°
, March 19, 2024 in
آخر الأخبار
قضايا

إنقلاب خميني وفكر ياسين الحافظ بعد أربعين عاماً – خليل عيسى .*

  1. توفي المفكر والمناضل ياسين الحافظ في منزله في بيروت يوم 27 تشرين الأول من عام 1978. قبل أكثر من أسبوعين من ذلك اليوم وصل خميني الى فرنسا قادمًا من العراق. كان العراق الذي قبل بوجود المعمم الايراني في النجف مدة ثلاثة عشرة سنة مضت قد طلب منه أخيرًا إمّا التوقّف عن نشاطه السياسي وإما مغادرة البلاد، مما دفع بخميني ومعاونيْه أبو الحسن بني صدر وصادق قطب زاده بأن يستأجروا منزلا ريفيا واسعًا في مقاطعة “نوفل لو شاتو” البعيدة مسافة ساعة بالسيارة عن باريس. منذ ذلك اليوم افتتن الاعلام الغربي بالمعمّم “الغامض” الذي سمّاه أحد الصحفيين الفرنسيين “آية الله حريّة”، والذي عندما سأله صحافي آخر “ما هي الجمهورية الاسلامية؟” أجابه:”هي ستكون مثل الجمهورية الفرنسية”. حينها كان ياسين الحافظ بجسده المحموم قد وصل المرحلة النهائية من صراعه مع مرض السرطان يعبّر عن رأيٍ سيfرهن الزمن عن نبؤيته المبكرة، قائلا “سنشهد آخر ما تبقى من الديموقراطية في ايران”.
  2. لم يكن هذا الجانب الالمعي من القدرة على تحليل اللحظة الراهنة غريبًا على ياسين الحافظ، فهو حتمًأ كان اوّل مفكّر عربي يلتقط بشكل مبكّر شتى أصناف المزايدات السياسية التي استخدمت القضية الفلسطين ليفضحها بلا هوادة. فقد هاجم الحافظ بعمر 32  عاما مواقف أكرم حوراني المعادية لدولة الوحدة المصرية-السورية عام 1962 بمقال طويل اشتهر في سوريا حينها بعنوان هو “قضية فلسطين بين الثرثرة الديماغوجية والواقعية الثورية”. فقد أذنت مقالة الحافظ التي انتهت بجملة “ليت الحوراني قد جعل من عبد الناصر وقودًا لتلمّس طريق جدي وثوري لإنقاذ فلسطين، ولكننا نلمس أنه يريد أن يجعل من قضية فلسطين وقودًا لإحراق عبد الناصر” ببروز أفكارٍ ستتكرر كثيرا بين يساريين، احزابا ومنظرين، مشرقيين خصوصا، تلخّصت في المزايدة على عبد الناصر، ثم في مرحلة لاحقة في المزايدة فيما بينهم كلّ في ادّعائه انّه يمثل “الطريق (الاقصر) الى فلسطين”.
  3. تكرّرت البراهين على نبوغ الحافظ بعد مجيئه الى لبنان، فكان أوّل من فنّد نظريات “اليسار الجديد” من قبيل المقولات الاقتصادوية التي راجت حينها عند “منظمة العمل الشيوعي” (محسن ابراهيم، فواز طرابلسي، وضّاح شرارة) في تنظيرها للحرب الاهلية على انها عبارة عن “حرب طبقية ضد أصحاب ذوي الامتيازات”، كما كان أوّل من هدم الهذر السياسوي حول “حرب قومية عربية ضد الانعزالية” الذي راج عند الحزب التقدمي الاشتراكي برئيسه كمال جنبلاط. بيّن ياسين الحافظ أن الحرب اللبنانية لم تكن “تقدميّة ضد اقلية محافظة” أو “دفاعية على الدوام” ولا “على الدوام مفروضة من قبل الموارنة” بل انها كانت “حربا طائفية فحسب. حرب بين كُسري أمة، دمرت لبنان، أدمت الفلسطنيين وخلقت حقداً لا ينضب من المسيحيين على الفلسطينيين”.
