°
, March 19, 2024 in
آخر الأخبار
الصحة والتطوير الذاتي

لمواجهة ضغوط الحياة والتمتع بصحة جيّدة، الحل بسيط: ساعد الآخرين – ضياء أبو اليزيد

في أحد أيام يونيو عام 2013 وقفت كيلي ماكجونيجال Kelly Macgonigal، أستاذة الصحة النفسية في جامعة ستانفورد، أمام حشد كبير في مدينة أدنبرة الاسكتلندية وألقت اعترافها المثير.

قالت: “لدي ما أعترف به لكم، أنا أستاذة صحة نفسية ومهمتي هي مساعدة الناس ليكونوا أكثر عافية وسعادة، لكنني أخشى أن ما كنت أدرّسه خلال السنوات العشر الماضية يضر أكثر مما ينفع. إنه أمر يتعلق بضغوط الحياة. طوال هذه السنوات كنت أقول للناس إن الضغط العصبي يسبب الأمراض، ويجعلكم أكثر عُرضة لجميع أنواع المتاعب الصحية، من نزلات البرد إلى أمراض القلب. لقد صوّرت ضغوط الحياة كعدو للبشر، ولكنني اكتشفت أخيراً أن هذا لم يكن صواباً”.

تبدأ كيلي في شرح ما جعلها تغير رأيها الشائع جداً ليس في أوساط العامة فقط بل في الأوساط الطبية والعلمية إلى اليوم: في دراسة امتدت ثمانية أعوام وأعلنت نتائجها عام 2012 ونشرت على موقع الجمعية الأمريكية للطب النفسي، قام باحثون من كلية الطب والصحة العامة بجامعة وسكنسون Wisconsin الأمريكية بسؤال 30 ألف شخص يعيشون في الولايات المتحدة عن مدى الضغوط التي عانوها خلال العام الأخير، ثم سألوا كلاً منهم هل يعتقد أن الضغوط تضر بصحته. ثم تم استخدام سجلات الوفاة العمومية لاكتشاف من تُوفّى منهم أو تعرض لمخاطر صحية قد تؤدي إلى الوفاة خلال السنوات التالية.

وكانت النتيجة أن الذين قالوا إنهم يعانون من ضغوط كبيرة كانوا أكثر عرضة للوفاة بنسبة 43% أكثر من الآخرين. لكن المفاجأة أن هذا كان صحيحاً فقط بالنسبة لمن يعتقدون أن الضغوط ضارّة بالصحة. أما بالنسبة للذين تعرضوا لضغوط كبيرة لكنهم لا يعتقدون أن الضغوط تمثل خطراً على الصحة، فقد كانوا الأقل تعرضاً لمخاطر الوفاة بين جميع المشاركين في الدراسة، حتى أولئك الذين تعرضوا لأقل الضغوط.

وبناء على تلك النتائج قدّر الباحثون أنه سنوياً يتعرّض أكثر من 20 ألف شخص في الولايات المتحدة وحدها للوفاة المبكرة بسبب الاعتقاد بخطر الضغوط الحياتية على الصحة، مما يضع هذا الاعتقاد (وليس الضغوط) محل الالتهاب الرئوي في المرتبة الخامسة عشرة على لائحة أسباب الوفاة المبكرة في الولايات المتحدة.

ولكن إذا كان هذا ما يقوله البحث الميداني فما هو رأي العلم؟ أجرت جامعة هارفارد Harvard University اختبار الضغوط الاجتماعية المعروف باسم Trier Social Stress Test على مجموعة من المتطوعين تم تلقينهم أن الضغط العصبي غير ضار بالصحة، بل يمكن للجسم البشري الاستفادة منه، وأن معدل ضربات القلب المرتفع عند التعرض للضغوط يساعد الجسد على تلبية الاحتياجات الطارئة، وتسارع الأنفاس واللهاث ليس مشكلة، لأنه هو الطريقة التي يتصرف بها الدماغ للحصول على قدر أكبر من الأوكسجين في اللحظات الصعبة.

