بدأ العد التنازلي لأيامي، وبدأت آلامي وكذلك أحزاني وذكرياتي تستعد معي للرحيل. أيام ويأتي يوم الرحيل! أيامي في هذه الحياة باتت معدودة. يقولون إن الرحيل مؤلم ولكنني أنتظره بشغف وترقب، فالآلام التي أكابدها لن تقارن بألم الرحيل. مستلقية على سريري أطارد نوما” هرب من مقلتي بلا عودة منذ أيام
يبدو انه رحل أيضاَ ولن يعود!
ليلٌ طويل مظلم يصر حزنه على ملاعبتي ومداعبتي ومناداتي، بينما خطوات الألم المتعثرة لا تكاد ترى من خلف ضبابية الدموع، دموع الحزن النازفة لوجع صارخ ينسج لروحي رداء المعاناة.ليل بهيم، نجومه ذابلة، لا يرى فيه إلا بريق الدم، وحزن مقيم انتقل من صحراء الهموم إلى صحراء التعاسة.
خطى يوم جديد تعلن قدومه تراتيل صلاة الفجر القادمة من المآذن الأربع لمسجد التوحيد في حينا، أصوات المؤذن تدخل الغرفة دون استئذان، تحتضنها كما اعتادت جدران هذا المنزل، وتتناغم مع الأحزان والآلام رفاقي الدائمين في سنواتي الأخيرة.
أصوات مألوفة ليست غريبة على مسامع هذه الجدران، كأصوات البائعة المتجولين أو كأصوات أبواق السيارات. ولكنها ليست كأصوات الطائرات والمدافع والقذائف وزخات طلقات الرصاص والتي باتت مؤخرا زائراَ يومياَ مزعجاَ يقض المضاجع ويطرق الأسماع بضجيجه، وبما تحمله من موت ودمار وتشرد.
ومع كل هذا الضجيج فإننا نحيا هنا في حلب المنكوبة حياة الصمت والشرود والذهول والحزن ونكران كل ما نسمعه ونراه. كل شيء أصبح لا لون له ولا طعم ولا رائحة إلا رائحة الموت وطعم القهر ولون المعاناة.
الأشياء حولنا لم تعد تشبهنا في مدينة هجرها أهلها فباتت تصلح لعيش الأغنام والخنازير. مدينة أدمنت الموت!
أحاسيس اليأس والعجز تتحكم بحياتنا بدلا من أن نتحكم بها، حتى الأحاسيس باتت نقمة في هذا الزمن الموبوء.
صباح يجدد الحزن في شراييني المقهورة، وينشر الضوء في كل مكان إلا في نفسي، فالعتمة باتت تسكنني.
بدء يوم جديد لحياة رتيبة أمضيها بمفردي يزينها وجود “دينا” جارتي الحميمة أحيانا والمزاجية دائما وابنها “ورد “كوردة في صحراء حلب، وبين الفينة والفينة صوت أخي الروماني” مازن” يعيدني إلى ذكريات الطفولة وأيام السلم والرغبة في الحياة، حين يخبرني عن حلمه بالعودة وانتهاء الأزمة، ويبشرني بعودة الإنسانية والضمير إلى بني البشر، وشوقه للقائي واسترجاع ذكريات طفولتنا.
أحلامه بسيطة ولكنها مستحيلة، إلى أين سيعود؟ فقد اختفى شاطئ الأمان، وتلاشى الأمل في عودة الوطن وعودته إليه .