تلك هي المشكلة، وهي مشكلة العرب جميعاً، قبل أن تكون مشكلة “حماس”. أو أي تنظيمٍ مقاومٍ آخر.

استعرت في هذه المناسبة عبارة محمد حسنين هيكل: “إنّ غزة لا تعاقب على سلوكها، بل على وجودها”. ما هو مفهومكم لـ “صراع الوجود” ؟.

لا أنظر إليه بوصفه صراع “استئصال”، أو “إذلال”، بل بوصفه صراعاً من أجل الحق بالحياة والحرية والعدالة. صراع الوجود هو صراعٌ من أجل حقّ الوجود، والحقّ بالوجود.

نشهد في الشهور الأخيرة إصراراً علنياً من قادة الكيان الصهيوني على طرح شعار “يهودية الدولة الإسرائيلية” في المحافل الدولية، ويبدي الغرب دعماً قوياً لهذا الشعار، في تناقض صارخ مع “العلمانية” التي تأسّست عليه دُوَلُه.

القول بـ “إسلامية” الدولة دعمٌ موضوعيٌّ للقول بـ “يهودية” إسرائيل. و”حربنا” إذاً مزدوجة: ضدّ هذه “الإسلامية” وضدّ هذه “اليهودية” معاً، وفي الآن نفسه، دون ذلك لن نكون إلا من الخاسرين.

والغربُ ؟ هذا الغرب لا يدعم موضوعياً، إلا “اليهودية” و “الإسلامية” : لا يكتفي بالعمل على تشويه حقيقة الصراع العربي الإسرائيلي. وإنما يعمل كذلك على إعادة المنطقة العربية إلى ثقافة العصور الوسطى، وإلى إغلاق أبواب المستقبل في وجه عالَم عربي لا مكان له إلا في العمل للخروج من القرون الوسطى، ومن ثقافاته وعلاقاته وأصوله.

عبّرتَ، في غير مناسبة، عن حزنك على رحيل هشام شرابي، ورأيت فيه خسارة للقضية الفلسطينية.

هشام شرابي مَثَلٌ عالٍ على هذا الصراع الذي أتحدث، وعلى الرؤيا التي يصدر عنها، ولذلك سيظل حزني عليه عالياً.

أبديتَ إعجاباً لافتاً بكتاب “الجمر والرماد” وتمنيتَ لو أنك كنتَ كاتبه . ما الذي أعجبك في هذا الكتاب؟

عُلوُّ صدقه، وبساطته، وبُعده الإنساني.

هل ينوي أدونيس كتابة سيرته الذاتية؟

بدأت هذه الكتابة، كما أشرت (1) وآمل أن يسعفني الوقت لكي أسرع في إنهائها.

ما هي في رأيكم الأسباب التي حالت دون إدراج شعر أدونيس ضمن ما يُعرف بـ “أدب المقاومة” مع أنّ المقاومة قضية مركزية في شعرك؟ … أذكر، للتمثيل فقط لا للحصر، قصيدة “مقدمة لتاريخ ملوك الطوائف” التي واكبت انطلاق الثورة الفلسطينية عام 1965، وديوان “كتاب الحصار” الذي أرخ شعرياً لحصار بيروت والمقاومة اللبنانية بين 1982 و 1985 وقصيدة “نرد أحمر” التي كتبتها خلال حرب تموز 2006 .

الأسباب كامنة في “القراءة” السائدة التي أشرت إليها، تلك القراءة العمياء. ولا أريد أن أشير إلى أسباب أخرى قد يعرفها جميع المعنيين المُستبْصرين.

أودُّ التركيز على كتاب “الحصار” لعلّ آليات التلقّي لدى القراء والنقاد لم يُتح لهم أن يروا في نصوص مركبة فكرياً، وجمالياً، كقصيدتي “الوقت” و “اسماعيل” نصوص مقاومة ؟

إنها كذلك “القراءة العمياء”.