لم تؤكد النتائج التي أعلنت عام 2012 هذه المرة صحة ما توصلت إليه الأبحاث الميدانية فقط، بل أضافت حقيقة جديدة بدت مذهلة، وهي أن المتطوعين في تجربة هارفارد لم يعانوا من المظاهر السلبية للضغط العصبي وأهمها الانقباض في الأوعية الدموية الذي يعاني منه غالباً مَن يقع تحت ضغوط والذي يعتبر أبرز أسباب الإصابة بأمراض القلب.

فخلال الاختبار، ارتفع معدل ضربات القلب ومعدلات التنفس لدى المتطوعين لكن الأوعية الدموية بقيت منبسطة، وهو وضع بيولوجي أقرب ما يكون إلى وضع الجسم في حالات الفرح الشديد.

تقول كيلي ماكجونيجال إن هذا الاختلاف التشريحي البسيط في وضع الأوعية الدموية وحده يكفي لتبيان الفرق بين شخص يصاب بأزمة قلبية في الخمسين وآخر يعيش بصحة جيدة إلى أن يتخطى التسعين من عمره.

ولكن كيف يتم تغيير الطريقة التي نتعامل بها مع الضغوط في الواقع؟ وما هي تلك الوصفة السحرية التي يمكنها أن تحوّل الضغط القاتل إلى صديق نافع؟ هل يكفي أن نعتقد أن الضغوط ليست ضارة؟

حقيقة أخرى تهدينا إلى الجواب، وهي أن أجسادنا تطلق في مواجهة الضغوط العصبية هرموناً عصبياً هو أوكسيتوسين Oxytocin المشهور باسم “هرمون العناق” لأن الغدة النخامية تفرزه أيضاً في حالة العناق وكذلك عند السيدات في حالة الرضاعة وفي حالات أخرى.

معلوم أن أجسادنا تفرز كميات محدودة من هذا الهرمون بشكل طبيعي في مواجهة الضغوط لتدفعنا إلى البحث عن وسيلة للتواصل مع الآخرين والحصول على قدر من المساعدة، أو القيام بمساعدة الآخرين. وفور حدوث هذا التواصل الذي يتسم بالحنان والاهتمام بالآخرين يقوم الجسد بتعزيز إفراز أوكسيتوسين الذي يعمل كمضاد طبيعي للالتهاب في جميع أجزاء الجسم فيجدد خلايا القلب التالفة وأخيراً يساعد الأوعية الدموية على الانبساط والتخلص من جميع مضار الضغوط العصبية.

لكن العجيب أن مساعدة الغير تنعكس بنتائج صحية أفضل على أجسادنا من مجرد تلقي المساعدة بحسب دراسة قامت بها جامعة بوفالو Buffalo الأمريكية. واللافت هنا هو تلك الحقيقة المذهلة في بساطتها وهي أن التواصل الإنساني ومساعدة الغير أو تقبل المساعدة من الغير هي كلها المفتاح لإحداث تغيّر بيولوجي يساعدنا عملياً وكيميائياً في مواجهة مشاكلنا المستعصية والمزمنة كمشكلات العمل والأزمات المادية وحتى الصحية.

أما اللافت في هذا الاكتشاف الحديث فهو أننا لو نظرنا إلى تقديم العون للآخرين باعتباره قيمة أخلاقية، فمن المتوقع أن الوقت سوف يحين قريباً لإلقاء نظرة ثانية على فكرة الأخلاق ليس باعتبارها بنية علوية نبيلة مفارقة للواقع ولا حتى وسيلة ابتكرها البشر للتعايش بسلام، وإنما كطريقة للبقاء بصحة جيدة على مستوى الفرد والجماعة، وبالتالي كواحدة من وسائل حماية النوع البشري وبقائه.

المصدر : http://raseef22.com