-4-
كانت ناعورة حماه الكبيرة تصدر صوتها الشجي ( الخالد)! و برغم قوة صوتها لم تستطع أن تغطي على غناء سعيد الحسواني الذي جلس بين أصحابه من الشباب يحتسون العرق البلدي، و يشوون اللحم على المنقل ، و يعدون السلطة بالشطة التي يعشقونها !.. و بينما كان الحسواني يلعن أبو الشنينة كما تقول الأغنية :
حطوني للغنم راعي يابا … و يلعن أبو الشنينة
و حطوني للغنم راعي يابا .. و قضبوني العاصاية
و حرموني قعود البيت يابا … و قابل الصبايا
و ميلي و ميلي … يا جميلة
كان الكل يلبس جلابية الجمعة البيضاء، و يستعد بعد أن يثمل رأسه للقفز من فوق الناعورة . فإن لم تكن قد قفزت يوماً هذه القفزة في عاصي حماة، فالشك في حمويتك أمر جائز .
قفز الجميع واحداً تلو الآخر ، بالجلابية البيضاء ، و كل واحد كان يصيح صيحته المفضلة أثناء القفز … كان القفز ممتعاً في جو الصيف ، و كان العاصي حلواً مثل الجنة .
وحده نجدت ( الصائغ) كان يغب العرق بكثرة، و يفكر في صفعة أبيه على وجهه ذاك اليوم ، فلا يهنأ باله مع رفاقه، في الاستمتاع بذاك اليوم .
-قوم ولاه نجدت انتي ما نطيت النطة شو خايف
– تركني بحالي
– لك أوووووم هوي كف يا زلمة و علم على خدك
و ما إن نطق سعيد الحسواني جملته الأخيرة، حتى بدأ عراك فظيع بينه و بين نجدت أبو سختور .. ووقع كلاهما على الأرض كذئبين جائعين ، و لكن السكر و الخدر حول خناقة الشابين إلى طوشة كبرى بين الجميع ! .
-عم تتمسخرني يا كلب أنا بفرجيك
– عم تضرب غدر يا واطي
– والله ………….. شرفك
– ……………………….
تلك الخناقة المفاجئة كانت كفيلة بتحويل يوم عطلة الشباب الجميلة إلى طين وكدمات على الوجه ، و شتائم ! و توعد من نجدت بتربية سعيد ! .
و عندما عاد الشباب إلى الحارة حرصوا على التأخر حتى يحل الظلام، حتى لا يرى الجيران منظر الطين و البهدلة التي علقت على كل منهم، كان البعض منهم يضحك و يقفل يعتبر العركة جميلة ، و جزء مميز من حفلة النهار !
-شفت ولا حمادي كيف شلفتك بالعاصي
– اي شفت الله يلعنك شو دب
– شباب الكل معزوم عند سلورة بكرة حلاوة الصلحة
قال نجدت :
– اذا جاي سعيد ما بجي
-5-
حضر توفيق اجتماع الحزب الاشتراكي العربي ذاك اليوم ، و كانت قضية اندماجه مع حزب البعث، موضوع الاجتماع !
لم يكن الأستاذ أكرم في حماة حينها، لكن الحضور في مكتب الحزب كان كثيفاً و قوياً و أغلبهم كان من ريف حماة ! .
وقف توفيق بعد كلام رئيس الجلسة قائلاً :
-رفاق بدي احكي موضوع شهادة حق و لوجه الله ، أنا اليوم تعرضت لظلم و الي رفع عني الظلم هو الشيخ محمود الشقفة، و مو بس هيك و عطاني مفتاح المنزول الله يطول عمره .. و نحنا هون منقول الرجعية و الرجعية .. يا رفيق بدي اعرف أنا هل مثلاً الشيخ محمود من الرجعية ؟
علق أحد الرفاق :
-بظن هاد موضوع جانبي
قال رئيس الاجتماع :
– لا مطلقاً الموضوع مو جانبي ، بل أساسي في عملنا و نضالنا ! يا رفيق توفيق لما منحكي عن الرجعية منقصد القوى الي بدها تمنع مشروعنا الكبير ، مشروعنا الوحدوي و الاشتراكي ، يعني تمنع العدل بين الناس و تفضل وحدة اسلامية بدل الوحدة العربية ، و نحنا شفنا الاتراك شو عملوا فينا لما قبلنا الوحدة الاسلامية !
الشيخ محمود رجل مقدر و محترم و كريم ، و نحن كحزب منحترمه .
-6-
في حوش الدار جلس العسكري السابق عيدو و قد تحلق حوله أصحابه و جيرانه و هو يروي لهم أيام خدمته في جيش الشرق !
-مرة يا محترمين كنا جوعانين و أفي أكل ، قام الكومندان الفرنسي جاب فلوكا
(مركب) و عطانا شبكة صيد و عطانا أمر نصيد سمك ! و أنا أبعرف صيد بالشبكة بس تعلمت .
-اي
– رحنا يا مرحوم البي ورا أرواد بكتير ، غمقنا و عاد نعرف نرجع !!؟
بس كان معنا بوصلة و الفلوكا بالكاز يعني بموتير ( موتور) و كنا ستة كلين سنغال و أنا .. و طلعوا هالسنغال صيادة ، و عبينا الفلوكا سمك .
