°
, December 6, 2024 in
آخر الأخبار
دراسات اجتماعية

الطاقة الاستلابية للعنف الرمزي : أ.د. علي أسعد وطفة

مقدمة:

يعد مفهوم العنف الرمزي من أكثر اكتشافات بورديو الفكرية تألقاً وأهمية، وقد شكل مفتاحاً سوسيولوجياً لأكثر القضايا الفكرية أهمية وخطورة في العصر الحديث. ويمتلك هذا المفهوم سحره الفكري الخاص في قدرته على استكشاف أعمق مجاهل الحياة الفكرية تعقيداً، واستقصاء أبرز متاهاتها السياسية والاجتماعية تشابكاً وغموضاًً. وقد وُّظف هذا المفهوم جيدا في إنارة الدهاليز المظلمة لقضايا اجتماعية كبرى مثل: الهوية، والطبقة، وإعادة الإنتاج، والصراع الطبقي، وسلطة الدولة.

ويعود للمفكر الفرنسي بيير بورديو الفضل في بناء هذا لمفهوم وإكسابه المشروعية الفلسفية، إذ بذل جهوداً مُضنية من أجل التّعريف بأبعاده وحدوده، وعمل على استكشاف دينامياته السوسيولوجية وملابساته الفكرية، كما استكشف الآثار والوظائف الأيديولوجية التي يؤديها العنف الرمزي الذي يتصف بذكائه ودهائه وقدرته على التخفي، ونصب الكمائن لضحاياه في مختلف المستويات الأيديولوجية، كما بيّن قدرة هذا النوع من العنف على المراوغة والمداهنة إلى درجة يستطيع فيها أن يتخفى على ممارسيه وضحاياه في آن واحد.

تناول بورديو العلاقة الملتبسة بين العنف الرمزي واستلاب الهوية، ودرس أبعاد وحدود هذه العلاقة بمختلف تجلياتها مستكشفا مختلف الآثار التي يتركها هذا العنف في التكوينات الإنسانية للهويات الفردية والاجتماعية. وعمل في سياق ذلك على تقصي الآلام النفسية التي يولدها هذا العنف عند الجماعات المهمشة، مثل: الجروح النرجسية للهوية، وتبخيس الذات، والنكوص الثقافي وغير ذلك من الأعراض السيكولوجية الثقافية.

في مفهوم العنف الرمزي

غالباً ما يجري الخلط بين العنف الرمزي والعنف السيكولوجي، فهناك عدد كبير من الباحثين الذين يحيلون العنف الرمزي إلى العنف السيكولوجي، وهذا يتعارض مع الحقيقة السوسيولوجية للعنف الرمزي الذي يختلف كلياً وجوهرياً عن العنف النفسي كما عن أي شكل آخر من أشكال العنف.

فالعنف الرمزي مقارنة بأي شكل آخر من أشكال العنف يكون غامضاً مستتراً خفياً ناعماً، ولكن نتائجه قد تكون كارثية فيما يتعلق بتوجهات الحياة الاجتماعية بمساراتها الفكرية والأيديولوجية. ويضاف إلى ذلك أنه عنف إشكالي وظيفي، يحمل في ذاته طابعا أيديولوجياً، وهو يثير كثيراً من الجدل بين الباحثين والمفكرين.

وقد دأب بيير بورديو على استخدام مفهوم العنف الرمزي، في أغلب كتاباته السوسيولوجية والتربوية، كما في أعماله الأدبية، ووظفه في استكشافه لأبعاد الهيمنة الذكورية، والسيطرة الأيديولوجية، ومعاودة الإنتاج، وفي دراسته ” للهابيتوس” أو التطبيع الطبقي والعائلي وغير ذلك من القضايا الفكرية والاجتماعية التي تناولها في مجمل نظرياته وأعماله العلمية ([1]).

يعرف بورديو العنف الرمزي ” بأنه عنف ناعم خفي هاديء، وهو خفي مجهول من قبل ممارسيه وضحاياه في آن واحد”، ويقول عنه في سياق آخر: “إنه عنف هادئ لا مرئي لا محسوس حتى بالنسبة إلى ضحاياه”. ويتمثل في اشتراك الضحية وجلادها في التصورات والمسلمات نفسها عن العالم. ويتجلى هذا العنف في ممارسات قيمية ووجدانية وأخلاقية وثقافية تعتمد الرموز كأدوات في السيطرة والهيمنة، مثل: اللغة، والصورة، والإشارات، والدلالات، والمعاني، وكثيراً ما يتجلى هذا العنف في ظلال ممارسة رمزية أخلاقية ضد ضحاياه ([2]).