لا أريد أن أثقل على شعرك بمواقف أيديولوجية، ولكن تبدو الإشارة واضحة في قصيدة “هذا ما كتبه محمد بن عيسى الصيداني قبيل موته” إلى الجذر العلماني للمقاومة ؟

تكون الكتابة العربية، اليوم، علمانية، أو لا تكون إلا “تديّناً” آخر.

لجنوب لبنان حضور مشع في كتاب “الحصار” تضفي قصائدك على الفرد المقاوم بُعداً صوفياً وقدرةً إشراقية:

” كان لي أن أشاهدَ صدرَ السماءْ

حين فكَّ الجميلُ المحجَّبُ أزرارها

ورمى ثوبها غطاءً لسريرِ اللقاءْ ” .

شكراً لقراءتك البصيرة .

المقاومة في هذا الكتاب أيضاً خروج فردي عن مشيئة القافلة السائدة :

” ترك القافلهْ

ومزاميرَها وهواها ،

مُفرَدٌ، ذابلٌ، جَذَبَتْهُ إلى عطرها وردةٌ ذابلهْ “.

أشكرك، مرة ثانية، على هذه القراءة البصيرة.

” أصغِ أيها الشاعر إلى غرناطة.. أنت لم تعشق مساءَ ما مضى إلا لأنك مأخوذ بصباح ما يأتي. ولك مثل الشمس ومثل غرناطة، خدّان : خدٌّ على الشرق، وخدٌّ على

الغرب “.

تبدو علاقتك بالأندلس استكشافية تأمُّلية، لا أثر فيها للحنين العربي إلى ذلك “الفردوس الضائع” ؟

هل أشكرك مرة ثالثة ؟

كيف ترى الصورة التي رسخها بعض شعر المقاومة عن الصلة الشعورية والتاريخية، بين ضياع فلسطين والخروج العربي من الأندلس ؟

لا أحبّها، شكلاً ومضموناً.

تقول: “اللغة العربية وطني”.. بأيّ معنى؟ من ناحية أخرى: ارتبط التجديد اللغوي في شعر أدونيس باشتقاق المعاني الجديدة وتفجير طاقات الكلمات، مع المحافظة على قواعد البلاغة العربية نحواً وصرفاً، ألهذا يعدُّك الأصوليون “مُخرّباً” والحداثويون “كلاسيكياً” ؟

أجد في قول “أولئك” و”هؤلاء” دليلاً مبنياً على أنني “مختلف” : أقدّم صورة جديدة للشعر، رؤية وبناءً وجمالية.

يُسعدني ويُطمئنني هذا “الطّرد” أو هذا “الإفراد”، فأنا حقاً، لست من “أولئك” ولستُ من “هؤلاء” ربما نجد في هذا سرّ القول: “اللغة العربية وطني”.

ما هي علاقة أدونيس بالنصّ القرآني؟ لا أقصد الجانب المتعلّق بآفاق الكتابة، بل الجوانب المعرفية والروحية.

“النصّ القرآني” كتابٌ مُفردٌ، وأنا حريصٌ جداً على العلاقة سلباً أو إيجاباً، بكل “مُفرد”.

ما هي إمكانيات التجديد في الفكر الديني، الإسلامي خصوصاً؟

المؤمنون بالدّين، أيّ دين، يؤمنون به بوصفه كاملاً. هذا الكمال نفيٌ لكل تجديد، ولكل قولٍ بالتحديد. وإذاً لا معنى لأي كلام في تجديد الدين.

المهم هو تجديد الرؤية إلى الدين، ويتمثل هذا التجديد في السياق السياسي الثقافي الاجتماعي في “فصل الدين عن الدولة”. وهذا ما يجب أن يكون المدار الأساس لفكرنا وعملنا، تجديد الدين، أو إصلاحه، أو تطويره… الخ، هذه كلها هموم “غُبارٍ” لا هموم “تُراب” : لا تنتج زرعاً، لا تنتج إلا الغبار.