– اي
– والله ما تحملت من الجوع و كلت سمك ني
– ني ؟؟!
– اي بيشرفي
– كيف … معقولة ؟
– حط السمكة بتمي و اجرما جرم من جوعي
– بي حضي ماني هلق مستغرب كيف بتزت خمس زلم ع الأرض، بس قلي لشو كنت بدك تطلع بالسفينة الفرنسية، لما راحو من سورية ؟
– ( يصمت بحزن) ولك ولاه انت وياه أنا سوري أكتر منكين، بس كلكين بيعرف إني يتيم ، و تربيت ع خبز الناشف .. و أول مرة بحياتي بحس إني شبعت لما صرت أعرف قول :
Viande et pain ، Une pomme، manger
– يعني أكل و يعني تفاح و يعني لحم و خبز
– هلق مشان هدول بتترك سورية ؟
-ولك كلب
صاح به و صفعه على وجهه، فقلبه مع كرسيه ثلاث مرات .
-أنا ما بترك سورية ولاك ! أنا طلعت بالسفينة مع السولجية رفقاتي بس لما طلعت وراي ع طرطوس رميت حالي من السفينة و رجعت سباحة ولاااك .
-7-
في مقر المخابرات في حمص جلس الشابان أمام المحقق، الذي نظر إليهما بغضب ، و صاح :
-ولاك زعران أنتو ضد الزعيم الشيشكلي ؟
– ( بخوف) لا سيدنا ، نحنا ما ضدو نحنا ضد صبري
– صبري شو دخلوا ؟
– سيدنا صبري هو المشكلة ، لهيك نحنا ما غيرنا شي باللافتة بس غيرنا اسم صبري !
– و شو صار اسم صبري ؟
– ……… ( يسكتان)
أما صبري نفسه الذي كان معهما في غرفة التحقيق قال :
-سيدنا جبتلكن اللافتة كلها و أنتو شفتو شو عملو بالاسم
كان المحقق يضحك في سره ، و لكنه لم يستطع التغلب على نفسه و كتمان الضحكة فصاح :
-عملوك ( قفا ) !!
– عم تضحك سيدنا
– اي روح طلاع من الغرفة خليني كمل التحقيق
خرج صبري و بقي المحقق مع الشابين المراهقين :
-شباب أنا بعرفكن منيح، و بعرف شو عم تعلموا، هلق رح اكتب المحضر و اطلق سراحكم، بس تاني مرة انتبهوا …. الرفيق عبدالبرعيون السود حكى معي و أنا رح دبر القصة، أنا خالد العمر عضو بحزب البعث العربي .. قوموا فلوا ع بيوتكن .
ثم صاح :
-يا صبري .. يا صبري
– نعم سيدنا
– روح جيب دهان أبيض و رجع الاسم متل ما كان ، هدول ولاد عم يلعبوا !
-8-
في تلك الفترة قدم إلى السفارة الهولندية في دمشق استاذ آثار من جامعة آمسترادم، حيث عين في الملحقية الثقافية . كان ( يوهان فان ديمان) و هو اسمه يعرف العربية جيداً، و يحب عمله في البحث عن تاريخ الشرق، إلا أن مشاهداته و حبه للمجتمع السوري و كرم السوريين، جعلاه يبدأ بكتابة يومياته . كان يسجل كل صغيرة و كبيرة فحتى الحوادث أو الحورات التي تحصل بينه و بين البائعين الذين يعرفون على الفور أنه أجنبي من وجهه شديد البياض و عينيه الزرقاوين و شعره الأشقر، و لباسه ..
كتب ديمان :
بعد الانقلاب العسكري الأول عام 1949م الذي قام به الأمريكان كما تشير كل الوقائع ، ثم عدلوه بانقلاب آخر لأن حسني الزعيم شاغب عليهم، برغم مساعدتهم له ، صار الجيش السوري أهم مؤسسة في البلد . و على ما يبدو فإنه سيبقى كذلك لفترة طويلة ، فالبرلمان يبدو هشاً و أعضاؤه يستقوون بالضباط على بعضهم البعض، و لا تبدو العملية الديموقراطية مستقرة، حيث يحلم كل ضابط بالحكم .
بالنسبة لي أسعد للغاية بالتجول في حارات دمشق القديمة، و تناول الطعام السوري، إلا أنني شعرت منذ أيام بتلبك معوي فظيع اضطرني لأخذ إجازة من السفارة، حيث كذبت على السفير بأنني أعاني من الزكام و ارتفاع الحرارة، و كل القصة هي أنني كنت نهماً و أكلت كالمفجوع عندما دعاني، أحد تجار الشام على مأدبة غداء في بيته و أطعمني أكلة ( الأبوات )، ثم وضع على الطاولة صدراً كاملاً من الحلويات مع أننا كنا وحدنا أنا و إياه على الطاولة، و هو يقول : أطيب نابلسية كول خواجة كول ! . ثم داومت في شقتي أعاني من الاسهال و أقضي حاجتي البيولوجية نهاراً كاملاً .
يتبع
ملاحظة : أي تشابه أو تطابق في الأسماء مع الواقع جاء بمحض الصدفة ، و الأحداث التي تجري صنعها الكاتب بناء على الواقع و محاكاة له ، إنما الأسماء لا تعني أبداً انها حقيقية .