والعنف الرمزي ينبثق عن سلطة رمزية، ويعبر في جوهر الأمر عن توجهاتها، وهذه السلطة تقوم على أسلوب التورية والتخفي، فهي سلطة لامرئية تنطلق من مبدأ تواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها. لهذا يكون تأثير السلطة الرمزية أعمق و أخطر من أي سلطة أخرى لأنها في جوهرها تستهدف البنية النفسية و الذهنية لضحاياها، و بالتالي فهي – أي السلطة الرمزية تخطط لفرض أهدافها المرسومة وإنتاج الأدوات و الآليات و المعايير المناسبة لإخضاع من تستهدفهم، وذلك لتثبيت و خلق واقع وضع إنساني مرغوب فيه و مخطط له، و تمارس هذه السلطة الرمزية فعاليتها بطريقة منظمة و بنائية متكاملة تحت غطاء التخفي والاختفاء، أي وراء أقنعة المألوف العادي وأنظمة التقاليد والمقولات والخطابات المنغرسة في عقول الناس والثاوية في ضمائرهم.

ويمكن القول في هذا السياق أن العنف الرمزي هو نوع من العنف الثقافي الذي يؤدي وظائف اجتماعية كبرى، ويمكن تلمسه في وضعية الهيمنة التي يمارسها أصحاب النفوذ على أتباعهم بصورة مقنّعة وخادعة، إذ يقومون بفرض مرجعياتهم الأخلاقية والفكرية على الآخرين من أتباعهم، ويولدون لديهم إحساسا عميقاً بالدونية والعطالة والشعور بالنقص ويخضعونهم لنسق من المعايير والرموز التي تؤكد دونيتهم ووضعياتهم الثانوية عبر عمليات ومشاعر النقص والضعف والافتقار إلى الجدارة والموهبة والشرف والكرامة وضعف تقدير الذات. فالهيمنة الرمزية تمثل في جوهرها عملية تطبيع الآخر على الشعور بالدونية ، وضعف الإحساس بالقيمة الذاتية، وازدراء الأنا ، كما تمثل في جوهرها عملية تمويه وتورية واختفاء ومواربة في تحقيق أهدافها وغاياتها السلطوية.

والعنف الرمزي، سواء أكان مقترنا بالعنف الفيزيائي أم لا، يولّد آلاماً كبيرة تنال العمق الأساسي للهوية وتستلبها. وهذا يتشكل بتأثير التصورات الرمزية التي تأخذ صورة نسق من المعارف والمقولات والمفاهيم والتصورات التي تحدد هوية جماعة ما مقارنة مع الجماعات الأخرى. وبالتالي فإن هذه التصورات الرمزية حول الذات التي يستبطنها الفرد رمزياً تعمل على تشكيل هويته الفردية والاجتماعية. وهذه التصورات كما أشرنا تكون نتاجا للعنف الرمزي الذي يمارس بصورة مباشرة أو عبر فعاليات ثقافية.

جروح الهوية:

تتعرض وحدة الهوية للخطر بصورة دائمة تحت تأثير عوامل الانشطار والانكماش والتجزؤ والتفكك والإحساس بالدونية، وهذا ما يطلق عليه علماء النفس قلق التفكك والانشطار (Angoisse de morcellement ) الذي يضع الفرد تحت تأثير نوبة من الشعور بالقلق والتوتر. فالفرد، رغم شعوره بوحدته وتماسكه وتفرده، ليس واحداً على مرّ الزمن، ومن ثم فإن أفعاله في وقت محدد ليست تعبيراً مؤكدا للشعور بالهوية وتأكيد الذات، وذلك عندما نأخذ بعين الاعتبار وضعيات المعاناة والإكراه التي يكابدها الفرد في التكيف مع كل حالة من حالات الوجود والاستمرار.

فالفرد يكوّن جوهر هويته ويشكلها في مختلف مراحل التنشئة الاجتماعية تحت تأثير فعالية رمزية مكثفة تنطلق من تشكيلات ثقافية سائدة في الوسط الاجتماعي الذي يعيش فيه. وهنا في هذا الحقل الرمزي ترتسم أنماط التجاوب مع التحديات في سياق درامي في مختلف المستويات الحياتية عبر أسئلة تتعلق بالهوية، مثل: من أكون؟ أو من أنا بالتحديد؟ ما معتقداتي؟ ما ولاءاتي الأساسية؟ في هذا النسق من الأسئلة يرتسم الحقل الرمزي المشكل للهوية والأنا بمعنى تأخذ الرموز دورها في تشكيل هوية الفرد والجماعة. وهذه التحديدات الرمزية الخاصة بالهوية تنطوي على رؤية شمولية يمكنها أن تتجلى وفقا لتنوع الحالات والمواقف التي يواجهها الفرد في مسار حياته الإنسانية.