  4. لكل هذه الاسباب استشعر الحافظ الذي نافح طوال الوقت ضد محاولات الكثير من الاديولوجيات اليسارية استخدامها الاداتي المبتذل للقضية الفلسطينية، منسوب المزايدة الخمينية تحت شعار “الجمهورية الاسلامية” الصاعد الذي لم يكن ليمرّ امامه مرور الكرام ولو قبل اسبوعين من وفاته. وهو لا شكّ كان قد تبيّن إرهاصات عملية التوريث الشعاراتية المتلطية بفلسطين- التي انحسرت بعدها بالقدس ثم “الاقصى”- بطريقة أداتية ركوبًا على جناح شعارات عالمثالثية أممية يسارية وبوعي لبناني-فلسطيني اقليموي، وصولا الى تحليقها على جناح ايران خميني بشعارات تحمل اديولوجيا “الامة الاسلامية” تحت قناع “الخصوصية”.
    في لبنان اتى “انقلاب خميني” بحزب الله، و”انقلاب” الكلمة الفارسية المرادفة لتسمية الثورة لهي ابلغ تعبير عما حصل في ايران من كلمة “ثورة” التي عادة ما تُستخدم، خصوصا بعد الانقلاب الدموي الذي قام به خميني على مختلف الاحزاب اليسارية والليبرالية التي شاركت في الثورة على الشاه وتصفيتها. بقي للبعض القول بعد عام 2006 بأنّ “حزب الله” بأسلحته الحديثة هو برهان على قدوم العقلانية التي نظّر لها الحافظ خصوصا عند تحليله مجريات حرب تشرين 1973، لكن هؤلاء نسوا ان الحافظ كتب بوضوح أن العرب يخطئون إذ يختزلون الحداثة بالتقنية وشدّد على “كونها مسألة وعي كوني مرتبط بفهم المسألة القومية فهما صحيحا”. لذا فإنّ مركزية المسألة القومية عند الحافظ تجعله ولو بعد أربعين عامًا ركنًا اساسيا من أية محاولة تحليلية تقارب حزبا طائفيا مثل “حزب الله” معادٍ ذاتيا وموضوعيا للشعوب العربية، وهو الحزب الذي أوصل فنّ استغلال القضية الفلسطينية الى درجة جعلها “مركزية” في عملية اقليمية هدفها إحراق العرب قاطبة.
  5. بعد أربعين عاماً من وفاته يبرهن ياسين الحافظ من دير الزور السورية والذي عاش بين دمشق ولبنان واصلاً، بين سوريته وبين كونية فكره على جسر تجربته اللبنانية من بين أشياء أخرى، على عمق الهوّة الفكرية والجدية السياسية بينه وبين معاصريه من القادة الحزبيين والمنظرين. ويمكننا أن نجاسر بزعم أنّ ياسين الحافظ ربما يكون المفكّر العربي الوحيد خلال القرن العشرين الذي تساوى عطاؤه الثاقب النظري الذي يعنى بالتحليل التاريخي والاجتماعي للنخب العربية مع قدرته الفذّة على سبر غور اللحظة السياسية الراهنة. وهو حتما الوحيد الذي استطاع أن يرى مآلات “انقلاب خميني” قبل كلّ المثقفين العرب من خلال برودته التحليلية وابتعاده عن صفّ الكلام الشعاراتي، “الكلامولوجيا” كما أسماها، والتي كلها ترافقت مع جدّيته المسؤولة ونزاهته الاخلاقية الشخصية في العمل السياسي. كل هذا لتجعل فكره وكتاباته راهنة من اجل التفكير وتحليل الاديولوجيا الخيمينية التي تخنرق المجتمعات العربية وتساهم بتخثّرها.

*

باحث وصحافي من لبنان