كيف ترى مستقبل المدّ الأصولي في العالم العربي؟ كيف يمكن أن يواجه؟

لا أريد أن أعيد كتابة الجواب السابق، أو أن أكرّره. مع ذلك أكرّر: إذا لم يتم فصل الدين عن الدولة، فليس أمامنا غير “المدّ الأصولي” وغير العودة إلى ثقافة القرون الوسطى.

أثنيتَ على تجربة الإسلام السياسي في تركيا، ورأيتَ فيها صورة مشرقة للإسلام المدني، كيف تقيم التجربة التركية بين الدستور العلماني للدولة وإسلامية الحكومة؟

هي خطوةُ “توازن” لا أقرّها في المطلق، وإن كنتُ أقرّها “تجريبياً”، وهي خطورة مرتبطة بوضع خاص. ومن الصعب تعميمها في المجتمعات الإسلامية، غير أنها تشير إلى “تميّز” خاص في وعي الشعب التركي، مقارنة بالوعي السائد في المجتمعات الإسلامية الأخرى.

أين يكمن، في رأيكم، مأزق الحركات العلمانية في العالم العربي؟

في كونها تنهض عمقياً، على بنية دينياً، رؤيةً وفكراً، وممارسة.

عبّرتَ سابقاً عن رغبتك في كتابة “كوميديا إلهية “عربية. ما هو تأثير دانتي عليك كشاعر؟ هل ترى أنك حققت هذه الرغبة في “الكتاب” ؟

دانتي مؤثّر على مستوى المخيلة والاهتمام بمنجزات الثقافة، وبالمعتقدات، والقيم ورؤى البشر في أوروبا وكتبَ الأرض باسم السماء في “الكوميديا الإلهية” ، “الكتاب” . على العكس , كتابةٌ للسماء بحبر الأرض, إنه “كوميديا أرضية”، إذا شئت.

ما هي الحدود الفاصلة بين حوادث التاريخ العربي الإسلامي, وتأويلاتك الشعرية لها في “الكتاب ” ؟

لا يصدر “الكتاب” عن رؤية تأويلية للتاريخ العربي الإسلامي, بل عن رؤيا ترى هذا التاريخ بوصفه كُلاًَ لا يتجزأ, بمحاسنه ومساوئه. القارئ معتاد, منذ طفولته, على طمس الجانب المظلم من هذا التاريخ, والاكتفاء بالكشف عن الجانب المشرق. وقد فوجئ, وربما صُدم في “الكتاب”, لأن “الكتاب” وضَعه وجهاً لوجه مع ذلك الجانب المظلم المطموس, الجانب المليء بالطغيان, وامتهان الإنسان, ومختلف أنواع السّلوكِ غير الإنساني, على جميع الأصعدة. والقارئ العربي يهرب من رؤية نفسه, كما هي في الواقع والحقيقة, ولذلك يهرب من رؤية تاريخه, كما هو, في الواقع والحقيقة .

لكن كيف يتقدّم من لا يريد أن يعرف نفسه, حقاً ؟ هذه مشكلة كبيرة .

كرستَ نصاً هاماً لسيف الدولة في “الكتاب” لفتتني فيه ثلاثة مواقف: إحساس هذا القائد بعبثية الحروب… نَسْبُه مجدَ حلب إلى كوكبة العلماء والأدباء الذين عاصروه لا إلى قوة دولته… تقديسه للمسيح وخوفه من تحويل حربه مع الروم, في الذاكرة الشعبية, إلى حرب دينية ضدّ المسيحية.

هنا أعود أيضاً وأجدّد شكري لك على قراءتك البصيرة.