لنأخذ مثالاً على تأثير الحقل الرمزي في تكوين الهوية: يمارس اسم الفرد فعالية رمزية مؤثرة، لأن الاسم غالباً ما يحدد جنس الفرد وفقا لأغلب الثقافات، كما يرمز إلى صفات ومعاني يختزنها الفرد لاشعورياً في مختلف مراحل تكونه النفسي والاجتماعي. وهذا يعني أن الاسم الدال على الجنس يرسخ رمزياً في الوعي الفردي نواة الهوية ومركزيتها. ومن المهم في هذا السياق معرفة الدور الكبير الذي يمارسه النسق الرمزي في علاقته مع التحديات التي يواجهها الفرد عبر مسارات الحياة اليومية عبر الزمن. فالفرد يرسم نفسه عبر تجاربه الحية في الحياة وعبر علامات راسخة ونقاط علام أساسية توجه مسار حياته نفسياً ورمزياً، وهنا فإن كل المعايير والدلالات التي تثبت وتقاوم الظروف الزمنية تشكل محوراً أساسياً للهوية حيث يرمز الثبات إلى انتصار الأنا والذات في مواجهة الموت والعدم.

فالفرد، عندما يريد أن يعزز شعور الهوية والإحساس بالأنا، يعمل على تزكية قيم أخلاقية مرجعية لتشكل مصدراً للسلوك والفعل لديه. وهذه القيم تُعطي سلوكه طابع المشروعية التي تؤكد وحدة الشخصية وتماسكها، ومن هنا يمكننا أن ندرك أن عملية اكتشاف الهوية وتنميتها ترتبط جوهرياً بالعقائد الدينية والفلسفية؛ كأن يكون المرء مسلماً أو مسيحياً أو عقلانياً أو ملحداً. فالإنسان كائن اجتماعي ينزع أن يكتشف نفسه بطريقة مميزة غالباً ما تكون رمزية، ووفقاً لذلك فإن الفرد يحمل في ذاته هوية الجماعة التي ينتمي إليها عبر تدفق هائل من الرموز والإشارات والمعاني التي توجد في البيئة الثقافية للجماعة التي ينتمي إليها.

لا يولد العنف الرمزي ضد الجماعات الهامشية بالضرورة من السلوك المتعمد والمقصود. وإذا كانت هناك أفعال ومقولات، تهدف بصورة متعمدة إلى ازدراء الآخر وإهانته، فهذه الأفعال والأعمال تكون من نمط آخر مختلف تماماً. فالآلام التي تتعرض لها الهوية لا تقف عند حدود احتقار الذات، إذ يمكن أن تتجاوز ذلك إلى عملية تدمير المرجعيات الأخلاقية والقيمية التي تؤكد الهوية وترسم أبعادها.

العنف الرمزي بالتبخيس:

كل تأكيد للذات في الحياة – كما يعتقد جورج ميد George Mead – يتضمن أحكاماً قيمية ضرورية، ومهما يكن الأمر، فإن الهوية تتشكل جوهرياً عبر العلاقة بالآخر، وهذا بالضرورة يقتضي تصنيفاً اجتماعياً للناس في طبقات ومراتب وفقاً لمعايير الأعلى والأدنى. فبعض الجماعات تنزع إلى إظهار معايير ومؤشرات تفوُّقها، وهذا يشكل موقفاً مكروهاً ومرفوضاً من قبل الجماعات الأخرى. فالأيديولوجيات الطبقية التي تتعلق بالطبقات الارستقراطية العليا أو النخبة أو البرجوازية أو الطبقة المتوسطة التي تحمل رسالة حضارية تصنف جميعها في هذه الفئة الاستعلائية.

فالتبخيس والازدراء وتهميش الهوية أمر صادم ومدمر، ويمثل عملية اغتصاب لقيمة إنسانية ضرورية لتوازن المجتمعات الديمقراطية القائمة على مبدأ المواطنة. ففي المجتمعات الأوروبية يوجد اليوم رفض صريح للخطاب العرقي والسلوك التعصبي والتمييز الذي يستهدف الجماعات وينال من قيمتها وشخصيتها وأركان هويتها المتعلقة بالأصل والعرق والدين والجنس. فالتبخيس والتهميش يتم عبر الإهانات والتحقير والتصغير والتشهير والتمييز وهي أفعال تمييزية تنتقص من قيمة الفرد وتدمر مرجعيات هويته الإنسانية.

لقد دأبت السياسات الاستعمارية على توظيف هذا النوع من التبخيس والتدمير الثقافي للهوية ضد الشعوب المستعمرَة، وذلك تحت ذريعة التنوير والتبشير والديمقراطية. ويمكن تصنيف تسميات: بلدان العالم الثالث، البلدان النامية، بلدان الجنوب، البلدان المتخلفة، تحت هذا العنوان التبخيسي للهوية. ومما لا شك فيه أن هذه التسميات وغيرها، التي أطلقت على الشعوب المغلوبة، تمثل أحكاما قيمية غامضة تبخيسية بذاتها، وترمز إلى تقدم المجتمعات الغربية وتفوقها.

في البلدان الغربية تتشبع السياسات الاجتماعية التي اتخذت لمساعدة الفئات المهمشة والضعيفة، مثل: العاطلين عن العمل، والمعوقين، والمهجرين، والفقراء، بأحكام قيمية مدمرة لمرتكزات الهوية الاجتماعية لهذه الفئات. فالحياة في الأحياء الفقيرة، في ظل غياب مريب للخدمات الاجتماعية، تُشكّل شاهداً على عملية تدمير مرتكزات الأنا والهوية ؛ حيث تهمل هذه الأحياء من قبل المؤسسات السياسية والإدارية عمداً، ويتعرض سكانها لعملية تبخيس دائم ومستمر، يؤدي في النهاية إلى استبطانهم الإحساس بالدونية، وفقدان القيمة الإنسانية، وعدم الأهلية.

فالنزعات: القومية، والعلمانية، والاشتراكية الثورية، والليبرالية، تمثل تيارات وقوى سياسية، عملت على نشر أيديولوجيات شمولية، ترتكز في جوهرها إلى ثقافة تعصبية مهينة، ولكنها فعالة في مجال الحياة السياسية، إذ يجد الخطاب التبخيسي في تلك الثقافة السياسية الجديدة مصادره، ويأخذ مداه، ويمارس تأثيره بقوة واضحة المعالم.

لقد أدت الحروب الأهلية في أوروبا، في القرن العشرين، إلى إيقاظ وعي عام جمعي مضاد لثقافة التبخيس والكراهية إزاء مختلف التكوينات العرقية والجماعات الهامشية والأقليات في تلك البلدان. وعلى خلاف ذلك فإن التصورات التي ترمز إلى دولة الرفاهية والتقدم والرفاه الاقتصادي قد عززت فكرة التصنيفات الغامضة التي تأخذ طابعاً لا يخلو من التبخيس المبطن الذي تعاني منه الفئات الاجتماعية المهيضة والمهمشة. ووفقاً لهذا المقياس يتم الحكم على دونية المهاجرين، الذين تدفقوا إلى أوروبا، في النصف الثاني من القرن العشرين؛ وبحكم الظروف السائدة آنذاك، وجد هؤلاء المهاجرون أنفسهم بالضرورة في وضعية تبخيس وازدراء، وشكلوا موضوعاً للكراهية والتعصب من قبل السكان الأصليين، وهذا بدوره أثر كثيراً على تدمير مكونات الهوية الثقافية لديهم.

تدمير المرجعيات الثقافية:

تأخذ الثقافة وضعية رمزية وهي في حقيقة الأمر تشكيل رمزي. ومن هذا المنطلق يعرفها سلزنك ” بأنها، أي: الثقافة، كل شيء يتم إنتاجه عن طريق الخبرة الرمزية المشتركة وله القدرة على مساندتها “([3]).