لخولة حبيبِة المتنبي وشقيقة سيف الدولة حضور مركزي في “الكتاب” من خلال نص عذبٍ طويل. هل أردت في “أوراق خولة” كشفَ المسكوت عنه في حياة المرأة العربية, لاسيما المنتمية إلى الطبقات الحاكمة, أم استبطانَ تجربة العشق التي عاشها المتنبي, وأثرِها على مصيره ؟

قصدت الأمرين. وأردتُ إلى ذلك أن يجري في نهر “الكتاب” رافدٌ من الحب.

في “الكتاب” نصوص عن المدن, رمزتَ إليها بأحرف الأبجدية. هل هذه المدن تاريخية, أم تخيَّليّة, أم أقنعة للمدن التي نحيا فيها الآن ؟

أقنعة للمدن العربية .

صنَّفت كتاب “ورّاق يبيع كتب النجوم” كديوان شعري, على الرغم من احتوائه نصوصاً سردية خاصة بأدب الرحلات, وبعضها يتضمن دراسات تاريخية ومعمارية. ما الغاية من هذا ؟

أردتُ الخروج من قَفَص “النوع”، المُحدّد, المقعّد, الراسخ في “ذاكرة المعرفة”, و “ذاكرة الذوق”. “النوع الشعري”، بالنسبة إليَّ, أفقٌ تتخالَطٌ فيه وتتقاطع جميع الأنواع الكتابية, الرياح والأضواء, لكن بنَفَسِ الشعّر, وهاجسِِهِ, وهَمِّه الجمالي خصوصاً, بحيث يندرج فيه “أدب” السّرد, والرحلة, والتاريخ والمعمار… الخ .

الشَّعر “طبيعة ثقافية” شاملة, في ما وراء الوزن والنَّثر .

استطاعت ترجمتك الهائلة لشعر سان جون بيرس أن تفتح آفاقاً جديدة للذائقة الشعرية عند المبدعين والمتلقَين, لكن النصوص التي حاولت استثمار هذا النبع الجمالي و الرؤيوي بقيت, عموماً, في إطار المحاكاة التخيلية واللفظية, وراكمتْ سواء في الرواية أو الشعر, كثيراً من الصور والسيَر والشخصيات, من دون أن تتمكن من خلق رؤية جديدة متماسكة للحياة والفن, ألديكم تفسير؟ أم أنني مخطئ في رأيي هذا ؟

ما تقوله صحيح. قد يكون هذا عائداً إلى أنّ الشاعر العربي لا يزال بعامة, يصدر عن ثقافة العين والأذن. أي عن ثقافة المحاكاة. أكثر مما يصدر عن التجربة والرؤيا, وعن التساؤل والإبداع.

في الأولى سهولة, وهي مشتركة وجاهزة، لا تحتاج إلى الجهد والعناء, وفي الثانية بحثٌ وعذاب, استقصاءٌ وإبداع. لا يزال الشاعر عندنا بعامة يفضّل, كمثل القارئ، السهولة.

ما هي الكتب، أو النصوص, التي تمنيتَ ترجمتها, ولم تُتح لك الظروف ذلك؟

كثيرة: أعمال بودلير, رامبو, لوتريامون. “مجنون إلسا” لأراغون, تمثيلاً, لا حصراً. ولا أزال آمل أن يتاح لي الوقت لترجمتها, علماً أنها جميعاً مترجمة إلى العربية.

أثّر تسليطكم الضوءَ على الأدب الصوفي, النفري وابن عربي خصوصاً, على رؤى أجيال عديدة من المثقفين العرب. لكن هذا لم ينتج أيضاً أدباً صوفياً جديداً عالي المستوى, وصارت عبارات النفري وابن عربي “كليشيهات” تُرَصِّع بها الكتابات الجديدة, من دون أن تستطيع إقناع القارئ بالأبعاد الوجودية والروحية الكامنة فيها, أترى هذا العصر غير قادر على إنتاج أدب صوفي, أم أن السمات الجمالية والفكرية لأدب المتصوفة مرتبطة بمرحلة تاريخية معينة ؟

صحيح ما تقوله في الشّق الأول من السؤال.