نعني بالمرجعيات الثقافية للهوية منظومة من المعايير والقيم والمشاعر الأساسية والتصورات التي تسمح للفرد بأن ينتمي إلى ذاته، ويشعر بتماسك هويته، ويأخذ وضعية محددة في العالم الذي يعيش فيه، وفق مخطط من التصورات والمشاعر والمعايير التي تتسم بالوضوح والوحدة والتكامل، وهذه التصورات، تشكل بدورها المحددات الثقافية والتربوية، التي تمكّن الفرد من أن يرسم نسقاً من الفعاليات التي تسمح له بعملية التكيف والاستمرار بوصفه وجوداً وذاتاً وهوية، في عملية تفاعله مع مختلف مثيرات وظروف الوسط البيئي الإنساني والاجتماعي والثقافي الذي يحتضنه. وهذه المرجعيات تسمح للفرد على سبيل المثال أن يقدم إجابات واضحة حول قضايا وجودية وحيوية لعلاقاته بالوسط والآخر، حيث يفرض المرء، بالاستناد إلى شروط وجوده، مخططاً واضح المعالم للحياة والوجود يحدد من خلاله مختلف المعايير التي يعتمدها في وجوده واستمراره وتكيفه؛ وتكون هذه المعايير نقاط علام بارزة في مسار التكيف والاستمرار والوجود، من مثل: ما الأشياء التي تخصني؟ وما التي تخصك أنت؟ من خصومي؟ من أعدائي؟ كيف أفرض نوعاً من الأمن الذي يتعلق بوجودي وكينونتي؟ مع من أتضامن وإلى من ألجأ ساعة الخطر؟ ما أنماط السلوك المشروعة وغير المشروعة التي يمكن أن أؤديها؟ ما الأمور المرغوبة التي يفضل أن أقوم بها؟ ما الأشياء المهمة وغير المهمة التي يجب الاهتمام بها؟ ما الأمور التي يمكن أن تثمن عالياً؟ وما تلك التي تكون هامشية؟ ما المقدس وما المدنس في الحياة؟ ما الغاية وما الوسيلة في الوجود؟ هذه الأسئلة وغيرها تشكل مسار وحدود المرجعيات الخاصة بالهوية التي تشكل نواة الوجود والهوية والإحساس بالأنا والتمايز الثقافي.

وفي هذا الخصوص يمكن القول: إن أي خلل، أو ضرر، أو تدمير، يصيب هذه المرجعيات، سيؤدي بالضرورة إلى عملية هدم للهوية ذاتها، وهذا يتم تحت تأثير مجموعة من العوامل والتأثيرات المقصودة وغير المقصودة، التي تشكل نوعاً من العنف الرمزي المدمر للهوية. فأي تبخيس واستصغار وإشعار بالدونية، وأي أحكام سلبية رمزية تباشر هذه المكونات الأساسية للهوية، يمكنها أن تشكل خطراً على مكونات الهوية ووحدتها. والأمثلة على هذا النوع من العنف الرمزي تتعدد وتتنوع بتعدد وتنوع الديناميات النفسية الاجتماعية.

ويمكن القول هنا: إن الشكل الأول للعنف الرمزي يتجلى في الخلل الذي يعتري الوسط العاطفي والانفعالي المرجعي للفرد، وهذا هو الخلل الذي أفرزته الحداثة الغربية التي عملت على هدم المرتكزات الرمزية للأديان السماوية، وهذا بدوره شكل فوضى قيمية كبيرة في مجال الإحساس بالهوية الدينية. فالمؤمنون اليوم يعيشون في عالم انقلب فيه نسق الأسباب والمسببات فحلت السببية العلمية مكان السببية الإلهية، وحلت فكرة التقدم العلمي مكان العناية الإلهية، وتركت فكرة الكمال الإلهي مكانها للأخلاق العملية وأدى هذا كله في النهاية إلى التباس الهوية واضطرابها.

فالجماعات المهمشة، ولاسيما الأقليات، تعلن رفضها لكل ضروب القهر الرمزي والأخلاقي حفاظاً على هويتها، وهي تعمل في الوقت نفسه على مهاجمة هؤلاء الذين ينتهكون قيمها وتصمهم بالخيانة والعار. وهذه الحالة الدفاعية لا تلغي مع ذلك قلق هذه الجماعات وخوفها، وقد تدفع هذه الوضعية بهذه الجماعات إلى الانغلاق العقائدي لتعزيز أفكارها وتصوراتها لدى أفرادها والمنتسبين إليها، وهي تفعل هذا وفق آلية التغذية الذاتية العفوية حفاظاً على مكونات هويتها التي تتعرض للضغط والفوضى بتأثير عوامل الصدمة مع معتقدات الآخر وأنماط وجوده. والشكل الأكثر تطرفاً لهذا النمط من العنف الرمزي يتمثل في عملية تدمير الرموز، ولاسيما الرموز الدينية تعبيراً عن رفض كل ما يتصل بالعقائد الدينية حيث يتم تدمير المقدس وانتهاكه ولاسيما في المعابد والمراكز الدينية.

ويشهد العالم المعاصر تنامي أشكال مختلفة من العنف الرمزي الذي يستهدف مرجعيات الهوية وأسسها المركزية، وهذه الأشكال ليست نوعاً من التبشير الكلاسيكي الموسوم بالعنف، الذي يفرض نفسه بقوة المؤسسات الكبرى، مثل هذا الذي مارسته الكنائس التبشيرية.

وفي النهاية يمكن القول بأن النتائج السياسية لهذا العنف الرمزي تكون على درجة عالية من القوة والتأثير، حيث يؤدي هذا العنف إلى ثقافة المتاريس، أو إلى التمترس الثقافي، كما يؤدي إلى توليد التناقضات والتوترات في مكونات الهوية، أي إلى الفوضى الأخلاقية وفقا لمفهوم “الأنومي” عند دوركهايم، إذ تكمن خطورته في دفع الجماعات المهمشة إلى استبطان مشاعر الدونية، واستصغار الأنا، وازدراء الذات، وتبخيس الهوية، كما يؤدي أحياناً إلى توليد مشاعر النقمة واللجوء إلى العنف عبر التماهي بسلوك المتسلط أو الجلاد. ومن المؤكد أن العنف الرمزي يؤدي إلى تعزيز وتوليد العنف الفيزيائي، وهو عنف يؤدي إلى تجاوز الحصانة القانونية والمعايير الأخلاقية التي تعمل على حماية الجماعات القوية أو المهيمينة ([4]).

الطاقة الاستلابية للعنف الرمزي:

يشترك الضحايا والجلادين في التصورات الاستلابية نفسها عن العالم ويؤمنون معا بكل المقولات والمفاهيم والتصورات التي تضع الإنسان في أقفاص المذلة والمهانة والاستلاب. ونحن عندما نتأمل في الأفكار الاستلابية ضد الفئات المهمشة نجدها خرقاء عمياء جوفاء في جوهرها ومضمونها حيث لا تؤيدها الحجج العقلية ولا يرأبها المنطق الذكي. فالعنف الرمزي أشد أنواع العنف الاستلابي الموجه ضد الإنسان خطورة وفتكا وهو نوع من العنف الثقافي الذي تشكل عبر مئات السنين من تاريخ الإنسانية.

وفي مجتمعاتنا العربية يُشكّل الإنسان موضوعاً للعنف الرمزي في الممارسات الثقافية والتربوية السائدة في حياتنا الاجتماعية، ويتميز هذا العنف بقدرته الهائلة على التخفي وراء الرموز والدلالات والمعاني كما يتميز بقدرته على التغلغل العفوي في الوعي على صورة عدوانية مضمرة ضد المرأة والطفل والفئات الهامشية. ويتجلى العنف الرمزي ضد الفئات الاجتماعية المهمشة في نسق من متدفق الإشارات والدلالات والرموز السلبية التي تستلب الإنسان وتحاصره دون أن تأخذ هذه المعاني والرموز صورة واضحة صريحة بشحنتها العدوانية التي تضع الإنسان المهمش في قفص الاتهام الرمزي.

ولو أخذنا الاستلاب الرمزي المُوجه ضد المرأة على سبيل المثال لا الحصر لوجدناً نسقاً رمزياً بفيض لا حدود له من الصفات والسمات السلبية التي تأخذ المرأة إلى مرابض التوحش والجريمة والغواية تحت عنوان الطبيعة الشريرة للمرأة. فالمرأة وفقاً لهذا النسق تتصف بالخبث والكذب والسحر والفتنة والعار والغطرسة والخفة وضعف العقل والخيلاء والغواية والشيطنة حيث هي باختصار مصدر كل شر وفساد وبلية وشكوى تحلّ بالإنسان بالمجتمع.

يتميز العنف الرمزي في ثقافتنا بقدرته على التخفي والانسياب في العقل دون أن يشعر ضحاياه بهذه القوة التي تخضعهم أو تستلبهم. فهو أشبه بالتيارات البحرية التي تأخذك إلى أعماق البحار وأنت ما زلت تعتقد أنك في المكان الذي كنت فيه لم تغادره. فالعنف الرمزي قوة تتغلغل فينا وتبرمجنا بصورة لاواعية فتجعلنا وكأننا نخضع لأنفسنا وليس لقوة خارجية اخترقت جدار وعينا واستقرت في عقولنا الباطنية. باختصار إننا نستبطن رموز هذا العنف بطريقة تبدو لنا وكأنها قيماً كبرى يجب أن نتبناها وندافع عنها، وخير مثال على ذلك دفاع العبد عن سيده ، والضحية عن مفترسها، والمرأة عن رجلها الذي يمتهن كرامتها، لأن العنف بطاقته الرمزية تغلغل في أعماقنا واستقر في عقلنا الباطن، فأخذ يبرمجنا من الداخل من العمق، مع أنه في الجوهر نابع من مصادر خارجية. باختصار إنه أشبه بالأفيون الذي يُسيطر على ضحاياه ويُدمرهم من الداخل دون يشعروا به، وصاحب العنف الرمزي أي من يُروج له ويصنعه أشبه بمروج المخدرات الذي ما أن يدفع ضحاياه لتذوقه حتى يصبح قوة داخلية تسيطر عليهم وتدمرهم إلى حين.