الإجابة عن الشق الثاني تَطرحُ مسألة سوء فهم التصوّف حتى بين الشعراء. فلا يزال هذا الفهم يندرج في إطار النظرة التقليدية للتصوّف .

التصوّف الذي تحدثت وأتحدث عنه شعرياً ليس “دينياً” وإنما هو تجربة في الوجود, وفي معرفة الوجود. وهو, إذاً اختراقٌ للتجربة الدينية, بمعناها المعتقدي الشّرعي, وتأسيسٌ لرؤيا لها منهجها, ومبادئها وقواعدها. وهي جميعاً حُرّة, وشخصية, ومنفتحة, ولا تتمأسَسُ, ولا يمكن أن تكون “مشتركة” إلا بالاسم, ذلك أنها “ذوقية” أي حميمة جداً وخاصة جداً, وأنها تبعاً لذلك, “متغّيرةٌ” ، “كلّ يوم في شأن” .

هذه الحركيّة حركيّة الغوص في الحياة, في الوجود وأسراره, حركيّة السؤال والاستقصاء, أفقياً وعمودياً في معزل كامل عن المُسبَقات الجاهزة, وبخاصة الدينية المؤسسية الاجتماعية. أقول: في هذه الحركية يكمن معنى التصوّف, شعرياً. وهذا يقتضي لغة جديدة, وجمالية جديدة, لأنه تأسيسٌ لعلاقاتٍ جديدة بين الإنسان والعالم وبين الكلمات والأشياء .

متى ستنشرون “ديوان النثر العربي” ؟ ما الغاية من إطلاق اسم ” الديوان ” على كتاب للنثر ؟

آمل أن يتم نشره قريباً، لأن جمعه وتنظيمه في طريق الاكتمال. و”الديوان” هنا أشارةٌ إلى الشّعرية العالية في النثر العربي, وتوسيعٌ لحدود الشعر.

أنجزتم بالاشتراك مع الباحث قاسم الشواف, ديوان الأساطير. ماذا كانت غايتكم من هذا المشروع ؟

الغاية من هذا المشروع هي أولاً عملية: وضع التراث السابق للإسلام في هذه المنطقة, السورية الخاصة, والعربية العامة بين أيدي القٌرّاء والناس جميعاً.

وهي ثانياً “ثقافية”: التوكيد على أن هذا التراث جزءٌ لا يتجزأ من تراث اللغة العربية, خصوصاً أنها تجد فيه, لا مهدَها وحده, وإنما تجد فيه كذلك ” أمومتها “.

لكن, يؤسفني هنا أن أشير إلى تعثّر هذا المشروع، وتوقفه ( لم تصدر إلا أربعة أجزاء من أصل عشرة, على الأقل ) والسبب دائماً كما تعلم, مالي, والمأساة هنا أيضاً, أن المال في هذه المنطقة لا يزال, ثقافياً وفنياً, مالاً جاهلاً, وغير إنساني .

لا تبدو محتفياً بالمنجز الروائي العربي, على الرغم من غزارته وانتشاره ؟

لا أحتفي, لكن لا أحاربه. السّرد العربي إجمالاً, سَرْدٌ “حكائي” ، يتحرك في زمن أفقي خيطي. شخصياً، أعنى بالزمن العمودي زمن التوترات, الذي لا يبدو كمثل خيطٍ حكاية, تبدأ وتنتهي. بل الزمن الذي يبدو كمثل شبكة تمتد خيوطها في جميع الاتجاهات، إضافة إلى العلو والعمق, ولا نهاية له .

أشرت في غير مناسبة إلى تقديرك العالي للتجارب التشكيلية العربية, ورأيت فيها الصورة الأكثر إشراقاً للإبداع العربي المعاصر. أيمكن أن تحدثنا عن علاقتك كشاعر باللوحة, وما هي برأيكم أبرز ملامح النهضة التشكيلية العربية ؟

الفن التشكيلي العربي يبتكر نفسه, ويبتكر طريقه, ويبتكر آفاقه: “لا أسلاف له, وفي خطواته جذوره”، وفقاً لعبارة قلتها في أحد المزامير في “أغاني مهيار الدمشقي”، وتلك هي قوة هذا الفن, وفرادته.