والمرأة من أكثر الفئات الاجتماعية تأثراً بالعنف الرمزي الذي تتشبع برموزه وسمومه في مراحل طفولتها ونشأتها وشبابها حتى تصبح أكثر الفئات الاجتماعية إحساساً بالدونية واقتناعاً بها فهي أكثر من يؤمن بطبيعتها الشريرة المزعومة وأكثر إيماناً بأنها دون الرجل وأكثر اندفاعاً في مهاجمة حقوقها ومهاجمة الرجل الذي يدعو إلى تحريرها.

وهذه التصورات ليست حكراً على عالم الرجال بل تحتل مكانها في عقل المرأة ووعيها وهذا يمثل قمة الاغتراب وغابة الاستلاب الإنساني. فالمرأة بذاتها تُدرك هذه التصورات وتتمثلها في كثير من الأوقات حتى أنها تجد مبرراً لخطاياها وعيوبها تحت عنوان ضعف المرأة وغوايتها وقابليتها للإغواء.

فالمرأة تخضع لنوع من الاستلاب الرمزي الذي يُفرّغها من مضمونها الإنساني ويحرمها من امتيازاتها الأخلاقية والاجتماعية، وما يجري على المرأة في تعرضها للاستلاب الرمزي يجري على الفئات الهامشية الدنيا في المجتمع، مثل الأطفال، والجماعات العرقية، والطبقات الاجتماعية الدنيا مقارنة بالطبقات العليا والوسطى.

خلاصة:

يقول المفكر الفرنسي بول ريكو Paul Ricœur إن ” العنف الرمزي يتجه في مساره، بوضوح أو بغموض، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، إلى السيطرة على الآخر والهيمنة على مقدرات وجوده ([5]). فكل عنف وفقا لتصور ريكو هو اعتداء على إنسانية الآخر، وبالتالي فإن أي عنف يشكل عملية ضرر وأذى موجه ضد الآخر، وهذا يتضمن رفض الاعتراف بوجود الآخر وإنسانيته أيضاً.

فالرغبة في إقصاء الخصم وإبعاده إلى دائرة الصمت، ومن ثم العمل على إلغائه تتحول إلى إرادة طاغية تتجاوز حدود الرغبة في المصالحة معه وبناء التوازن. وهنا تتعدد أشكال العنف وصيغه التي تبدأ بالإهانة والاحتقار والإذلال لتصل عبر التعذيب إلى الموت والإفناء. ووفقاً لهذه الوضعية يمكن القول إن النيل من كرامة الإنسان والطعن في أهليته الإنسانية يشكل طعناً في وجوده وكينونته، ونيلاً من حريته وكرامته. ولذا فإن فرض الصمت على الآخر هو صيغة من صيغ العنف، كما أن حرمان الإنسان من حرية الكلام، يعني حرمانه من حق الحياة نفسها. فالظلم الذي يحيق بالإنسان ضمن شروط اغترابية، تتمثل في الإقصاء والقهر، يشكل وضعية عنف مجسد ومجسم. فالعنف هنا لا يمثل كياناً ذاتياً قائما بذاته، بل يوجد في وسط اجتماعي محدد، حيث يتخذ هيئته وصورته بين الناس والبشر وخارجهم أيضاً، ومع ذلك فإن الإنسان يبقى في النهاية المسؤول عن حضور العنف وممارساته المختلفة.

والعنف الرمزي كما يرى سيمون وايل Simone Weil هو الفعل الذي يقوم به شخص ما لإخضاع الآخر وإفنائه، ولذا فإن ممارسة العنف حتى الحد الأقصى، تجعل من الإنسان مجرد شيء بالمعنى الدقيق للكلمة، ومثل هذا العنف القاتل يأخذ صيغاً متنوعة فيما يتعلق بإجراءاته وأدواته ونتائجه.

وإذ يقال اليوم إن العنف هو إساءة استخدام القوة والإفراط في توظيفها، فإنه لا غبار في القول: إن العنف يفوق ذلك ويتجاوزه؛ فالعنف بذاته أمر فظيع لأنه حالة اغتصاب لجسد الآخر وعقله ونفسه وكينونته الإنسانية. فكل عنف هو تعسف وفظاظة وتدمير وقهر، لأنه ينال من الإنسان ويستهدف كيانه الإنساني ويخترقه بالألم والمعاناة، كما يجرح ويدمي ويقتل الشخص الذي يقع ضحية له.

ومن المفارقة بمكان أن الإنسان الذي يقع ضحية العنف يصبح هو نفسه قادراً على ممارسة العنف ضد الآخرين. والإنسان عندما يفكر في نفسه ويتأمل في ذاته غالباً ما يكتشف صورة العنف في أعماقه. والعنف لا يقتل الخصم فحسب بل يؤدي في نهاية الأمر إلى تدمير إنسانية الذي يمارسه في جوهر الأمر. أن يضرب المرء، أو أن يُضرب، أن يَعتدي أو يُعتدى عليه، فهذا يعني ارتكاب الخطيئة والخروج عن الصراط المستقيم. وفي أي حال من الأحوال فإن ممارسة العنف أو الخضوع له عملية تحول الإنسان إلى حالة التشيؤ وتدفعه إلى دائرة الاغتراب.

وينزع العنف الرمزي إلى توليد حالة من الإذعان والخضوع عند الآخر بفرضه لنظام من الأفكار والمعتقدات الاجتماعية التي غالباً ما تصدر عن قوى اجتماعية وطبقية متمركزة في موقع الهيمنة والسيادة، ويهدف هذا النوع من العنف إلى توليد معتقدات وأيديولوجيات محددة وترسيخها في عقول وأذهان الذين يتعرضون لهذا النوع من العنف. فالعنف الرمزي ينطلق من نظرية إنتاج المعتقدات، وإنتاج الخطاب الثقافي، وإنتاج القيم، ومن ثم إنتاج هيئة من المؤهلين الذين يمتازون بقدرتهم على ممارسة التقييم والتطبيع الثقافي في وضعيات الخطاب التي تمكنهم من السيطرة ثقافيا وإيديولوجيا على الآخر وتطبيعه.

والعنف الرمزي وفقاً لذلك هو القدرة على بناء المعطيات الفكرية بالإعلان عنها وترسيخها، كما أنه القدرة على تغيير الأوضاع الاجتماعية والثقافية عبر عملية التأثير في المعتقدات وتغيير مقاصدها، وبناء تصورات أيديولوجية عن العالم تتوافق مع إرادة الهيمنة والسيطرة التي تقررها الحاجات السياسية لطبقة اجتماعية بعينها،

فالعنف الرمزي تعبير عن حضور رأس مال رمزي يتجلى في صورة عناصر ثقافية (قيم، تصورات، أفكار، معتقدات، مقولات، إشارات، ورموز…الخ)، وبالتالي فإن رأس المال الثقافي ينزع إلى امتلاك السلطة الثقافية – أي المشروعية في الحضور والممارسة- وهذا يعني أن ممارسة العنف الرمزي مرهونة بوجود رأسمال رمزي، وبالتالي فإن هذا الرأسمال يُتوّج بسلطة رمزية تعبر عن مشروعيته، والمشروعية تعني هنا قبول هذه السلطة على أنها مشروعة وحقيقية من قبل هؤلاء الذين تمارس عليهم ([6]).

* بروفسور سوري في جامعة الكويت

www.watfa.net المصدر 

…………………………………………….

[1]Pierre Bourdieu, Jean-Claude Passeron, Les héritiers. Les étudiants et la culture (1964), Paris, Minuit, 1985 ; La reproduction. Éléments pour une théorie du système d’enseignement (1970), Paris, Minuit, 1973 ; P. Bourdieu, La distinction. Critique sociale du jugement (1979), Paris, Minuit, 1996 ; La domination masculine, Paris, Le Seuil, 1998.

[2] P. Bourdieu, Le sens pratique, Paris, Minuit, 1980, p. 219.

[3] – سعد جلال، علم النفس الاجتماعي، الاتجاهات التطبيقية المعاصرة، الإسكندرية، 1984. ص 29.

[4]Ph. Braud, « Violence symbolique, violence physique. Éléments de problématisation », dans Jean Hannoyer (dir.), Guerres civiles. Économies de la violence, dimensions de la civilité, Paris, Karthala-Cermoc, 1999, p. 33-45.

[5]Paul Ricœur, Histoire et vérité, Paris, Le Seuil, 1955, p. 227.

[6]- Pierre Bourdieu Réponses. Pour une anthropologie réflexive, Seuil, Paris, 1992 , p.123.