وهو إذاً، يعطي للنشاط الثقافي سمة فريدة، ويضيف إليه أبعاداً خاصة تغني حركية الثقافة العربية, وهو تبعاً لذلك, ليس “عبئاً” كما هو في الشعر, حيناً, أو السّرد حيناً, أو الفكر حيناً, وإنما هو أفق يتجدد باستمرار .

وفي هذا المستوى, يمكن القول إن الفن التشكيلي العربي يُعطي للإبداعية العربية نوعاً من الحضور, لا يعطيه, أو لا يعطي ما يماثله أو يضاهيه, الشعرُ, أو الرواية أو الفكر.

في خضم الجدل العلمي الديني والأخلاقي الذي أثاره (الاستنساخ) نشرتم نصاً من التراث لجابر بن حيان عن إمكانية التخليق من الهيولى, ماذا كنت تقصد من وراء نشر هذا النص ؟

كنت أقصد أنّ في التراث اهتماماً مبكراً بهذه القضايا الكبيرة وما يشابهها. وأقصد قبل ذلك, أن أدعو إلى إعادة النظر في القراءة السائدة, الدينية السطحية, للمنجز الفكري العربي .

كيف ترى العلاقة بين العلم والشعر؟ ما مستقبل الشعر إبداعاً وتلقّياً في ظل هيمنة التقنية المادية على حياة الإنسان المعاصر؟

هذه العلاقة وثيقة جداً , بالنسبة إليّ .

العلم خريطة من خرائط العالم, لكن الشعر جغرافية العالم, كل شيء يستوعبه الشعرَ, على طريقته, ولا شيء يستوعب الشعر, وإن استوعب جانباً منه, والعالم لن يزول, لذلك لن يزول الشعر، والتقنية ستكشف عن أهمية الشعر وعن ضرورته الكيانية. الإنسان جوهرياً، شعر .

يبدو الشاعر في زمننا هذا منسحباً إلى الظل, منعزلاً في الكواليس. أترى هذا المشهد حٌجّة على القصيدة، أم انتصاراً لها ؟

لا تؤخذ المعايير من “الفترات” الزمنية، وإنما تؤخذ من الزمن, بوصفه كلاً تاريخياً . وفي هذا الإطار تؤكد لنا التجربة أن الشعر عندما ينسحب إلى الظل, فذلك يعني أن الإنسان نفسه انسحب إلى الظل .

انسحاب الشعر إلى الظل هو شعرياً هَجْسٌ بابتكار شموسٍ أخرى .

 

إشارة:

(1)- الأسئلة التالية اعتذر الشاعر عن الإجابة عليها :

– مرت ستون سنة على استشهاد سعادة. سبق أن قلت: “إنّ إعدامه كان إعداماً للمستقبل”. كيف ترى أثر هذا الحدث على الحزب الذي أسّسه، وعلى واقع الممارسة السياسية والثقافية في العالم العربي, ثم على ذاتك المبدعة ؟

– ما هي مبررات انتمائك إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي. وما رؤيتك في الحرص على مسافة نقدية بينك وبين الحزب ؟

– أيمكن أن تسرد لنا تفاصيل ممارستك الحزبية، وخصوصاً عملكم في جريدة (البناء) ومجلة (آفاق) ؟

– متى كان تاريخ انفصالك عن الحزب ؟ أما زلت تعتبر نفسك قومياً اجتماعياً ؟

وكان جواب أدونيس: “أسئلة أعتذر عن الإجابة عنها, لأنني سأتحدث عن المشكلات التي تثيرها في سيرتي الذاتية الثقافية التي أكتبها الآن”…

أحمد حافظ . أديب سوري .